لم يبتعد كثيرا مسار الأحداث في الربع الأول من العام الجاري، عما كان عليه في العام الماضي، خصوصا الأشهر الأخيرة منه، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو مناطق أخري من العالم. فقد تبلورت في الفترة القريبة الماضية ظواهر كانت قد بدأت إرهاصاتها من قبل، وتفاوتت حدود وعمق تجليات تلك الظواهر من حالة إلي أخري، لكنها جميعا تشترك في عدم وجود نقلة نوعية وتحول جذري في المنطلقات والقواعد الحاكمة لها.
أبرز ما يميز التفاعلات الإقليمية والعالمية في الربع الأول من عام 2014 هو تجسيد وتأكيد سياسة "الأمر الواقع"، وفرض الإرادة على الأرض، كنمط غلب على تحركات ومواقف معظم الأطراف الفاعلة في المنطقة والعالم. حتي إن بعض الوقائع والتطورات، التي لم يبد فيها هذا النمط واضحا، يمكن بقليل من التأمل اكتشاف أنها تؤكده ولا تنفيه، وأن ما يبدو في الظاهر توافقا، أو تنسيقا، أو تفاهما، وليس فرضا لسياسات وإرادات، هو في حقيقته نتاج تضاغط بين تلك الإرادات، ومحصلة احتكاك وتفاعل بين سياسات الأطراف، وليس انصياعا طوعيا من طرف، أو تفضيلا للتعاون من آخر.
ربما يبدو هذا التكييف أقرب إلي إقرار ما هو معلوم بالضرورة من أن موازين القوي هي التي تحكم العلاقات الدولية. غير أن هذا الواقع الثابت دائما كثيرا ما كان يتم تغييبه، أو على الأقل تبني مظاهر وأطر مغايرة لجوهره في التفاعلات والتحركات الدولية، خصوصا على مستوي التوجهات الجماعية، ومواقف المنظمات والتكتلات الإقليمية والدولية. علي سبيل المثال، تصدرت بعض التوجهات والمبادئ اهتمامات الأجندة الدولية على فترات مختلفة. ومن بين تلك المبادئ "الأمن الجماعي"، و"المسئولية الدولية"، و"التعايش المشترك"، وهو ما ينطبق أيضا على بعض المفاهيم والأسس التي تم اعتمادها مرشدا لحركة الدول والمنظمات على المستويات العالمية والإقليمية، بل والداخلية أيضا. مثال ذلك "حقوق الإنسان"، و"عالمية القيم الإنسانية"، و"الحكم الرشيد"، و"التنمية المستدامة"، و"التنمية الإنسانية"، و"بيئة واحدة".
ورغم مثالية تلك المفاهيم والمبادئ، فإنها قابلة للتطبيق نسبيا. وبالفعل، تم إعمالها بأشكال ودرجات متفاوتة في حالات مختلفة، إلا أنها جميعا لم تكن تفضلا من الدول المنخرطة فيها، أو مكرمة مجانية تتحمل أعباءها دول بعينها من أجل مصلحة دول أخري، أو حتي من أجل استقرار منطقة، أو استتباب الأمن في العالم، وإنما كانت دائما محكومة بوازع تعظيم المكاسب، أو درء مخاطر قد تهدد أمن واستقرار الشعوب المتقدمة، نتيجة لأوضاع شعوب أخري تفتقد هذه المبادئ، ولا تشهد تطبيقا لتلك المفاهيم. والشاهد على ذلك هي الانتقائية في تطبيق المبادئ، واجتزاء المفاهيم، بحيث يتم إعمالها فقط، عندما يكون ذلك مفيدا للأطراف التي تملك قدرة التنفيذ. وعدا ذلك، وتترك الأمور على حالها، أو تحال إلي آليات غير فعالة، وتفعيلها غير ممكن دون دور وإرادة تلك الأطراف ذاتها.
ذلك النمط الذي يتميز بمراعاة حد أدني من "الشكليات" المتعلقة بالعمل الجماعي والاحترام "الظاهري" لما يسمي "المجتمع الدولي"، بدا أخيرا في سبيله إلي التغير. فالأطراف القادرة على إعمال إرادتها، وفرض قراراتها، لم تعد معنية كثيرا بمراعاة تلك النواحي الشكلية، أو الانخراط في عملية تحضير وتهيئة بروتوكولية أو قانونية. بدأت إشارات تغير ذلك النمط بالتهديدات المتتالية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات بتوجيه عمل عسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية، سواء من جانب إسرائيل، أو الولايات المتحدة الأمريكية. إذ لم تكن تلك التهديدات -في أي مرة- مشروطة بصدور قرار من مجلس الأمن يبيح خطوة كهذه. ثم أصبح الأمر أوضح قليلا عام 2011 في التفويض الذي حصلت عليه الولايات المتحدة ودول أخري بالتدخل عسكريا في ليبيا تحت مظلة "حماية المدنيين"، قبل أن تنتقل مسئولية العمل العسكري من ذلك الائتلاف الدولي إلي حلف الناتو.
وكانت تلك الحالة الليبية أشبه بحالة انتقالية بين العمل بشكل كامل داخل الأطر القانونية، وفق مبادئ المشروعية الدولية، إلي التحرك المنفرد بمعزل عنهما معا، وهو الوضع الذي كشفت عنه بوضوح الأزمة الأوكرانية، حيث اندفع القطب الروسي للحفاظ على ما يراه المجال الحيوي والدوائر المباشرة لأمنه الوطني، في رد عملي على تغير الوضع السياسي الداخلي في أوكرانيا. وبغض النظر عما إذا كان التغيير في كييف يتسم بشرعية ثورية، أو يفتقد الشرعية الدستورية، فإن الأساس في رد الفعل الروسي هو امتلاك القدرة على فرض "أمر واقع" يتواءم مع التقدير الروسي للموقف، وتوافر الإرادة السياسية اللازمة لترجمة تلك القدرة إلي سلوك وحقائق مادية.
توجت موسكو بهذا تحولا فعليا كان قد بدأ من قبل في طريقة إدارتها للتفاعلات مع الأطراف الغربية، خصوصا ما يتصل منها بالقضايا التي تمس المصالح الروسية المباشرة، كما هو الحال بالنسبة للأزمة السورية. فالتمترس الروسي خلف نظام بشار الأسد ليس تأييدا للنظام بذاته، وإنما حفاظ على المصالح الروسية معه وفي سوريا كنقطة جيوستراتيجية مهمة بالنسبة لموسكو، وهو ما بدا واضحا من إشارات صريحة صدرت من كبار المسئولين الروس قبل أكثر من عام، مفادها أن منطلق الموقف الروسي ليس التمسك بشخص أو نظام بشار، وإنما مصير الدولة السورية. ولما كانت المصالح القائمة أو المخاطر المحتملة بالنسبة لموسكو في سوريا أقل كثيرا منها في أوكرانيا، فلم يكن من المستغرب أن يكون السلوك الروسي أكثر مباشرة وعدائية في الحالة الأوكرانية. ولم تنتظر موسكو عقد اجتماعات دولية، أو لقاءات متعددة الأطراف، ولم تلجأ إلي الأمم المتحدة، أو تدعو مجلس الأمن إلي "تحمل مسئولياته". ولم يمنعها من التدخل المباشر، بل والعمل العسكري في القرم، حسابات السيادة، أو مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول. بالطبع، لم تكن موسكو تتوقع قبول الأطراف الغربية سلوك كهذا دون ردود فعل سلبية، وربما تحركات مضادة. غير أن الحسابات الروسية رأت أن التطور في أوكرانيا تجاوز خطا أحمر، هو الأمن الروسي.
الملاحظ أن هذا السلوك لا يقتصر على القوي الكبري في العالم فقط، وإنما بدأ يظهر أيضا في سلوكيات بعض الدول الأخري، سواء في النطاق الداخلي، أو على المستوي الإقليمي. فقد شهدت الأشهر الماضية ممارسات داخلية تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، وتسوية الخلافات سياسيا بعيدا عن العنف، منها، مثالا، الوضع في إفريقيا الوسطي، والانتهاكات الإنسانية ضد بعض الطوائف والجماعات العرقية والدينية هناك، علي الرغم من وجود دور مباشر لأطراف خارجية، مثل فرنسا التي تملك وجودا عسكريا مباشرا هناك، كان يفترض أن يحول دون وقوع تلك الانتهاكات. كذلك الأمر بالنسبة لقيام بعض الجماعات في شرق ليبيا بالسيطرة على منشآت نفطية لعدة شهور، ثم أخيرا محاولة تصدير ناقلة نفط بعيدا عن موافقة السلطة الحاكمة.
الشاهد في تلك التطورات -وغيرها- أن سلوك الدول حاليا لم يعد يتقيد بالجوانب الشكلية أو المبادئ المرفوعة، إذا ما تعارضت التطورات مع مصالح وأمن تلك الدول. وإذا كان هذا، من حيث المبدأ، ليس جديدا في ذاته، فإنه لم يعد سلوكا ضمنيا ولا متخف وراء صيغ وأشكال تجميلية، وإنما أصبح مباشرا فجا، بما يضع الحقائق صريحة دون مواربة. ومنها أن سقوط الفواصل بين الداخل والخارج لم يعد استثناء، وأن السيادة الوطنية وحماية الشأن الداخلي، والقرار الوطني المستقل، كلها مسائل لم تعد مفعلة، ولا تراعي لا عمليا ولا دبلوماسيا. فالقوة الحقيقية هي التي تفرض مقتضياتها، وما كان يفهم ضمنيا أصبح يمارس ويقال صراحة، والموازين غير المعلنة تتجسد وتظهر تجلياتها عند اللزوم. ومن ثم، فالقواعد الحاكمة والمبادئ، والقيم المشتركة ليست سوي إطار لتقنين ما يستقر عليه ميزان القوة، وليس ما يجب أن تكون عليه منظومة العلاقات والتفاعلات. وفي هذا إحياء وتأكيد لغلبة المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، لكنها الآن في طور جديد هو الواقعية المنكشفة، أو ربما الواقعية الوقحة.
رابط دائم: