لعبت بالطبع دول كثيرة على دعم «الجهاديين» تحت حجة دعم الثورة، وهلل الكثير من «المعارضين» لدفق «الجهاديين» الذين قدموا لكي يسقطوا السلطة، كي يتسلموها هم. وقد انهالت الأموال، وانهال السلاح على هؤلاء. وإذا بنا نلمس توسعاً كبيراً عليهم على حساب الكتائب الشعبية المسلحة و «الجيش الحر». ونلمس كيف تعمل «دولة العراق والشام» (داعش) على فرض «دولتها» عبر تصفية الكادرات الإعلامية والإغاثية والشعبية، والسعي الى تصفية الكتائب المسلحة و «الجيش الحر». ومن ثم تشكل جيش الإسلام، وأسست مجموعات أصولية الجبهة الإسلامية التي تهدف إلى إقامة «دولة الإسلام»، والتي أخذت تفعل كما تفعل داعش من خطف الناشطين إلى مهاجمة الجيش الحر والكتائب الشعبية المسلحة.
إذاً، كل هؤلاء يركزون على تصفية «المنافسين»، ومحاولة السيطرة على المناطق التي لا تقع تحت سيطرة السلطة. وبعضها يشتبك مع السلطة، لكنه ينسحب لكي تسيطر كذلك، في معادلة توازنات تهدف إلى بقائه القوة الوحيدة.
كل هذا الوضع أصبح يشكل خطراً على الثورة، وهو خطر كبير لا شك في ذلك. وقد عملت على تشكيله قوى عدة منها السلطة كما أشرنا، وكذلك قوى إقليمية ودولية، بهدف تدمير الثورة، لأن رأس الثورة هو المطلوب ليس فقط من جانب السلطة بل من جانب قوى إقليمية ودولية، تحسست خطر توسع الثورات في البلدان العربية في عالم يسمح بتوسع عالمي لها.
وعلى رغم إرهاب السلطة التي مارست كل أنواع القتل والتدمير بما يفرض أن تحاسب كونها مارست جرائم ضد الإنسانية، وعمدت إلى الإبادة الجماعية، من خلال استخدام كل أنواع الأسلحة، من قصف الطيران إلى البراميل المتفجرة إلى صواريخ سكود إلى الأسلحة الكيماوية، لم يلتفت «الغرب» سوى إلى وجود الإرهابيين، واستغلال استخدام الأسلحة الكيماوية لسحبها خدمة للدولة الصهيونية... وظل يشير إلى وجود الإرهابيين.
الآن، تعتقد السلطة السورية أنها وصلت إلى ما أرادت، فقد ظهر أن من يحاربها هم الإرهابيون، وهم فعلاً إرهابيون وليس كما كانت تدّعي بداية الثورة. ولهذا تطرح معادلة «الحرب على الإرهاب»، المنظور الذي اخترعته أميركا، والذي عبأت له منذ سنوات، وبات يشكل خطاً أحمر لسياساتها. بالتالي بات المطروح هو تحقيق التحالف ضد الإرهاب، بين السلطة و «الغرب» من جهة، ومع «المعارضة الوطنية» من جهة أخرى. مجموعة الثماني ركزت في لقائها الأخير في لندن على «أولوية محاربة الإرهاب»، وهذا يعني أنها باتت أقرب إلى السلطة السورية التي تطرح الأمر ذاته.
انقلب الأمر، إذاً، من أن ما يجري هو ثورة إلى سلطة تحارب الإرهاب. ويبدو أن الحشد نحو جنيف يراد له أن يسير في مسار التحالف ضد الإرهاب، أو على الأقل السلطة تريد ذلك. فهذا الأمر هو وحده ما ينقذها ويثبّت وجودها. ولا شك في أن وجود داعش والنصرة والجبهة الإسلامية يشكّل خطراً، على الثورة وعلى سورية عموماً. فهي قوى ليست قادرة على بناء دولة إذا تجاوزنا طابع الدولة التي يطرحون إقامتها (وهي دولة تفرض مجتمعاً متخلقاً قروسطياً، بدائياً، من دون إنتاج أو اقتصاد عموماً، ولا دولة، بل عصابات تمارس القمع «الأخلاقي»، وفرض الصلاة بالقوة)، حيث ستقام إمارات لأمراء «جهلة» (بالمعنى التاريخي والثقافي والحضاري). ومنذ وجدت اشتبكت مع الشعب الثائر، وبات الشعب في صراع متعدد، من جهة مع السلطة، ومن جهة ثانية مع هذه القوى. ومن ثم لا بد من أن تواجه، لأنها في كل الأحوال تواجه الشعب.
لكن تشكيل تحالف مع السلطة لمواجهتها هو أمر آخر، حيث إن السبب الأساس هو السلطة التي فرض وجودها انفجار الثورة، ولا يغيّر من ذلك نشوء تناقض مع طرف آخر. فالثورات تشهد صراعات متعددة في الآن ذاته، والتاريخ يتطور عبر الصراعات المتعددة، وأحادية الصراع هي تبسيط فظ نتج من «جهل ماركسي». لكن لا شك في صعوبة الوضع، حيث يواجه الشعب قوى متعددة تمتلك السلاح والمال، وهو أعزل ومن دون دعم، ويواجه موقفاً ملتبساً أو سلبياً من قوى كان يجب أن تقف معه (أمثال قطاع كبير من اليسار). المحور هنا هو السلطة، حيث أفرز عنفها، ومخططاتها، وتواطؤ دول إقليمية ودولية، نشوء هذه القوى التي تصنف على أنها إرهابية. وساعد صراع الشعب ضدها، ومواجهته لوحشيتها على تغلغل هذه القوى، وانخراط شباب ثوري يريد إسقاط النظام في صفوفها لأسباب كثيرة، منها الحاجة إلى السلاح والمال، ومنها فوضوية الكتائب المسلحة وهشاشتها. لهذا، ولكي تضعف ويمكن مواجهتها لا بد من تحويل وضعية الصراع ذاته. وهذا لا يتحقق إلا بإزاحة الأسد وكل المجموعة التي ارتبطت به. فذلك هو ما يجعل قطاعاً كبيراً من الشعب يقبل الحل، ويوافق على التغيير، وينخرط في هذا المسار جزء مهم من الكتائب المسلحة، لتصبح تلك القوى الأصولية ضعيفة ومحاصرة. في المقابل، إن إزاحة الأسد ستسمح بتحرر قطاعات مهمة من الجيش هي محيدة الآن، ومن ثم انخراطها في الصراع ضد الأصوليين ولفرض النظام.
هذا هو مسار محاربة الإرهاب، لكنه في الأساس مسار الخروج من الاستعصاء القائم، والانتقال إلى مسار جديد، من دون عنف وبلا دموية. هل يقود «جنيف 2» إلى ذلك؟ ربما، لكن لا بد من التشديد على أن «الحلقة المركزية» تتمثل في إزاحة الأسد وزبانيته. وبالتالي، فإن ما أرادته السلطة لن يتحقق إلا على جثتها.
---------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الثلاثاء، 24/12/2013.
رابط دائم: