سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستمرار إلى تفسير وتعليل تدخله في أوكرانيا بدواعي خوفه على أمن الناطقين بالروسية، والمواطنين الروس الذين يعيشون هناك، وهو ما أصاب زعماء بعض البلدان المجاورة التي تضم أقليات مهمة من الناطقين بالروسية بالخوف والقلق. كما أدى إلى إطلاق نكت عديدة حول دعوة سكان نيويورك من الناطقين بالروسية أو الحاملين لجوازات سفر روسية لبوتين لإرسال قوات من أجل حمايتهم.
وبالطبع، فإن الفكرة من وراء هذه النكت هي أن الناطقين بالروسية والمواطنين الروس في أوكرانيا هم، في نظر الكرملين، مختلفون جداً عن أولئك الموجودين في بروكلين أو أية مدينة أجنبية أخرى يعيش فيها روس. صحيح أنهم لا يعيشون في روسيا، ولكن لا يعيشون في الخارج تماماً أيضاً. والحقيقة روسيا منذ أعلنت نفسها دولة ذات سيادة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي قبل 24 عاماً، فشلت في أن تنظر إلى نفسها كدولة تعدت المرحلة الإمبريالية. ذلك أنها لا تنظر إلى أوكرانيا إلا من خلال «فلتر» انتصارات وخسارات وإهانات ماضيها الإمبريالي -وقد وصف بوتين هذا الأمر بتفصيل وإسهاب.
ففي خطاب في البرلمان في الثامن عشر من أبريل، اتهم بوتين البلشفيين برسم حدود اعتباطية بين جمهوريتي أوكرانيا وروسيا السوفيتيتين السابقتين -ثم إعطاء شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول لأوكرانيا في 1954. ولكنه أغفل في المقابل حقيقة أن أراضي أوكرانية سُلمت للجمهورية الروسية السوفييتية، وما زالت جزءاً من روسيا اليوم.
ولعل الأهم من ذلك هو أن بوتين أشار بوضوح إلى أنه يعتقد أن الحدود التي رُسمت حتى قبل ذلك -بعيد ثورة 1917- يمكن، بل ينبغي أن يعاد رسمها. وبعبارة أخرى، أن بوتين يضع روسيا المعاصرة موضع وريثة الامبراطورية الروسية مثلما كانت مكونة تحت حكم القياصرة.
وبعد شهر على ذلك، جلب بوتين بلداناً أخرى إلى هذا السيناريو إذ قال: «إن أجزاء من أراضي اليوم كانت في تشيكوسلوفاكيا، وأجزاء في المجر، وأجزاء في النمسا، وأجزاء في الامبراطورية النمساوية- المجرية، وأجزاء في بولندا». أما الرسالة المبطنة، فهي أن الحدود يمكن أن يعاد رسمها وقد سبق أن أعيد رسمها، وعليه، فربما يجدر بنا أن نقوم بتقسيم أوكرانيا فيما بيننا. فقد فعلناها من قبل!
إن بوتين لا يرى بلداً اسمه أوكرانيا. فهو لا يرى إلا أراضي روسية ينبغي أن تكون جزءاً من روسيا، وأراضي يمكن أن تطالب بها بلدان أوروبية غربية، على أنه يمكن الاتفاق حول مصير بقية الأراضي عبر المحادثات. وقد ظل بوتين وفياً لنفسه عندما أدلى بتصريحاته التصالحية على ما يبدو يوم الأربعاء الماضي، حيث تمثلت رسالته الرئيسية في أن مصير أوكرانيا يمكن وينبغي أن يقرر في مفاوضات بين بوتين والزعماء الأوروبيين، تعقد في الكرملين، على غرار اجتماعه مع الرئيس السويسري ديدييه بركهالتر في ذلك اليوم.
أما إذا لم ترغب أوروبا في المشاركة في التقسيم، فإن روسيا ستتصرف بشكل منفرد. وفي هذه الحالة، يمكن لشرق أوكرانيا أن يصبح مثل ترانسنيستريا، التي تُعتبر رسمياً جزءاً من مولدوفا ولكنها تخضع لحكم حكومة انفصالية موالية لموسكو، أو أوسيتيا الجنوبية، التي انفصلت بشكل أحادي عن جوريا بمساعد من موسكو في 2008، أو شبه جزيرة القرم، التي تم الاستيلاء عليها بكل بساطة.
ولكن ماذا سيحدث بعد أوكرانيا؟ الواقع أن هناك بلداناً أخرى غزاها القياصرة وحكموها، ثم خُسرت لاحقاً. وعلى أي حال، من قال إن فنلندا لديها هي أيضاً حق في الوجود؟
---------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين، 12/5/2014.
رابط دائم: