كان الهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة عشرات المواطنين والأجانب داخل مستشفى تابع لوزارة الدفاع، مثيرا للاشمئزاز.. عملية أقل توصيف لها هو المجزرة، إذ إن القتلة استخدموا أسلحتهم وأطلقوها على كل من تصادف وجوده في طريقهم، وهذا يدل على أن الهدف الأساسي للعملية هو إثارة الرعب وحصد أكبر عدد ممكن من البشر، وكان عرض الأشرطة التي التقطتها الكاميرات الداخلية للمستشفى غاية في البشاعة وما كان مناسبا إذاعتها احتراما للقتلى وأسرهم، وحرصا على مشاعر المواطنين. لم يكن الأسلوب الذي اتبعه القتلة مغايرا لما احترفته هذه الجماعات الإرهابية، من قتل بدم بارد ودون وجل أو رادع من دين يزعمون انتماءهم له، وهي التي تمثل جزءا أصيلا نشأ وترعرع تحت عباءة الحركات الجهادية التي نشأت في أفغانستان، ثم تشرذمت وصارت تسري في جسد كل بلد عربي بأنماط مفزعة لا يمكن الاكتفاء بالتنديد بها وإصدار البيانات لاستنكار بشاعتها، كما أنه يجب ألا يتوهم أحد بأنه سينجو من آثارها ما لم تتكاتف الجهود ويتعاون الجميع لانتشال اليمن من الهاوية السحيقة التي أوقعها فيها ساسته بتهافتهم على تمزيق أوصاله ونهب ثرواته، وانشغالهم حاليا في صغائر الأمور التي لا تسمن المواطن ولن تغنيه من جوعه، وأرجو أن يكون هذا الفعل الإرهابي البشع ناقوسا مدويا لدى كل جيران اليمن ويدفعهم إلى الانغماس الإيجابي في شأنه، وألا يتركوه بيد مبعوث دولي لا يستطيع إلا أن ينفذ حرفيا ما يمليه عليه الذين ينظرون إلى اليمن كحقل تجارب لسياسات التغيير التي اتبعوها في كل قطر عربي انغمسوا في ربيعه.
أنا لست ممن يحلمون بأن يشهد جيلنا وربما أجيال قادمة أن يصبح اليمن جزءا فاعلا وعضوا أصيلا في مجلس التعاون، ولست هنا بمعرض العتب، ولكنني أدرك أن المشكلات التي يعاني منها اليمن هي مسؤولية اليمنيين أولا وأخيرا، كما أنني أعلم علم اليقين أن اليمن لا يمكن أن يكون هدفا قريبا ومستقبليا للمجلس، كما هو الحال مع الأردن الذي أفهم مسوغات الإلحاح على ضمه، ولن أتحدث عن حالة المغرب؛ لأن ذلك أمر يقدره قادة المجلس، فأهل مكة أدرى بشعابها، لكنني أعلم أيضا أن اليمن جزء أصيل من النسيج الاجتماعي والامتداد الجغرافي الطبيعي والتمازج في تقاليد أبنائه، وهو عمق حقيقي وضروري لدول المجلس، وهذا ما يستوجب على أبناء اليمن أولا أن يثبتوه وعليهم يقع العبء الأكبر، إن لم يكن كله، ليبرهنوا على أنهم رغم الفقر والبؤس قادرون على تجاوز العقبات الحقيقية التي تقف أمامهم وأولها من دون منازع: بناء الدولة، من دون ذلك سيظل اليمن يدور في حلقة مفرغة من الاستجداء الرسمي، وينعكس ذلك سلبا على شعور بالنفور قد يتحول إلى مشاعر غير ودية تغذيها تصرفات وتصريحات غير مسؤولة لربما كانت فردية.
إن ما يجري حاليا في اليمن لا يبعث على الطمأنينة بمستقبل أفضل، ومرد ذلك أن الإدارة الحالية للبلاد لم تختلف إلا من حيث القشور عن سابقتها في تقديم الخاص على العام وتحكيم المزاج الشخصي على المصلحة الوطنية، وتثبيت المحاصصة الحزبية على الكفاءة والاستقلالية، كما أنها انشغلت خلال العامين الماضيين واستنزفت الجهد والوقت والكثير من المال في محاولات باءت بالفشل لتقويض كل معالم النظام السابق بدلا من البناء على الإيجابي مما خلفه، وإن عد كثيرون أنه لم يكن ذا قيمة، وأدى ذلك إلى إحداث فراغات، وخصوصا في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، ولم يستطع الوافدون الجدد ملأها لقلة الخبرة في حالات وعدم الكفاءة في حالات أكثر، وأضيف إلى ذلك أن عملية صناعة القرارات لم تمر عبر قنواتها الطبيعية، بل سيطر على كثير منها عدم التدقيق في الاختيار بسبب اللجوء إلى مرضاة الأحزاب ومحاباة بعض الأفراد ممن برهنوا القدرة على التلون والتقلب والنفاق، وترك تسيير أمور البلاد لأفراد تتقدم الثقة فيهم على الكفاءة.
عامان مرا من تاريخ اليمنيين وكان المؤمل فيهما أن تتمكن الإدارة الجديدة من الاستفادة من الاهتمام الإقليمي والدولي، ولكن التخبط وعدم وضوح الرؤية والتردد كانت محصلتها أن توارى إلى الظل التأثير الإقليمي وبرز وجود ممثل الأمم المتحدة وصار في نظر الوافدين الجدد الفيصل والملجأ والحاكم في كل ما يختلفون عليه أو يريدون تحقيقه، ولا أدري المبررات الحقيقية لما يبدو أنه انكفاء أظهرته الأمانة العامة لمجلس التعاون وصار دورها هامشيا ولا يسمع عنه اليمنيون إلا في البيانات التي تصدر عند وقوع حادثة إرهابية أو كارثة طبيعية.
إن التعامل مع اليمن يجب أن يكون منطلقا من قناعة دول الجوار بأهمية اليمن وتأثيره سلبا وإيجابا وأن تفكك هياكل الدولة وعدم قدرتها على بسط نفوذها خارج نطاق العاصمة وحتى داخلها كم شاهدنا وسمعنا، وما يجري في صعدة من حروب مذهبية كل يوم، وتزايد حالات النقمة والغضب في الجنوب، والشكوى الدائمة محليا وخارجيا من أداء الحكومة وعجزها في تحقيق أي منجز، كل هذه العوامل يجب ألا يعدها الأشقاء شأنا داخليا، بل عليهم واجب التنبيه إليه، وإنهم مطالبون إنسانيا ومن منطلق مصلحتهم الوطنية بأن يعملوا ويتدارسوا السبل لإنقاذه، لأن البقاء خارج دائرة الفعل يجعل الكثيرين يتصورون أن دول الجوار لا يهمها أمر اليمن.
لقد قدمت دول مجلس التعاون الكثير من العون الأخوي منذ سنوات طويلة، وسيظل اليمنيون يتذكرون هذا بعرفان، ومن الممكن أن يصبح اليمن عونا وسندا ورافدا عندما يعود إليه زاهر مجده، وهذا يتطلب جهدا جماعيا وإدراكا بأهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به بما يملكه من مخزون بشري وسوق اقتصادية مستقبلية عندما يتعافى. ومرة أخرى، اليمنيون هم المعنيون بأن يعيدوا الأمل لأنفسهم وأن يبرهنوا على قدرتهم على تجاوز المصاعب، وحينها أنا على يقين بأن أشقاءهم لن يتوانوا عن مد يد العون إليهم، ولن يتركوا اليمن ساحة صراع ينفرد بتقرير مصيره مبعوث دولي لن تحفظ له ذاكرة التاريخ اليمني إلا أنه بنى مجدا لنفسه، وإن على حساب مجد اليمن.
لقد أثبتت عمليات القتل الجماعي التي مارستها فرق الموت ولم تميز فيها بين طفل وشيخ، رجل وامرأة، أن الذي يجري هو نتاج طبيعي لإهمال داخلي واستخفاف بحياة المواطنين وعدم قدرة الأجهزة على تحمل مسؤولياتها، وللأسف وأتمنى أن أكون مخطئا، فإن آثاره ستتعدى حدود اليمن الذي يراه هؤلاء الوحوش الآدمية ساحة تدريب على القتال.
---------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأحد، 15/12/2013.
رابط دائم: