كنا في الماضي نعتقد أن هناك جهتين تؤججان الاختلافات المفتعلة، ومن ثم الصراعات العبثية، بين مكونات أمة العرب . الأولى كانت تتمثل في رجالات السياسة . فإذا كانوا في الحكم كان تأجيج الاختلافات والصراعات يهدف إلى المحافظة على بقائهم في الحكم كحلّ وسط يمنع تسلط فئة مجتمعية على فئة أخرى . والنتيجة هي بقاء الامتيازات المادية والمعنوية حكراً على رجالات الحكم، يوزعون الفتات منها على الأقارب والأزلام والموالين ويحيلونها إلى ثروات هائلة يتوارثونها جيلاً بعد جيل . هكذا وجد مجتمع الراعي والرعية المبني على أسطورة الأب المستبد الحكيم الذي من دونه يتصارع الأبناء والذي تحتاجه الأمة لحلّ صراعات مكوناتها .
الجهة الثانية تمثلت في رجالات الدين . هؤلاء ساهم الكثيرون منهم في تأجيج الخلافات والصراعات المجتمعية من خلال طريقين . الطريق الأول بني على ادعاء بأن قراءة معاني الدين وفهم مقاصده وتفصيلات تطبيقاته في الواقع يجب أن تكون حكراً عليهم، إذ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ سؤال حق أجاب البعض عنه بالباطل . وكان الباطل هو ممارسة البعض لقراءات خيالية عرفانية باطنية غير عقلانية لهذه الآية أو تلك من آيات القرآن الكريم، أو ممارسة وضع وتحريف لألوف الأحاديث النبوية، وذلك كلّه من أجل دعم مطالب وطموحات هذه الجماعة أو تلك . وكان الباطل هو إلباس الفقه، وهو فهم إنساني للرسالة الإلهية، لباس القدسية ووضع أقنعة تخلف وتزمت وضيق صدر من قبل بعض الفقهاء، وهكذا مزقت الأمة إلى جماعات متناحرة باسم القرآن والسنة والفقه .
أما الطريق الثاني فكان استعمال الدين لتبرير ودعم قباحات السياسة، لإقناع الناس بالطاعة العمياء لولي الأمر خوفاً من الفتنة المتوهمة، لدعم سياسات هذه السلطة الحاكمة أو تلك، وذلك كله من أجل المال أو الجاه في بلاطات السلاطين . بعض رجالات الدين، بوعي أو من دون وعي، مارسوا، إذاً، ما فعله بعض رجالات السياسة من تأجيج الخلافات والصراعات بصور انتهازية لا حصر لها ولا عد عبر تاريخ هذه الأمة .
اليوم، تنضمُ إلى تلك الجهتين السابقتين جهة ثالثة تتمثل في بعض رجالات الإعلام . إنها جهة تمتاز بانتشار وسائلها الواسعة، بعمق وقوة وخطورة وتنوع تأثيراتها في عقول وقلوب وأرواح الناس، وبالتالي بالأضرار الهائلة التي يمكن أن تلحقها بكيان مجتمعات الأمة .
في الماضي، كان وجود رجالات الإعلام يتركز في وسائل الإعلام المحتكرة إلى حد كبير من قبل سلطات الحكم . لقد كانت مهمتهم تكاد تقتصر على تلميع صورة الحكم وكيل المديح لسياساته وذمّ أعدائه . وكنا نشتكي من قلة وسائل الإعلام غير الحكومية .
اليوم انقلبت الصورة، إذ ليست الشكوى فقط من كثرتها وتوفرها في يد كل سوقي ودجّال وصاحب مصلحة خاصة، وإنما أصبحت الشكوى مضاعفة بسبب عدم اقتصار أغلبها على مدح الحكم وتلميع صورته، ففي ذلك مضار مجتمعية محدودة، وإنما لأن بعضها أصبح أيضاً أحد أهم وسائل تمزيق المجتمعات وتفتيتها من خلال تأجيج الخلافات والصراعات بوسائل وكلمات وترميزات وإيحاءات شيطانية مملوءة بالحقارات والابتذال .
بعد محنة بعض رجالات السياسة والدين نواجه اليوم محنة بعض رجالات الإعلام . إنها محنة انخراطهم اليومي، من دون عقل أو ضمير، في تأجيج صراع مذهبي سنّي - شيعي عبثي من أجل توازنات إقليمية ومصالح سياسية لهذه الجماعة وتلك . إنها محنة قبولهم لأن يكونوا أدوات حملات إقصاء أو اجتثاث أو تشويه ظالم لهذه الجماعة أو لتلك الشخصية، وذلك من أجل تبرير ممارسات غير ديمقراطية وغير عادلة ترتكبها هذه السلطة أو تلك . إنها في محنة السير، بقصد أو من دون قصد، في ركاب المشاريع الصهيونية - الإمبريالية لتمزيق هذه الأمة على أسس عرقية ودينية ومذهبية من جهة، وللتشكيك في رابطة العروبة الموحّدة وفي إمكانية الوحدة العربية حتى تبقى أمتنا أمة مجزأة ضعيفة غير قابلة للنهوض الحضاري، من جهة أخرى، وفي فترة الربيع العربي الأخيرة في تشويه وحرف الثورات والحراكات وإلصاق التهم بشبابها وذلك من أجل منع أي تغيير مجتمعي جاد .
وفي سبيل إنجاح أهداف التمزيق وإذكاء الصراعات الفرعية وتشوية الثورات والحراكات تلك تستعمل أساليب إعلامية ملتوية . فهناك أسلوب طمس الكلمات، إذ تصبح الثورات شغباً والمطالب العادلة شروطاً غير واقعية وتعجيزية والتظاهرات السلمية عنفاً، والدفاع عن النفس إرهاباً، والوحدة العربية مراهقة سياسية والعدالة الاجتماعية مؤامرة على الاقتصاد وطرداً للاستثمارات .
وهناك البرامج الحوارية التي تدفع بالمشاهد أو السامع لأن يختار بين أن يكون مع أو "ضد" وإقناعه باستحالة التوافق بين وجهات النظر . وهناك أسلوب انتقاء الأحداث وتضخيمها واستعمالها بانتهازية للتدليل على أن هذه الأمة مصابة بأمراض الاختلافات والصراعات الدائمة، وبالتالي لا تستطيع ممارسة الديمقراطية . وهناك بناء مشاعر الهروب من المشكلات والاستسلام من مثل عبثية الصراع العربي - الصهيوني، وعدم القدرة على الخروج من النفوذ الأجنبي وهزلية كل تفكير وفعل توحيدي لهذه الأمة . وهناك أيضاً إدخال المواطن في عوالم التسلية البليدة والثقافة المسطحة من أجل نسيان كل ثوابت الأمة وكل مطالب الناس العادلة .
من خلال استعمال فاحش ومقيت للسياسة والدين والإعلام يريد البعض إبقاء هذه الأمة في جحيم الضعف والتخلف .
----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس، 6/2/2014.