ليس خبرا أن مصر عاشت عهدين سياسيين فى عام 2013. كما اتسعت الهوة بين العهدين فى علاقات القوى وفى إدارة التعاملات السياسية الداخلية، فإن الاختلاف بين العهدين كان بينا أيضا على صعيد إدارة تعاملات مصر مع العالم الخارجى. والتعاملات الخارجية من نوعين، الأول هو تعاملات ذات طبيعة خارجية مباشرة، وهى تلك التعاملات المتعلقة بالعلاقات الخارجية، وبالمسائل الدولية والإقليمية والثنائية التى تمس مصالح مصر. أما النوع الثانى فهو التعاملات ذات الطبيعة الخارجية غير المباشرة، أى تلك التعاملات التى تنشأ عن الآثار الخارجية لتفاعلات السياسة الداخلية وممارساتها وقراراتها.
فهى بداية النصف الأول من العام، كان قد مر على الرئيس السابق محمد مرسى ستة أشهر فى الحكم وكان قد تزود بدستور بدا أنه ثبَت أسس حكمه ووعد بتوطيده وديمومته. تفاعلات السياسة الداخلية التى أدت إلى انتخابه بدون اعتراض يذكر على مجرى الانتخابات الرئاسية ثم اعتماد الدستور نتج عنهما، وبشكل غير مباشر، أساسا قويا للتعاملات الخارجية لعهد الإخوان المسلمين ورئيسهم. مطمئنا إلى ذلك، مضى الرئيس السابق يواصل تعاملاته مع العالم الخارجى التى كان قد بدأها بعد قليل من توليه الحكم فى سنة 2012. من التحركات المستمرة للرئيس السابق ومن زياراته فى أربع من قارات العالم الخمس، بدا وكأن همه الأول، وهمَ مستشاريه، هو أن يعلن للعالم أن الإخوان المسلمين هنا، وأنهم يبدأون حكما طويل الأمد، وأنهم قادرون على التواصل مع العالم وعلى التعامل معه.
حتى وإن لم تخل الزيارات من اتفاقيات وقعت هنا وهناك، فإنها كانت زيارات خاوية المضمون، فالمضمون لم يكن المبتغى من ورائها بل كان الهدف تأكيد شرعية الإخوان المسلمين على الساحة الدولية. لذلك وباستثناء زيارة للمملكة العربية السعودية وأخرى لأوغندا، لم يقم الرئيس السابق بزيارات ثنائية فى أهم منطقتين بالنسبة لمصر، وهما المنطقتان العربية والأفريقية. أما المسائل الملحة فإما أنه لم تتبلور حيالها سياسة محددة وهذه حالة القضية الفلسطينية التى بدا أن حكم الإخوان المسلمين أراد أن يقول بشأنها إنه هو أيضا معتدل ومنفتح على العالم وأفكاره حول التعامل معها، وإما أنها مثل الصراع فى سوريا، ومثل المسألة الأهم بالنسبة لمستقبل مصر، أى مسألة تأمين وصول مياه نهر النيل إليها، أديرتا بشكل ردىء مفجع.
وربما توضح الأيام أن إدارة هاتين المسألتين، وخصوصا التحول من تأييد الحل السياسى للصراع فى سوريا إلى مساندة الأطراف المسلحة فيه بما فى ذلك جماعات الجهاديين والتلويح بالتدخل للانتصار لها، كانت من العوامل التى أسرعت بالإطاحة بالرئيس السابق فى الثالث من يوليو من العام المنصرم. الحركة المادية كانت وفيرة، أما الحركة الذهنية فكانت شحيحة وركيكة ومترددة مثل التردد فى التعامل مع المؤسسات المالية الدولية وفى الاقتراض أو عدم الاقتراض من صندوق النقد الدولى على الرغم من شهور من التفاوض معه.
عهد ما بعد 3 يوليو ووجه منذ ساعاته الأولى باستنكار التداخل فى العملية الدستورية، وبشكل خاص فى نتائج الانتخابات الرئاسية التى أتت بالدكتور محمد مرسى رئيسا لمصر. الانتخابات حجر زاوية فى النظم الديمقراطية حتى أن الخروج على نتائجها تعتبره هذه النظم تقويضا للديمقراطية ذاتها. المساواة، وعدم التمييز، والعدالة، بما فى ذلك عدالة توزيع الدخل والثروة، صارت صعبة المنال فى أعتى النظم الديمقراطية نفسها بفعل السياسات المتبعة فيها فى العقود الأخيرة. بعبارة أخرى، قيم الديمقراطية ومبادئها تآكلت، ونتائجها أحبطت الآمال المنعقدة عليها فالفوارق بين البشر تزداد اتساعا، والمال سيد، والمسألة الاقتصادية مستعصية، والتشغيل تحد. الجانب الإجرائى هو ما تبقى سليما من الديمقراطية، لذلك وجب التمسك به فى نظر النظم الديمقراطية.
كان أول ما واجه إدارة العلاقات الخارجية لمصر فى العهد الجديد هو تعامل ذو طبيعة خارجية غير مباشرة، نشأ عن تفاعلات السياسة الداخلية، أى عن مسألة الإطاحة بالرئيس مرسى. الحق أن المسألة لم تكن عويصة بالشكل الذى غالبا ما صوِرت به. لم يهدد أحد، ولا حتى أقرب الأقربين إلى حكم الإخوان، بعدم الاعتراف بالعهد الناشئ عن برنامج 3 يوليو، وعلى أى حال فإن إدارة العلاقات مع العالم الخارجى حالت دون أن تتدهور المسألة على الرغم من مناخ المواجهة مع العالم الخارجى وتغذية عقدة الضحية لمؤامرات هذا العالم التى شاعت بين الرأى العام.
تكشف مراقبة إدارة العلاقات الخارجية للعهد الجديد أنها حرصت على التوفيَق بين التعامل مع الآثار الخارجية غير المباشرة لتغييرات 3 يوليو، من جانب، والمبادرة، من جانب آخر. فى الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذ الوفد المصرى مبادرة بشأن إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل كأنما ليعزز شرعيته وشرعية العهد الذى يمثله بالتحرك من أجل السلم فى إقليمه وفى العالم. على الرغم من كل ما قيل ويقال عن الولايات المتحدة، فإن وقفها تسليم عدد من الطائرات المقاتلة لمصر كان إجراء رمزيا لا أثر كبير له من الناحية العملية، وهو إجراء لم تصحبه أى تدابير أخرى ذات نتائج ملموسة على القدرات المصرية.
العلاقات مع الاتحاد الأوروبى استمرت وتعاونه الاقتصادى والاجتماعى لم ينقطع. وبادرت إدارة التعاملات الخارجية فاتجهت إلى تعزيز العلاقات مع روسيا، فى أغلب الظن باعتبار أن تعدد المتعاملين وتنوعهم يوفر حرية وقوة لمصر فى تحركاتها الخارجية، ويدعم شروط تعاملها مع كل الشركاء الخارجيين. أقوى الإجراءات المتخذة بحق العهد الجديد كان تعليق عضوية مصر فى الاتحاد الأفريقى فى تطبيق لقرار لمجلس السلم والأمن الأفريقى لم يخطر ببال متخذيه أنه سيطبق يوما على مصر.
ولكن هذا الإجراء كان رمزيا فحسب، فلقد حضر الرئيس المصرى الجديد القمة العربية الأفريقية فى الكويت والتقى بعدد من الرؤساء الأفارقة، وفى باب المبادرة تعددت زيارات وزير الخارجية لدول أفريقية فيما بدا أنه نسج لشبكة أفريقية واسعة تفيد فى إلغاء وقف عضوية مصر فى الاتحاد الأفريقى، وفى مفاوضاتها بشأن مياه النيل، وعلى المدى الطويل فى تعزيز مواقعها فى النظام الدولى. الواقع هو ان الشاهد على أن العهد الجديد لم يتأثر بأى شكل ملموس من التداخل فى العملية الدستورية يكمن فى تنديد الإخوان المسلمين بالعالم الخارجى بل واتهامهم له بأنه ساند ما يعتبرونه «انقلابا" تعسفيا لأنه لم ينكر على هذا العهد الجديد شرعيته.
ليس معنى ما سبق أن كل شىء على خير ما يرام فى علاقات مصر الخارجية. أطراف خارجية كثيرة، ليس فقط فى العالم المتقدم بل وبين أعضاء الاتحاد الأفريقى كذلك، تنتظر اعتماد الدستور المعدَل فى بداية العام الجديد لتطبيع علاقاتها مع مصر. هذا التطبيع وتنمية علاقاتها الخارجية فى كل الاتجاهات هو ما تحتاجه مصر لتسوية المسائل الخارجية التى تهمها بما يحفظ مصالحها، ولخوض عملية التنمية الشاملة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التى يحتاجها شعبها. غير كل خروج على الدستور المعدَل وعلى القانون سيكون خصما من إمكانية تطبيع العلاقات. ومن المفيد أن يكون واضحا فى أذهاننا أنه لا مجال للاستهتار بتطبيع العلاقات ولا لتجاهل العالم فى نظام دولى له قواعد تحقق مصالح كثيرة للبلدان النامية، ثم فى بلد كمصر اقتصاده منفتح على الاقتصاد العالمى، ويعتمد على التعاون معه.
احترام الدستور والقانون يساعد إدارة التعاملات الخارجية لمصر على الاضطلاع بوظائفها.
---------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأحد، 5/1/2014.