يلاحظ المتتبع للاستعدادات للانتخابات الرئاسية المصرية المرتقبة أن هناك قاسماً مشتركاً في الحملتين الانتخابيتين للمرشحين الاثنين الرئيسيين فيها: المشير عبد الفتاح السيسي والسيد حمدين صباحي، وهو أن المعسكر المناصر لكل مرشح يحرص على استحضار اسم الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر وصوره وذكراه إلى ساحة المنافسة الانتخابية، وإن كان من منظور مختلف أحياناً ومتشابه أحياناً أخرى ومتماثل أحياناً ثالثة، باعتباره رصيداً للمرشح الذي يدعمه، من جهة إبراز انحياز مرشحه للأهداف والالتزامات نفسها التي تبناها أو صاغها الزعيم الراحل.
ينطبق هذا الاستحضار على النضال لتحقيق النهج التحرري والاستقلال الوطني وحرية الإرادة وعملية صنع القرار، وكذا من جهة تأكيد الهوية العربية والأفريقية لمصر والوعد بإحياء الدور المصري في الدائرتين، ومن ثم على الصعيد الدولي ككل، والذي ركد طويلاً بما اقترب من حالة الموات.
وهذا الاستحضار ينطبق كذلك على الانحياز داخلياً للفئات الكادحة والمحرومة والفقيرة التي كانت أكثر من تحملت تبعات السياسات التي اتُبعت في العقود الأربعة الماضية وضاعفت بمعدل متنام ومتضخم الفوارق الطبقية في المجتمع المصري، ومن ثم الوعد بتنفيذ أهداف ثورة 25 يناير، بخاصة ما يتعلق بـ «العيش»، و «العدالة الاجتماعية»، و «الكرامة الإنسانية».
الأمر الآخر اللافت للنظر أن المعسكرين المناصرين للمرشحين الرئيسيين يؤكدان أنه لا مجال لإعادة إنتاج التجربة الناصرية ويقران بأن الزمن تغير وأن الظروف داخل مصر وحولها تغيرت، بالتالي فالمقصود باستحضار التجربة الناصرية هو المعالم الرئيسية والخطوط العريضة للمشروع الوطني والقومي الذي تحقق في مصر وعلى امتداد الأرض العربية والعالم الثالث، كلياً أو جزئياً، في الخمسينات والستينات، وليس هذه التجربة بكل حذافيرها وتفاصيلها.
وفي السياق نفسه يتم الإقرار من جانب هذا الطرف أو ذاك بأن لهذه التجربة أخطاءها وهفواتها، بل سلبياتها، وفي المقدمة منها موضوعات تتعلق بمسألة الحريات والديموقراطية السياسية وسيادة القانون وحقوق الإنسان وغير ذلك، كحديث البعض أحياناً عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى. إلا أن الجوهر يبقى، بحسب هؤلاء وأولئك، صالحاً لوقتنا الراهن ولحظتنا الآنية لإعادة إنتاجه مستوعباً أخطاء التجربة المتنوعة، على ثراء التجربة ذاتها، في السابق، وكذلك متعاملاً مع معطيات الواقع الحالي المعاش محلياً وإقليمياً ودولياً، ومقدماً نموذجاً جاذباً لدعم الجماهير وتأييدها وتعاطفها نظراً لما ارتبط به النموذج الأصلي للتجربة من رواسب إيجابية وصور مضيئة، بل باهرة، في الوعي الجمعي لتلك الجماهير وذاكرتها التاريخية.
ولكن تبقى الحقيقة الثابتة التي تجسدها الظاهرة التي نحن بصدد عرضها وتحليل أبعادها وتقييم دلالاتها هنا، ألا وهي أنه على رغم رحيل الزعيم المصري والعربي الراحل جمال عبد الناصر عن دنيانا منذ ما يقرب من أربعة عقود ونصف العقد، يبقى الغائب الأكثر حضوراً على ساحة العمل الوطني في مصر، من منطلق قناعة قطاعات واسعة من الشعب المصري، بخاصة من الفئات الاجتماعية الوسطى والدنيا، بمصداقية وطنية الرجل وقوميته، وانحيازه للسواد الأعظم من أبناء شعبه وأمته، ونزاهته، وشجاعته في الحق، ويحدث ذلك كله على رغم أن الفترة المنصرمة منذ وفاته شهدت محاولات مستميتة وممنهجة ومتواصلة للإساءة للرجل ولسمعته، سواء جاءت من داخل مصر أو خارجها، وسواء بمبادرات إعلامية وصحافية أو من رجال أعمال أو شخصيات من المجتمع المدني أو، أحياناً أخرى، بتواطؤ من دوائر السلطة والحكم، داخل مصر أو خارجها.
ويؤكد ذلك بقاء صور الزعيم الراحل سواء في بيوت الكثيرين من المصريين أو يرفعها شباب في ثورات وتظاهرات ومسيرات واحتجاجات، داخل مصر أو خارجها على امتداد الأرض العربية، بينما هؤلاء الشباب أنفسهم لم يكونوا قد ولدوا بعد عندما غاب عبد الناصر عن عالمنا. لكن تبقى جاذبية المعنى وتبقى أهمية الرمز وتبقى محورية الدلالة.
---------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأربعاء، 23/4/2014.
رابط دائم: