المغرب والجزائر والحدود المغلقة
23-2-2014

محمد الأشهب
*
لا يهم إن كانت القنوات الديبلوماسية سالكة بين المغرب والجزائر، لتمرير رسائل العتب، إزاء حدث يفترض أن يكون عابراً. الأهم تطويق مضاعفاته، كي لا تنجذب العلاقات المتوترة أصلاً إلى حافة التدهور. لم يكن كافياً أن سريان إغلاق الحدود البرية بين الجارين دخل عقده الثاني، بل زادته طلقات رصاص استقر عند جدار مركز حدودي مغربي عتمة وقتامة. بعد أن كان الشريط الحدودي عنوان تضامن وانصهار لإرادة العمل المشترك، في مواجهة المد الاستعماري الفرنسي، بات بؤرة توتر لا يأتي منها إلا ما يقلق، ويدفع إلى منسوب أكبر من التشاؤم حيال إمكان التطبيع الإيجابي أو المتعدد الأطراف، على مستوى معاودة تفعيل البناء المغاربي الذي تضرر كثيراً جراء هيمنة الخلافات المغربية – الجزائرية، ولم تكد تخمد أزمة ما عرف بترحيل اللاجئين السوريين، بطرق غير إنسانية، ويتم تطويق تداعيات توتر آخر على صفحة ملف الصحراء، حتى تلبدت سماء البلدين بأصوات رصاص، عاودت إلى الأذهان أكثر الفصول تعقيداً في علاقات البلدين الجارين.
 
لم يصل الوضع في غضون ذلك إلى مستوى اللاعودة. ولا تزال المبادرات الديبلوماسية أقرب إلى التمسك بالخيط الرفيع الذي يبقي على ماء الوجه. فقد جرب البلدان فترات القطيعة الديبلوماسية، كما خبرا منافع الانفتاح وتجاوز المحظور. ولم يبق من الحالين سوى ظلال الشكوك والحذر التي تطفو على ما عداها من قناعات ضبط النفس وترجيح الحوار وتغليب الحكمة. وعلى رغم كل الصعوبات ظل المغاربة والجزائريون يفاخرون بأنهم لم يستسلموا لمشاعر راديكالية، إذ يقول الجزائريون إنهم لن يحاربوا إخوانهم المغاربة بسبب قضية الصحراء. فيما يردد المغاربة أن لا أفضل من الحوار لاستيعاب المواقف الأكثر تناقضاً. ويرون أبعد من ذلك أن وجود ملف الصحراء على طاولة الأمم المتحدة يحرر البلدين من مشاق أي مواجهة أو تصعيد.
 
بيد أن الإقرار بضرورات التعايش مع الوضع الراهن، ليس حلاً نهائياً. إنه أقرب إلى من يمني النفس بجرعات الدواء المر للبقاء على قيد الحياة، وليس من أجل اجتثاث المرض، فيما كلفة التعايش تزيد حجماً وثقلاً أمام ضياع فرص التطبيع والانصراف إلى تفعيل الاتحاد المغاربي، ونقل منطقة الشمال الأفريقي إلى مستوى عال من التنسيق والشراكة والتكامل الذي يفرض نفسه على الجميع، خارج أي حسابات ظرفية وانعزالية.
 
بسبب هذا الاختيار الاضطراري، تجتاز العلاقات واقعاً يشوبه الحذر وعدم الثقة، ويكفي أن يحدث أي تصرف إرادي أو لا إرادي، ليطفو على سطحها كل ما يختزنه الجوف.
 
ولئن كانت الأوضاع على الحدود معرضة لأي سلوك يعكر الصفو، فإن الأمر يزيد مدعاة إلى القلق، حين تكون الحدود مغلقة، تعاني من وضع استثنائي، لا يقبله منطق التفاهم وحسن الجوار. والأكيد أنه لو اهتدى الجزائريون والمغاربة إلى صيغة ما لمعاودة فتح الحدود، لما احتاجا في كل مرة إلى ممارسة دور الإطفائي لإخماد فتيل يهدد بالاشتعال.
 
لا معنى لربط إشكاليات الحدود بأي ملف آخر، فقد دأب المغاربة والجزائريون على التنقل بحرية، حتى بعد اندلاع نزاع الصحراء. وفي فترة التصعيد الذي أدى إلى تعليق الحوار الديبلوماسي في عام 1976، استمرت الحدود مفتوحة، ثم زاد الإقبال المتبادل في الانفتاح بعد استئناف العلاقات الديبلوماسية، التي لم يكن أي طرف ينظر إليها من منظور المصلحة الخاصة أو المنفعة المادية الصرفة، بل مظهر تفاعل وتقارب، في إمكانه أن يقوي لحمة الانصهار والتضامن والتعايش.
 
سريان إغلاق الحدود يعني أن شيئاً أكبر ليس على ما يرام. والواقع أن الوضع الاستثنائي لا يساعد على تلمس مفاتيح الخلاص من تركة عمرت طويلاً. ولئن كان يصعب رؤية بعض المشاكل التي تكون سبباً في توتير الأجواء بالعين المجردة، كونها تطاول المواقف والاستقراءات وتباين وجهات النظر، فإن أوضاع الحدود التي بلا مخرج من هذا الجانب أو ذاك تظل واقعاً قائماً، ولا تحتاج إلى مجهر لإبراز أن ما ينجم عنها لا يكون إيجابياً للطرفين معاً.
 
كل شيء يتوقف على تمارين سيكولوجية، أكثر منها سياسية أو اقتصادية، ولو أدرك البلدان أن جيلاً كاملاً لا يعرف عن طبيعة الحدود البرية بين الجارين سوى أنها مغلقة، لعاودا النظر في الكثير من الحسابات، فالمعرفة التي تترنح في الأذهان لا بد أن تؤثر في تكوين الصورة حول آفاق العلاقات. وإذا لم يكن الرهان قائماً من أجل تجاوز حال استثنائية تلقي بظلال من الشكوك والحذر على واقع العلاقات، فلا أقل من أن ينزع البلدان إلى إنصاف الأجيال الجديدة والقادمة، في أن ترى مظهراً آخر للتعايش يطاول حرية تدفق الأشخاص والبضائع والرساميل. وفي انتظار ذلك لن يأتي من الحدود المغلقة أي شيء يدعو إلى الابتهاج. وما أصعب الخطوة الأولى حين يلفها التردد والكبرياء وعدم الإذعان لمنطق المستقبل.
 
--------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد، 23/2/2014.

رابط دائم: