حروب فرعية عابرة للحدود
15-12-2013
رغم كل الأجواء عن التسويات السياسية في المنطقة، هناك فجوة عميقة بين المصالح الدولية الكبرى وبين الأوضاع داخل دول المنطقة . نشأت معطيات في العراق وسوريا ولبنان نتيجة تدخلات خارجية، لكنها لا تعكس بالضرورة توازنات القوى الداخلية، ولا يمكن أن تستقر هذه البلدان ما لم تحصل تسويات ترضي الجماعات والقوى الفاعلة . بعض التسويات أو صياغة الأنظمة تكون نظرياً مقبولة فتنقضها الممارسة العملية أو تنقلب عليها كما في لبنان منذ اتفاق "الطائف"، أو العراق مع إقرار الدستور الجديد وتكوين مؤسسات ما بعد الحرب . 
 
دخل العراق في عملية سياسية منذ ثماني سنوات وجرت توافقات على توزيع السلطة وحصلت انتخابات، لكن النظام السياسي الجديد شيء، والقوى السياسية أو المؤسسات الشعبية شيء آخر . وفي لبنان كان الأمر كذلك بين دستور معدل وبين قوى وتيارات عطلت تطبيق الدستور وأنشأت سلطات واقعية ما زالت لا تقبل الانخراط في مؤسسات الدولة على نحو ما هي عليه أحكامها . زادت الأمور تعقيداً في المشرق العربي كله عندما انهارت الحدود الكيانية بسبب الفوضى الدائرة والاستقطابات الإقليمية التي تخترق الدول الثلاث: لبنان، سوريا، العراق . فعلى هذا المسرح نحن أمام قوى سياسية مسلحة كلها تدّعي المظلومية وعدم الرضى عن طبيعة الحكم وممارساته . ونكاد نسمع الخطاب نفسه عن الغبن والخوف والحاجة إلى ضمانات وتطمينات، فكل القوى تشعر بالاستهداف بعضها من بعض . فإذا ما تراجع نسبياً التدخل الخارجي المباشر، أو استحالت الحروب على شكل جبهات بدأت حروب من نوع آخر كالتي يشهدها لبنان اليوم من تفجير واغتيال ومن توترات موضعية ومحلية محصورة في بعض المواقع، لكنها تعكس المناخ العام والانقسام الكبير وتحاول التعبير عنه، كما هي الحال في مدينة طرابلس وبين أحيائها . في كل هذا المشهد لا يرتضي الفرقاء فكرة الهزيمة أو الانتصار أو نجاح طرف على آخر كما يقال من خلال التسويات الدولية . عملياً التسويات الدولية كانت معقودة على مصالح الدول الكبرى ومطالبها وهي تسويات تتضمن عناصر في مصلحة جميع الأطراف .
 
يصعب إذاً القول أن التسويات الدولية تترجم مباشرة على الأرض في نزاعات لم تنشأ أصلاً عن التنافس الدولي، بل عن ظروف داخلية ومشكلات عميقة لها علاقة أساسية بالأنظمة السياسية وطريقة إدارة الدول والسلطات فيها وتوزيع الثروة ومستويات العيش وطريقة العيش وصفة الحاكم والمحكوم وأساليب الحكم ومستوى المشاركة والحرية . لذلك تبدو المنطقة وقد تراجعت احتمالات حروب الدول فيها باقية إلى أزماتها ونزاعاتها وحروبها الصغيرة . وإذا كان المجتمع الدولي يساعد على محاولة الوصول إلى حلول، فإن هذه الحلول بعد اندلاع العنف الواسع والشامل والخسائر البشرية والمادية والأحقاد والكراهية ليست سهلة بين النخب السياسية وبين الجمهور الذي في كل مدينة ومنطقة، فللحروب مشكلاتها فوق المشكلات التي تبدأ بسببها .
 
تجذّر العنف في المنطقة وتفلّت الناس من سلطة الدولة والقانون، وانتشر السلاح ونشأت جماعات مسلحة بات يصعب ضبطها، وهي قادرة على تكوين موارد لها من كل الأنشطة غير القانونية، فضلاً عن مصادر الدعم الخارجية . فالأمن هو بالأساس مناخ سياسي تقوم الدولة على تعزيزه . وهو ينبع من شعور الناس بقدرتها على التأثير في الحياة العامة من غير اللجوء إلى العنف . لكن حين تقوم سلطات متحكمة أياً كانت طبيعتها فهي تصادر القدرة على التأثير في مجريات الأمور . وأياً كان سبب العنف فهو حين يصير متداولاً وخارج السيطرة والمساءلة والمحاسبة يستدعي العنف ويجر إليه المزيد من المتدخلين . فمنذ ثماني سنوات دخل لبنان هذا الجو ولم تنجح كل الإجراءات والمحاولات الهادفة إلى استعادة سلطة الدولة . على العكس من ذلك صار السلاح يبرر السلاح والقوة تبرر القوة . فالدولة وحدها تحتكر القوة وتحظى بشرعية احتكار القوة وممارستها تجاه جميع مواطنيها . أما قوى الأمر الواقع مهما كانت القضايا التي تحملها أو تحاول إضفاء المشروعية عليها، فهي تبقى سلطات فئوية عاجزة عن ممارسة وظائف الدولة ومهامها . على أي حال لم تعد الجماعات المسلحة في لبنان قادرة على تسويغ أي طرح سياسي طالما هي تجاوزت حدود الدولة والكيان بوضوح وانخرطت في نزاعات مباشرة في بلدان أخرى . فمهما كان السبب الذي من أجله تتحرك هذه الجماعة أو تلك فهي تعلن عدم احترامها لكيان الدولة، كما تعلن عدم التزامها بدستور هذه الدولة ومؤسساتها . وبقطع النظر عن ولاء هذه الجماعات لتيار سياسي أو فكري إقليمي عابر للحدود، فهي بهذا السلوك لا تعترف بقواعد الاجتماع السياسي وأحكامه وتأخذ البلد إلى صراعات ليست محل اتفاق أو قبول وتصادر إرادة المجتمع والدولة . إن حجم المخاطر التي باتت تترتب على تداخل المشكلات بين دول المشرق العربي أكبر من أن تحسمها مواجهة عسكرية أو حربية أو أمنية أو تسوية خارجية يراد لها أن ترجّح نفوذ دولة على أخرى . لقد أصبح منطق الغلبة بهذا المعنى له ترجمات في توازنات داخلية تحمل طابع الإخضاع . وفي تنازع الإرادات هذا تعيش المنطقة أكثر مراحلها صعوبة وتوتراً وعنفاً .
 
---------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 15/12/2013.

رابط دائم: