تحديات كثيرة واجهت المسيرة السياسية للاتحاد الأوروبي، لعل أخطرها ما كان من الداخل، من الدول الأعضاء أو أحزاب سياسية فيها، وجاءت هذه التهديدات على شكل رفض لصيغة الاتحاد أو فكرة الانضواء تحت إطاره، وأهمها جاء من القوة "العظمى" التي باتت جزءاً من التاريخ، ممثلة بالمملكة المتحدة، بريطانيا تحديداً، التي نأت بنفسها أولاً عن أهم اتفاقيتين مؤسستين للاتحاد، اتفاقية العملة الموحدة "اليورو"، واتفاقية التأشيرات الموحدة "شنغين"، لا لدواعٍ متعلقة بحفاظها على الحياد، مثل سويسرا مثلاً، كونها لم ولن تكون يوماً محايدة، ولا رغبة بتمايز في الموقف .
الواقع أن الدافع وراء هذا السلوك، هو الرغبة في العزلة من جهة، ومحاولة الإيحاء بأن بريطانيا ما زالت قوة دولية وازنة، العامل الأول فيه شيء من الحقيقة، أما الثاني فإنه مجرد دعاية لا أساس لها، إذ بات معروفاً حجم هذه القوة ومدى تأثيرها سياسياً في المستوى العالمي .
إذاً ماذا عن الاتحاد الأوروبي، الذي تلقى مفاجأة في دوله الكبرى بريطانيا وفرنسا، بتصدر حزبين رافضين للاتحاد مبدأ نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، حزب استقلال المملكة المتحدة الذي جاء في المرتبة الأولى في مستوى تأييد الناخبين البريطانيين، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرف الذي حاز أغلبية من الناخبين الفرنسيين؟
البرلمان الأوروبي يوشك على التحول إلى ملتقى لرافضي الاتحاد، وبالتالي فإن هذا الأخير هو من تلقى الهزيمة الحقيقية، رغم ما عنته على مستوى وطني لحزب المحافظين الحاكم في بريطانيا الذي تخلف حاصلاً على المرتبة الثالثة في الانتخابات، والحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا، الذي تلقى ضربة مزلزلة وحل ثالثاً أيضاً على مستوى بلاده .
تقدم الأحزاب الشعبوية والمتطرفة على حساب الليبراليين والاشتراكيين وغيرهم من "سدنة" الاتحاد وأشد المدافعين عنه، يبرز توجهاً متصاعداً للناخب الأوروبي لوضع حد لمسيرة لم يعد مقتنعاً بجدواها، ومع أن المستقبل القريب يفترض تثبيت قواعد التحالفات والتكتلات الدولية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود تيارات سياسية تتبنى العزلة وتتمرد على الأطر الجامعة، ولها على الأرض تأييد، إما لأبعاد سياسية، أو لأسباب داخلية محضة .
الضربة التي تلقاها الاتحاد من خلال هذه الانتخابات لم تأت فجأة ولم تكن وليدة صدفة محضة، بل جاءت استكمالاً طبيعياً للخط البياني المتصاعد الذي اتخذته مستويات تأييد الأحزاب الداعية للخروج من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في المملكة المتحدة، إذ شهدت الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي عام ،2009 مؤشراً بالغ الخطورة على هذا التوجه، حين حصل حزب استقلال المملكة المتحدة على 13 مقعداً في البرلمان الأوروبي، وتخطى حزب العمال الحاكم حينذاك بحصوله على 5 .16% من الأصوات، مقابل تخلف الأخير عنه بنسبة 4 .0% .
لكن هذا لم يكن كافياً لإيقاظ الحزبين البريطانيين الكبيرين، العمال والمحافظين، ما جعل من حزب المحافظين الحاكم حالياً الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات بحلوله ثالثاً للمرة الأولى في تاريخه، وحصول الحزب الساعي للانسحاب من الاتحاد الأوروبي على قرابة ثلث أصوات الناخبين، بينما حظي نظيره اليميني الفرنسي بتأييد ربع الناخبين .
الخاسر الأكبر بالتأكيد هو الاتحاد الأوروبي الذي بات مجبراً على التعاطي مع نسبة كبيرة من معارضي الاستمرار في كنفه، لكن من الداخل، من أعلى سلطة تشريعية، ومن أولى الهيئات الأوروبية تأسيساً .
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأربعاء، 28/5/2014.
رابط دائم: