عقدت يوم الخميس الماضي حلقة نقاشية نظمها معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، وذلك لمناقشة مسودة تقرير «حال الأمة» الذي يصدره المركز عن الأوضاع العربية في عام، وقد أصبح هذا التقرير مرجعاً أساسياً عن شؤون الوطن العربي تكتبه مجموعة من خيرة الباحثين خاصة عن القضايا الراهنة كونه يصدر سنوياً. ويتكون التقرير عادة من عدة عناصر تتناول الإطارين العالمي والإقليمي لحركة النظام العربي ثم تُشَرِّح النظام العربي سواء على المستوى الكلي أو على مستوى حالات بعينها تكون قد حدثت فيها تطورات مهمة. وينتهي التقرير عادة بجزء عن أوضاع الاقتصاد العربي في عام، وقد دار النقاش في الحلقة بموضوعية واضحة مكن منها المستوى المتعمق في القضايا التي أثارها التقرير بحيث ولّد هذا النقاش أفكاراً مفيدة.
ومن بين هذه القضايا ما أثاره أحد المشاركين بخصوص قضية «التغيير في النظام العربي» تعليقاً على ما ورد في التقرير بهذا الخصوص. هل يحدث التغيير في نظام إقليمي ما لمجرد أن تغييراً ما قد وقع في عدد من وحداته؟ وفي الحالة العربية هل يمكن أن تكون التغييرات في النظام العربي في أعقاب ما عرف بـ«الربيع العربي» قد أدت إلى تغيير في نموذج النظام وجوهره؟ إذا استعنا بالتغيير الذي وقع على صعيد النظام العالمي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي سنلاحظ أن تغييراً جذرياً قد حدث بالنسبة لهذا النظام عبر التحول التدريجي في الاتحاد السوفييتي بعد وصول جورباتشوف إلى السلطة في عام 1985. فقد أتى الرجل بسياسات جديدة مختلفة عن سياسات أسلافه جسدتها شعارات مثل «عالم واحد أو لا عالم» و«توازن المصالح لا توازن القوى» وحاول أن يحقن النظام السوفييتي بجرعة من الديمقراطية والحافز الفردي في الاقتصاد ولكن زمام الأمور أفلت من بين يديه وانتهى الأمر بانهيار معسكر الدول الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي نفسه في ديسمبر 1991 وتحول نموذج القيادة في النظام العالمي، ولو إلى حين، من القطبية الثنائية إلى الأحادية التي دانت للولايات المتحدة على نحو مطلق طيلة العقد المتبقي من القرن العشرين وحتى غزو العراق في عام 2003. ولكن هذا التحول وقع لأن الاتحاد السوفييتي كان إحدى القوتين العظميين اللتين قادتا النظام في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكذلك تحول مضمون النظام من التنافس بين أيديولوجيتين تريد كل منهما أن تحكم العالم إلى غلبة واضحة للأيديولوجية الرأسمالية على حساب الاشتراكية إلى درجة أن الأستاذ الأميركي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما قد خرج علينا بفكرته الساذجة عن «نهاية التاريخ».
ولكن الحالة العربية تختلف بوضوح عما حدث بشأن التغيير في قمة النظام العالمي، فقد وقع التغيير أولاً في أربع وحدات فحسب من اثنتين وعشرين وحدة داخل النظام، وأهم هذه الدول الأربع مصر التي لم يكن لها عندما تفجرت ثورة 25 يناير 2011 ذلك النفوذ القيادي الذي كان لها بوضوح في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وعلى أحسن الفروض حتى نشوب حرب أكتوبر 1973. ويعني هذا أن ثقل دول «الربيع» داخل النظام لم يكن كافياً لإحداث تغيير حقيقي في نموذج النظام ومضمونه. وقد يكون الأهم من فكرة «الثقل» أن الأوضاع في كافة دول «الربيع العربي» ما زالت انتقالية وما زالت الأوضاع في «النظم الجديدة» تعتبر هي أيضاً انتقالية، وإذا أخذنا مصر على سبيل المثال نجد أن «الإخوان المسلمين» قد تمكنوا من الانفراد بحكم مصر لمدة عام من يوليو 2012 إلى يوليو 2013 ثم أسقطهم الشعب والجيش في مصر التي تقف الآن على أعتاب انتخابات رئاسية وبرلمانية ستكون لها بالتأكيد تأثيراتها القوية على المستقبل، والأمر في باقي دول «الربيع» هو نفسه في مصر من حيث عدم الاستقرار بعد على صيغة الحكم وتوجهاته فكيف يحدث تغيير في ظل أوضاع كهذه؟
وربما يكون السبب في الحديث عن تغيير لحق أو يمكن أن يلحق بالنظام العربي فكرتان ثبت عدم صحتهما: الأولى تتعلق بتوقع أن موجة «الربيع العربي» سوف تغمر معظم البلدان العربية وفقاً لنظرية «الدومينو» وهي فكرة يمكن القول ولو بشيء من عدم الدقة إن كارل ماركس كان هو أول من طرحها حين تنبأ بأن النظم الرأسمالية ستتهاوى دفعة واحدة بادئة بأكثرها تقدماً، ولكن ما حدث على أرض الواقع لم يتعد وقوع الثورة البلشفية في روسيا في 1917 لأن باقي الدول الرأسمالية بدأت تأخذ تنبؤات ماركس على محمل الجد فاتخذت إجراءات لتحسين وضع العمال بحيث تجهض احتمالات ثورتهم فيما يعرف بالتنبؤ الهادم لذاته، وهو شيء قريب مما حدث في حالة «الربيع العربي»، حيث اتخذ عدد من الدول العربية إجراءات من شأنها تخفيف أي احتقان اجتماعي بما يزيد من حصانة نظم الحكم القائمة في تلك الدول. ولهذا لم تمتد رياح «الربيع العربي» إلا إلى أربع دول فقط هي تونس ومصر واليمن وليبيا وانكسرت في سوريا، وهو ما لا يكفي لإحداث تغيير جذري في النظام خاصة على ضوء عدم الاستقرار الذي شاب الأوضاع في كل هذه الدول. أما الفكرة الثانية التي ثبت عدم صحتها فهي سيطرة قوى «الإسلام السياسي» على نظم الحكم في تلك الدول وبالتالي كان التنبؤ ليس مجرد حدوث تغيير في طابع النظام وبما يجعله نظاماً إسلامياً يضم دولاً مثل إيران وتركيا وأفغانستان وما إلى هذا. غير أن تعثر قوى «الإسلام السياسي» في تونس وليبيا وإن بقي لها نفوذ في البلدين، والأهم من ذلك سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، أوقف من هيمنة هذه القوى على النظام العربي وبالتالي فإن التغيير لم يحدث أصلاً كما أن آفاقه التي تتجاوز الطابع العربي قد توارت ولو إلى حين.
إن قضية التغيير في النظام العربي بكل أبعاده قضية أكثر تعقيداً بكثير من أن تكون نتيجة أحداث «الربيع العربي»، بل إن الأثر المحتمل لهذه الأحداث ممثلاً في ضخ مزيد من الديمقراطية في النظام العربي لا يمكن القطع به حتى الآن على ضوء الأوضاع السائدة في «دول الربيع»، وقد يكون تعزيز العلاقات السعودية الإماراتية المصرية نقطة بداية في تقوية النظام العربي، وليس تغييره.
--------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 29/4/2014.
رابط دائم: