الفوضى والاضطراب، هذا هو المشهد الذي يرسمه صراع الجماعات المسلحة في ليبيا المفتوح على كل الاتجاهات، السلطة بمغرياتها والثروة بمغانمها، وبين هذه وتلك الخلفيات الإيديولوجية والاتجاهات السياسية والولاءات القبلية والجهوية والتأثيرات الإقليمية والدولية بما يعني هذا في أوضاع البلاد وحياة العباد .
في البدء كان الانقسام بين الجماعات التي انخرطت في عملية إقصاء نظام القذافي، والأمر يعود لعدد من الأسباب، منها غياب رؤية الشراكة وافتقاد التنظيم ما ولّد لدى كل جماعة شعوراً بأنها كانت القوة الحاسمة في المعركة ولها الحق في أن تكون سائدة، ومن هذه النزعة الذاتية بدأ تحول تلك الجماعات إلى فصائل مسلحة متعددة ومتفردة وهناك متمردة .
حسب بعض المعلومات يقدر عدد الفصائل الرئيسة المسلحة بالعشرات، غير أن عدد الجماعات المتفرقة تصل إلى المئات وهذا ما أدى إلى أن تصير مجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في عموم البلاد تحت هيمنة هذه الجماعات .
وفي ظل هذا الوضع باتت أغلبية المرافق والمؤسسات العسكرية والصناعية والتجارية أقرب إلى إقطاعيات لهذه أو تلك من الجماعات التي من ضمنها القيام بأنشطة تهريب السلاح وفرض أتاوات وجباية حماية على الشركات وانفلاتها في خوض حروب العصابات التي يذهب ضحيتها الأبرياء .
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالانزلاق مفتوح على المجهول، وهذا ما تنذر به موجة الاغتيالات وتبادل إطلاق النار العشوائي في الشوارع والحارات والمؤسسات وعمليات الخطف والتفجيرات الإرهابية التي تطال البعثات الدبلوماسية، على أن الأخطر في هذه الدوامة الرهيبة الصراع على السلطة الذي حول الهيكل الحكومي الوليد بعد الإجهاز على المؤسسات التي كانت قائمة وفي فترة قياسية إلى ما يصفه مراقبون ب"الأسمال المهترئة" .
وفي تواز مع هذا التدمير الناجم عن صراع السلطة كان هناك الصراع على النفط، وهذا جرى ويجري باستنزاف هذه الثروة وبعشرات مليارات الدولارات .
بالطبع المجريات على هذا النحو تتصادم وآمال وتطلعات وتضحيات الليبيين، وهذا ما عبر عنه أحد شباب ليبيا الذين اندفعوا بحماس في انتفاضة التغيير من أجل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية حين قال: "لقد قاتلنا بشراسة لبناء دولة جديدة، أما الآن فأصبح كل شيء من أجل المال والأسلحة" .
والقول هكذا لا يجافي حقيقة ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا ، وللاستدلال نشير إلى أن بعض الجماعات المسلحة وبخاصة تلك التابعة للإخوان ومن لف لفهم تمظهرت بالأقوال إنها اندمجت بالحكومة الليبية، لكن ما ثبت بالأعمال هو أن قرارها كان شكلياً لغرض الحصول على المرتبات لتبقى تحت أوامر قادتها وتمارس نشاطاً أقرب إلى العصابات وهذا ما يشير إليه متابعون بما يجري من قبل هذه الجماعات في غير مرفق من حقول النفط والمستشفيات والموانئ والسجون والمطارات .
لماذا آلت الأمور إلى هذا النحو الكارثي في ليبيا ولم تشهد مجرد بدايات لإيقاف التداعيات؟
بالقطع لا يعود الأمر إلى انتفاضة الشعب الليبي من أجل التغيير لبناء ليبيا الجديدة والجديرة بحياة كريمة للإنسان، بل إلى السياسة التدميرية والاستئثارية والانتقامية التي اتبعتها الدول النافذة في حلف شمال الأطلسي وجماعة الإخوان .
فهؤلاء بدوا كما لو أنهم التقوا مسبقاً على ليبيا بتدميرها لا بتغيير أوضاعها، والبداية كانت بجلب الجماعات الجهادية والتكفيرية وإطلاقها في عموم ليبيا لتصبح الآن سلسلة ألغام متفجرة في وجه الأمن والاستقرار والنهوض لإعادة البناء، وهو وضع يجده الإخوان، كما لو أنه الأرض الخصبة للاستئثار بليبيا والدال على هذا ليس استبعادهم للآخرين والنيل من جموع غفيرة من أبناء ليبيا شاركوا بدور فعال في إسقاط نظام القذافي، ومنهم أفراد وجماعات من رجال الأمن والجيش الذين انحازوا لإرادة الشعب في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة فقط، بل إنهم حاولوا إعادة إنتاج سطوتهم على البلاد من خلال التمديد للبرلمان الذي يسيطرون عليه بدلاً من الخروج إلى أفق حل وطني للأزمة العاصفة بالبلاد .
هنا يمكن القول إن التطورات الأخيرة التي جاءت من قبل فصائل من الجيش والجماعات الثورية على خيار تصفية الإرهاب ومواجهة استئثار الإخوان هي بداية الرد على هذا العبث المدمر لليبيا وسيكون ذلك متاحاً إذا ما تجنب هؤلاء التفاف الإخوان لإدخال ليبيا في حرب أهلية كما التفوا على الثورة للسقوط في الاضطرابات والفوضى والإرهاب .
---------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس، 25/5/2014.