استعرت الحملة الانتخابية الرئاسية في مصر، وخلع المرشحان قفازيهما، حتى الآن ليس ضد بعضهما البعض، فهذا لم يأت وقته بعد؛ وإنما ضد أمور يعتقدان أنها تستحق التغيير في الحياة المصرية. الوقائع كلها والحقائق تقول إنه إذا كان فوز المرشح الناصري حمدين صباحي غير مستبعد بشكل مطلق، فإن المؤكد حتى الآن أن المشير عبد الفتاح السيسي هو صاحب الحظ الأوفر في الفوز بقيادة مصر من قصر العروبة الشائع باسم «الاتحادية» بين جمهور الإعلاميين. صباحي ربما يحلم بأصوات كل المتضررين والمتخوفين، من أول الإخوان المسلمين، وحتى مجموعات من شباب الثورة الأولى، وعدد من الأحزاب التي لها الكثير من الإعلام والقليل من معرفة الناس. الماضي جزء مهم من شرعية صاحبنا من أول عبد الناصر القديم وحتى ثورات 25 يناير (كانون الثاني) و30 يونيو (حزيران). السيسي تجاوز ذلك لمخاطبة الجمهور المصري العام بالحديث عن مصر التي يريدها والتي تبدأ من رفض ما هو قائم، وحتى الوصول إلى وضع تستعيد فيها الدولة هيبتها، ويخرج فيه الفقراء من فقرهم، وتحصل فيه مصر على المكانة التي تستحقها. شرعية السيسي الأساسية هي المستقبل، والقدرة على صنعه، والإيمان بإمكانيته ووسيلته إلى ذلك هي «العمل» حتى لا ينام أحد، و«الاستثمار» حتى يصل المصريون ما بين النهر والبحر.
تحدث المرشحان كثيرا بعد فض الحجر على الدعاية الانتخابية، وتولت أجهزة الإعلام نشر الأفكار والرؤى، وإذا كان القول: «تحدث حتى أراك» فإن ذلك انطبق على السيسي بأكثر مما كان لصباحي. فصباحي شائع الكلام في الساحة السياسية المصرية منذ عقود، ومن ثم لا جديد في الأمر، فالمعادلة هي العودة إلى أيام يراها سعيدة، ويراها كثرة من الناس بائسة مشبعة بالعار والحسرة. أما السيسي فكان فيه مساحة من سياق تاريخي، بعضها قادم من الخلفية العسكرية للرجل، وبعضها الآخر قادم من تعقد الحالة المصرية بين الشمال والجنوب، والنهر والبحر، والريف والحضر، والأغنياء والفقراء، ومؤخرا ما أظهرته الثورات المتعاقبة أن مصر ليست بالدولة البسيطة كما يعتقد أهلها وقادتها من قبلهم، وإنما فيها أشكال اجتماعية متعددة. وهذا جعلنا نشير في مقال سابق إلى الوجوه الشائعة عن رجلنا: العسكري المحترف، السياسي، المنقذ. وما قيل علاوة على هذا فقد اختفى تماما وذهب إلى أوراق التاريخ، أما العسكري المحترف فيظهر من وقت لآخر كخلفية تاريخية مهمة في قيادة الدولة المعاصرة، فرغم نفيه لأن يكون للقوات المسلحة دور في الحياة المدنية والسياسية للدولة، إلا أنه يوضح مقدما أن العسكريين هم الأجدر بقيادة المحافظات الحدودية، أما السياسي، فرغم أنه كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للدفاع والإنتاج الحربي، فإن مكانته في عالم السياسة كانت أكثر رفعة من المنصب، وفي أوقات كثيرة كان هو النجم اللامع. أما المنقذ فهو ما ظهر أنه الوجه الذي سوف يعيش معنا طويلا، فالمنقذ هنا لم يعد هو الرجل الذي خلص مصر من حكم الإخوان فقط، ونجح في تحويل ثورة شعبية إلى دستور وخريطة إلى المستقبل فحسب، وإنما هو القائد الذي سيكون عليه ترجمة أفكاره إلى واقع خلال الأربع أو الثماني سنوات المقبلة.
الشخصية فيها قدر غير قليل من الكاريزما، السمات الشخصية فيها سمرة مصرية صميمة، وعيون سوداء واسعة ترسل ومضات من الحزم إذا أراد، والحنان إذا ذهب، والحكمة عندما يأتي. عبد الناصر كان فيه بعض من هذا، ولكن رسالة العيون، ونحاسية الصوت، وحركة الأيدي، كانت كلها تحمل رسائل الفرعون. السيسي لم تظهر فيه هذه اللمحة، وربما يكون لها وقت آخر، ولكن السمة الغالبة أنه مشغول بالمستقبل. أدواته أولها العمل، أذكر في أول لقاء مع «الفريق أول» في 28 أبريل (نيسان) 2013 في حفل يوم التفوق للفرقة التاسعة أن ألح المثقفون ورجال الإعلام والفنانون على ضرورة تدخل الجيش لإنقاذ الدولة من الإخوان، وجاء الرد في الحفل الذي لم يحضره إخواني واحد أن المسألة ليست بهذه السهولة، ولكنه أضاف ما معناه أن القضية ليست ماذا تفعل القوات المسلحة، وإنما ماذا سوف تفعلون أنتم للتعامل مع الوضع الذي كان؟ السيسي هنا كان مشابها، مع الفارق الهائل، للدكتور محمد البرادعي الذي طالبه مثقفون بقيادة ثورة في فبراير (شباط) 2010، فإذا به يقول أريد أولا خمسة ملايين مصري في الشارع لكي يمكن تغيير نظام الحكم في مصر. السيسي يريد أيضا أن يخرج ملايين المصريين ليس إلى الشارع، وإنما إلى المزارع والمصانع وكل مناطق العمل في مصر. وهنا تأتي الوسيلة الثانية وهي الاستثمار من قبل المصريين الذين لديهم المال والأرض، والتي تكون كما ونوعا كافية لقلب الحالة المصرية رأسا على عقب. الوسيلة الثالثة يختلط فيها التعاون العربي والدولي بأدوات متنوعة، المهم أن يحدث ذلك من خلال عملية تكثيف للزمن والإنجاز. السيسي هنا لا يوجد لديه عقد تاريخية من تنوع أو آخر، فهو يؤكد على تحالف عربي متين من ناحية، وعلاقات متقدمة مع كل العالم بما فيه الولايات المتحدة وأوروبا.
هل يقيم السيسي بكل هذا «الجمهورية الثالثة» المصرية؟ وهل هذه تختلف جذريا عن جمهورية يوليو (تموز) الأولى، ثم جمهورية الإخوان الثانية؟ والرد بالتأكيد لا، فمصر أكثر تعقيدا من أن تنتقل بين أنماط من الجمهوريات، والمرجح أنه سوف يكون قدر كبير من التغيير مختلطا مع قدر غير قليل من الاستمرارية. الحزمة من هذا وذاك سوف تتوقف على الزمن والأوضاع السائدة. فالرجل أمامه شيء كبير في عملية توسعة القطاع العام، وحينما ذكر أنه لن يقوم بخصخصة الصحافة القومية من ناحية، ولكنه لن يقدم لها دعما من أي نوع من ناحية أخرى. وحينما قدم حديثه التلفزيوني الأول كان لمحطة خاصة ومستقلة ولم يكن لمحطة حكومية. الجمهورية الثالثة هكذا لن تكون جمهورية تعبوية كما تعودها الناس، ولكنها سوف تكون جمهورية تنموية تجمع بين الاتجاهات الإصلاحية التي سادت في السنوات الأخيرة لفترة مبارك مع تفعيلها وتسريعها، مع مسحة عصرية فيها خليط من الديمقراطية والأمن. كيف سيتم تطبيق هذه المعادلات في الواقع؟ سوف تتوقف على الطاقم الذي سوف يعمل مع المشير وبرنامج العمل الذي سوف يتم توظيفه؟ وربما كان الأهم من ذلك هو كيف سوف ينظر الشعب المصري إلى ما يقوله السيسي؟ هل سيشمر السواعد، ويندفع إلى فعل ما برع فيه المصريون في الماضي وهو البناء والتعمير؟ أم أنه سوف يرى ذلك عبئا إضافيا على أوضاع تعيسة؟ ربما تكون تلك هي المسألة!!
-------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء، 14/5/2014
رابط دائم: