بات السلوك الروسي في أوكرانيا مركز جذب وشد في الأوساط السياسية والاقتصادية الدولية، وعزّز من هذه التحولات ضمور مشكلات المجال السياسي الأوراسي على الساحة الدولية وازدياد ضموره بسبب الأوضاع السائدة في القرم حالياً . ويلاحظ أن موسكو دخلت بمواجهة واضحة المعالم مع الغرب ضمن منطق خاص بها، ترجمته في العام 2008 في الحرب مع جورجيا التي أعقبها إعلان استقلال جنوب أوسيتيا وأبخازيا وكذلك الحال بما يتعلق بالصراع الدائر في غير مكان من العالم، من بينها أوكرانيا وسوريا .
ولمزيد من الضغوط على موسكو، صعّد الغرب من مستوى العقوبات الاقتصادية عليها إلى الدرجة الثانية، فما هي آثارها؟ وما بدائل روسيا الممكنة؟ ومدى فاعلية الاجراءات المتبادلة في تلك الظروف؟
في لغة الأرقام ثمة مراوحة تجارية واسعة جداً بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو اعتماد تجاري متبادل من الصعب تجاهل آثاره المتبادلة على الطرفين الغربي والروسي . ويؤكد مكتب الإحصاء التابع للاتحاد الأوروبي، أن روسيا مسؤولة عن 7% من إجمالي واردات الدول ال 28 الأعضاء في الاتحاد الاوروبي و12% من صادراتها، ما يجعل هذه الدول مجتمعة الشريك التجاري الأول لروسيا بعد الولايات المتحدة والصين .
وقد بلغ حجم التجارة البينية الروسية - الامريكية العام 2013 أربعين مليار دولار، وفق غرفة التجارة الأمريكية، إذ صدرت واشنطن إلى روسيا بقيمة 26 .11 مليار دولار واستوردت منها بقيمة 96 .26 مليار . في المقابل صدرت موسكو ما قيمته 19 مليار دولار من النفط ومشتقاته إلى واشنطن، إضافة إلى أسمدة بقيمة مليار دولار، وهي مواد من الصعب إيجاد بدائل لها عن السوق الروسية .
كما تعتبر روسيا أكثر اعتماداً على التجارة مع الاتحاد الأوروبي، فدول الاتحاد تصدر نصف واردات روسيا وتستورد نصف صادراتها . وسجلت التجارة الروسية - الأوروبية في العام 2012 حوالي 123 مليار دولار . إذ كانت أبرز صادراتها إلى أوروبا الغاز الطبيعي الذي يعتمد عليه في المنازل والمصانع . كما أن ربع الحاجة الأوروبية من الغاز تلبيه موسكو، ويشار إلى أن ألمانيا تعتبر من أكبر مستوردي الغاز الروسي في أوروبا في مقابل 30 بليون يورو سنوياً . وهنا أيضاً تبدو الخيارات الأوروبية ضيقة في حال قرر الاتحاد الأوروبي المضي في عزل موسكو تجارياً وسياسياً .
وفي حال تمكنت العقوبات من أن تفعل فعلها، يبدو أن خيارات موسكو ستتجه شرقاً، وبالتحديد استثمار منظمة شنغهاي باعتبارها بديلاً معقولاً . فمنظمة شنغهاي للتعاون هي محفل قاري جمع تشكيلات واسعة من الدول السريعة الصعود . وبما أن المنظمة تعتبر اختراعاً روسياً - صينياً، فإنها تضم عدداً من دول آسيا الوسطى كأعضاء دائمين، بينما ظلت إيران وأفغانستان وباكستان دولاً مراقبة . وتعد إيران وروسيا معاً أكبر منتج للطاقة في العالم . كما تضم المنظمة أكثر الدول استهلاكاً لموارد الطاقة، وهي الصين والهند . ولدى معظم تلك الدول ما تنافس الغرب من أجله، علاوة على الطموحات السياسية والعسكرية . كما ان هذه الدول هي الأكبر في أوراسيا ومن أهم الدول تأثيراً في الشؤون الدولية . كما أن الأمر لن ينحصر عند هذا الحد ومن الممكن أيضاً التركيز على تجمع دول البريكس الذي سيعطي موسكو مزيداً من عوامل الصمود ولو لوقت ليس بالضرورة طويلاً .
وعلى الرغم من البدائل الروسية المريحة نسبياً في المدى المنظور، إلا أنها تعاني حزمة من المشكلات والمصاعب الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، كإهمال رأس المال الإنساني، ونمو النزعة القومية، وانعدام النمو الاقتصادي، واعتماد الاقتصاد بصورة أساسية على تصدير الهيدروكربونات .
اليوم يتواجه الطرفان الروسي والغربي في أشد المناطق حساسية بالنسبة لروسيا أو بالتحديد بالنسبة لفلاديمير بوتين، وهي المنطقة الأوراسية التي تعتبر عصب البرنامج السياسي الذي صعد به بوتين إلى الكرملين، ولهذا فإن العقوبات الغربية، ربما تفعل فعلها في روسيا على المستوى المتوسط والطويل، لكن دون عقبات كثيرة، وهي قابلة للمواجهة بوسائل القوة الناعمة التي أجادتها وتجيدها الولايات المتحدة في سياق التعامل مع الأزمات الدولية الكبيرة، ومنها الحالية مع روسيا .
-----------------------------
نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين، 6/5/2014.
رابط دائم: