هل كانت الحكومة المغربية تتوقع إسقاط مشروع موازنة العام القادم أمام مجلس المستشارين، أم أنها ركنت إلى حسابات، كانت مغايرة بإيقاع المواجهة بين المعارضة والسلطة التنفيذية؟ في أي حال فإن الضربة الموجعة التي تلقتها من نصف المؤسسة الاشتراعية التي تسيطر عليها المعارضة، ستدفعها إلى معاودة النظر في أسبقيات الخيارات الاقتصادية، أقله لناحية قبول تعديلات كتل المعارضة، عند إحالة مشروع الموازنة على مجلس النواب (الغرفة الأولى).
رمزية إسقاط المشروع ذات أبعاد سياسية، وإن لم تصل إلى مستوى إطاحة الحكومة، لأن مجلس النواب وحده يملك صلاحيات سحب الثقة منها عبر ملتمس رقابة. وجاء تعديل دستور العام 2011 ليجعل التنصيب الديموقراطي للسلطة التنفيذية من اختصاص الغرفة الأولى، التي يتشكل الائتلاف الحكومي على أساس تركيبتها وتوازناتها الحزبية. والحال أن مجلس المستشارين يضطلع بنفوذ اقتصادي واجتماعي أكبر.
كي تكون حكومة رئيس الوزراء عبدالإله بن كيران منسجمة مع نفسها، تضطر للإذعان إلى تعديلات المعارضة، بخاصة وأن معاودة القراءة الاشتراعية الثانية لمشروع الموازنة أمام مجلس النواب الذي أجازه في وقت سابق، يفترض أن تستند إلى حدوث تغيير في المشروع، يبرر معاودة درسه وإقراره. غير أن الحدث يظل سياسياً بامتياز، أقربه أن المعارضة فرضت رؤيتها على الحكومة. وأن تعديلاتها المقترحة لا بد أن تجد طريقها إلى التنفيذ، ما يعني أن إسقاط مشروع الموازنة كان مناسبة سياسية أفسحت للمعارضة تأكيد أن من دون إرضاء بعض مطالبها، يمكن للمسألة أن تنحو في اتجاه مغاير، قد ينسحب على كافة مشروعات القوانين التي تحال على مجلس المستشارين. وصار مفهوماً أن رغبة المشرع في أن تكون الغرفة الثانية صوتاً للفاعليات الاقتصادية والاجتماعية، مثل رجال الأعمال والمركزيات النقابية وكبار المنتخبين المحليين، تهدف إلى الملاءمة بين التوازنات السياسية والاقتصادية.
لن يمر هكذا حدث من دون مضاعفات، أقلها أن إجازة مشروع الموازنة أمام مجلس النواب في الرمق الأخير للعام الحالي، سيترتب عليها إرجاء استحقاقات مالية، بخاصة وأن الحكومة لجأت في وقت سابق إلى تعليق صرف اعتمادات مالية تطاول ميدان الاستثمارات. وستكون مضطرة إلى سباق الزمن، كي تبدأ السنة المالية القادمة، من دون تعثر، في ظل تزايد انتقادات المعارضة ونفاد صبر المركزيات النقابية التي تمسك بالحل السحري للسلم الاجتماعي. وسيكون صعباً على رئيس الحكومة بن كيران أن يمضي قدماً في العام الثالث لولاية حكومته، من دون تقديم تنازلات تحد من مظاهر الاحتقان الاجتماعي.
سياسياً أبانت المعارضة عن قدرة في إدارة الصراع، مع الإبقاء على خيوط التواصل، فالرسالة التي هدفت إلى تبليغها من خلال إسقاط مشروع الموازنة المالية، وصلت في الوقت الملائم، ويبدو أن انسحاب الاستقلال من الحكومة كان له المفعول القوي في حشد صفوف المعارضة. لكن من دون الوصول إلى القطيعة والاتجاه نحو إطاحة الحكومة. ولم يحدث أن تعرضت الموازنة لمثل هذه الضغوط حين كان الاستقلال يشارك في الحكومة. غير أن استبداله بتجمع الأحرار الذي يملك حظوظاً متساوية في مجلس المستشارين، لم يحل دون اتفاق كتل المعارضة: الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة والاتحاد الدستوري، في سابقة تؤشر لما ينتظر الحكومة من صعوبات.
تبدو اللعبة مثل إناء مليء بالحليب يوضع على النار. والشاطر من يجعله يغلي، من دون أن يفيض. وبالقدر الذي يميل رئيس الحكومة إلى الاطمئنان إلى غالبيته الجديدة في الطبعة الثانية للحكومة، بالقدر الذي يتعين أن يحظر المشي فوق الألغام الاجتماعية المزروعة في كل جانب. ففي آخر تقدير اهتمت الحكومة بالانفتاح على الرأسمال إلى درجة إقرار قانون للبراءة الضريبية في مجال تهريب الأموال إلى الخارج. لكن المبادرة باتت تطلب براءة سياسية في الداخل، أي معاودة عقارب الساعة إلى الوفاق الحزبي الذي لا ينال من خيارات تباين المواقع بين المعارضة والحكومة.
استخدام البرلمان آلية لإدارة الصراع السياسي أنجع من انفلات الشارع، ورهان الحكومة بدأ يضيق في حال عدم الإقدام على خطوة شجاعة للإفادة من السلم الاجتماعي. فالأصوات التي ارتفعت في مجلس المستشارين يمكن أن تلجأ إلى وسائل أخرى، وفي تاريخ المواجهات بين الحكومة والمعارضة اضطلعت المركزيات النقابية بدور مؤثر يقلب كافة المعادلات. وإذ يعكس الجدل القائم بعض المستور في تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي يجتازها المغرب، يصبح لزاماً البحث عن وصفات علاجية تحت يافطة المشاركة الفاعلة للمعارضة والحكومة على حد سواء.
-------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد 22/12/2013
رابط دائم: