الإقليم العربي ليس فقط مترابطا استراتيجيا لأسباب لا داعي في هذا المقام لسردها الآن، لكن الحقيقة معطاة نأخذها كما هي ونتأمل نتائجها، وما يقترب منها وما يبتعد عن الواقع. الغريب أنه رغم الاختلاف في درجات التطور، والبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين الدول العربية، فإن كل ذلك لا يعفي تأثرها بالموجات الكبرى التي تحدث لها. قد يختلف رد الفعل، وقد تنجح دول وتفشل أخرى في التعامل مع واقع متغير، لكن التأثير الذي يرتب قرارات سياسية وتعبئة موارد اقتصادية لا يمكن إغفاله.
جرى ذلك في الماضي عندما قامت النظم العسكرية والتعبوية العربية خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي، وعندما جاءت الموجة «الاشتراكية» في الستينات، وعندما ظهرت علامات «الانفتاح» الاقتصادي في أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 في جانبيها العسكري والنفطي، وعندما قامت وسقطت عملية السلام مع إسرائيل، وعندما حدثت ثلاث حروب على ضفاف الخليج قبل وبعد مطلع القرن الحادي والعشرين. آخر التغيرات الكبرى كان ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي ضم بين ثناياه ثلاث ثورات متتابعة خلال فترة لا تزيد كثيرا على ثلاث سنوات لهثت فيها الأمة كما لم تلهث طوال عهد ما بعد الاستقلال الوطني. الثورة الأولى جرت في مطلع عام 2011، وكان جوهرها الشباب والإطاحة بنظم سياسية، وهز أخرى، ويقظة ثالثة؛ ولم يمض عام حتى ظهر أن الموضوع بأسره لم يكن أكثر من نجاح «الإخوان المسلمين» في السيطرة على الحكم، بالسياسة تارة، والتهديد بحرق البلاد تارة أخرى، والتحالف مع جماعات إرهابية عنيفة، وكان ذلك يمثل ثورة ثانية منذرة بأخذ المنطقة كلها إلى الخلف لعشرات السنين في نظام فاشي مروع.
المدهش كان الثورة الثالثة أو الموجة الثالثة من الثورة، حسب حسابات جماعة من الساسة والمحللين، التي بدأت العصف بحكم «الإخوان». أتت البشارة الأولى من تركيا، ومن ميدان تقسيم، حينما بدأ تدريجيا يظهر وجه «الإخوان» الحقيقي في دولة علمانية؛ لكن الضربة الكبرى جاءت من مصر. هنا كان ميلاد جماعة الإخوان، وامتدادها إلى دول عربية وإسلامية أخرى خلال الحقبة الناصرية، وهنا وصلت إلى السلطة عبر انتخابات بالطريقة نفسها التي وصل بها النازيون إلى الحكم في ألمانيا عام 1933. الاختبار الوجودي الذي جسدته الثورة الثانية أدى إلى الثورة الثالثة في 30 يونيو (حزيران) 2013، والتي تتوالى فصولها في صراع بين الدولة المصرية شعبا وجيشا من ناحية، و«الإخوان» وحلفائهم من جماعات الإرهاب من ناحية أخرى؛ وفي بناء يتجسد في خريطة المستقبل التي وصلت إلى محطة أخرى في مسارها بانتخاب رئيس للجمهورية.
هذه الثورة الثالثة وصلت أخيرا إلى ليبيا، فرغم اختلاف الظروف والشروط، فإن القصة الليبية لا تختلف كثيرا عن بقية القصص، فقد بدأت بثورة أولى في 17 فبراير (شباط) 2011، انتهت بسقوط القذافي كما سقط مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح من قبله ومن بعده. وليس معلوما متى حدثت الثورة الثانية، لكنها حدثت على أي حال، وجوهرها أنه مهما فعل ثوار الثورة الأولى، فإنهم في النهاية سيفشلون في إدارة البلاد، وينجح «الإخوان» في الاستيلاء عليها بالتهديد مرة والغواية مرة أخرى، من خلال ما عرف بالمؤتمر الوطني العام. وكما هي العادة أيضا فإن «الإخوان» لا يأتون إلى السلطة وحدهم، فقد فعلوا ما فعله الرئيس محمد مرسي في مصر حينما فتح الأبواب المصرية على مصاريعها لكي تدخل الجماعات الإرهابية. لكن الخطر في ليبيا كان أكبر، فالدولة لم تكن بقوة الدولة المصرية، بل إن القذافي كان قد فكك كل ما له علاقة بالدولة، وعندما تنهار الدولة فإنها تتفكك إلى عناصرها الأولية من جماعات وقبائل ومناطق، وفي أوقات الثورة والعنف يكون لكل منها أهدافه المحلية ومعها ميليشيات تعزز من مواقعها في مساومات العملية السياسية. والنتيجة النهائية تكون الفوضى العارمة، والعجز عن إدارة الدولة، بل ووجود سلطة مركزية ليست لها علاقة بحكم الداخل والتعامل مع الخارج. الضحية في كل ذلك يصير المواطن نفسه، الذي يصبح مهددا في عمله ورزقه وحياته، وفي دولة مثل ليبيا حدودها مفتوحة وكبيرة على دول فاشلة هي الأخرى تصبح الكارثة محققة. وكان ذلك ما جرى مع امتداد الجماعات الإرهابية إلى دول أفريقية مجاورة في مالي وتشاد حتى الجنوب في بوكو حرام في نيجيريا، وفي جنوب الجزائر وتونس والمغرب، وإلى الشرق في مصر.
هنا تأتي الحركة العسكرية للواء خليفة حفتر، ليست تقليدا لما حدث في مصر حيث نزل الجيش لكي يحمي ثورة شعب، وإنما لأن العسكريين الليبيين باتوا آخر من بقي من مؤسسات الدولة الليبية. ورغم التعقد المعروف في الحالة المصرية، فإن الدولة بمؤسساتها بقيت رغم ثلاث ثورات، لكن في ليبيا فإن المسيرة أصعب لأن الجغرافيا أكثر اتساعا، والديموغرافيا أقل عمقا، والرابطة السياسية أقل مركزية. لكن كل ذلك يجعل التفاصيل مختلفة، والمدى الزمني أكثر امتدادا، والنهاية أقل يقينا، لكن البادي هو أنه لا يوجد خلاص آخر. ولعل ذلك يفسر تلك الحالة من الحسم التي يعيشها اللواء حفتر التي ربما استمدها من الثورة المغدورة للعقيد القذافي التي انتهت إلى كوميديا سوداء متوحشة؛ أو ربما من الصعوبات الكبرى التي وصلت إليها الحالة الليبية. لكن ما يجري في ليبيا ليس له أن يشغلنا عن التاريخ الذي يتحرك تحت أعيننا، والنمط السياسي الذي يتكرر في موجة ثورية جديدة هدفها هذه المرة بناء الدولة وليس تدميرها. وربما عرف اللبنانيون قيمة الدولة ذات يوم حينما كتب كاتب مقالا بعنوان «حبيبتي الدولة»، لكن الدرس لم ينتشر كثيرا، واحتاج الأمر عقدين من السنين كي يتعلم العرب أن الدولة تأتي أولا، وبعد ذلك تصير ديمقراطية أو تحمي حقوق الإنسان، ومن دونها فلا تنمية ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان، وإنما فوضى عارمة.
ما هو المدى الذي تصل إليه حظوظ اللواء خليفة حفتر؟ لا يمكن التنبؤ به، لكنه جاء في لحظة تاريخية مناسبة، وهو لديه هدف القضاء على «الإخوان»، لكن هذا الهدف لا يكفي، فما يحتاجه ليس فقط أكبر تحالف عسكري وسياسي ممكن، ولكن خارطة طريق لبناء ليبيا المستقبل يكون فيها من الخيال ما يجعل ليبيا أكبر من مرحلتها الملكية، وعقلانية لم تعرفها طوال حكم القذافي، وواقعية تعرف كيف تستغل مواردها المادية والبشرية كي تعيش كدولة بترولية واقعة على ضفاف طويلة من البحر الأبيض المتوسط. المهمة أكبر بكثير من العمليات العسكرية، ومن خاضوا التجربة المصرية يعرفون وعورة الطريق.
---------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء، 28/5/2014.
رابط دائم: