عندما ينشر هذا المقال سوف سيكون قد مضى أيام منذ الإعلان عن وفاة الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا عن 95 سنة قضى منها 27 سنة في السجن، و23 سنة في الحرية مناضلا سياسيا ورئيسا وقائدا وملهما للقارة الأفريقية، وحائزا جائزة نوبل للسلام، ورمزا لنضال الإنسانية من أجل عالم أفضل. تفاصيل كل ذلك سوف يجري نشرها منذ مولده وحتى ساعة وفاته، فخلال الـ24 ساعة بعد وفاته مباشرة كانت الصحف والمحطات التلفزيونية أفردت بالفعل المساحة والوقت للحديث عن مانديلا، طفولته وشبابه، نضاله في السجن وما بعده، تقييم الفترة التي قضاها في الحكم، وعلاقاته بقادة وزعماء الدنيا كلها، خاصة بالقادة الأميركيين الذين انقسموا بين من رآه إرهابيا أصيلا مثل رونالد ريغان، ومن وجده شعلة للحرية والأمل مثل بيل كلينتون وباراك أوباما. لن يوجد ما يمكن إضافته لهذه الآلة المعرفية والإعلامية الضخمة بعد أسبوع من الوفاة، اللهم إلا إذا فرض التساؤل نفسه عن سبب الندرة في هذه النوعية من الرجال. وبالنسبة لعربي، فإن السؤال يكون ملحا بشدة في زمن التغيرات الكبرى الحالية في المنطقة العربية، فالمدهش أنه رغم ما جرى في الدول العربية مؤخرا، فإن أيا منها لم يفرز قائدا يمكن الإشارة إليه، ولم يكن فيها حديث سوى إعادة تعليب ما حدث منذ مطلع العقد الراهن من ثورات وربيع وخريف في علب قديمة. الثوار أنفسهم لم يكن لديهم سوى الرفض، والانتقال من ثورة إلى أخرى، وفي أحيان، كما حدث في ليبيا وسوريا، تحول الأمر كله إلى ميليشيات يسودها حرب وعنف، الجميع ضد الجميع.
حالة جنوب أفريقيا لم تكن حالة عادية من حالات العالم الثالث التي طالها الاستعمار، وصارت فيها دعوات التحرر بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد نضال حصلت على الاستقلال. ما جرى فيها كانت عملية استيطانية كبرى من الهولنديين والفرنسيين والبريطانيين الذين استولوا على بلد شاسع وأقاموا فيه دولتهم الاستيطانية التي لم تختلف كثيرا عما جرى في فلسطين، وكان لها مثيلاتها في زيمبابوي ودول أفريقية أخرى في نطاقات أضيق. ولم يأت هؤلاء المستوطنون للاستعمار وكفى، وإنما أقاموا دولتهم على أحط أنواع الأفكار اليمينية الرجعية المتطرفة التي تولدت في أوروبا، ومن ثم قاموا بعمليات للفصل العنصري التام مع سكان البلاد الأصليين وأصحابها، وحافظوا على بقائهم ضعفاء وفقراء مع اعتبار ذلك نوعا من الأوضاع الطبيعية التي تليق بشعوب متخلفة. البيئة هكذا مولدة للمقاومة، والعنف أيضا، وكان ذلك ما جرى في الكثير من البلدان الأفريقية، ودول العالم الثالث الأخرى، وعندما شارك مانديلا في أنشطة ثورية مختلفة كان نصيبه السجن الطويل. إلى هنا كان مولد مناضل ومقاتل ضد قوى استعمارية استيطانية رجعية جبارة الموارد، وكثيرة المال، وحاصدة لتأييد غير قليل من قوى دولية كبرى وعظمى. ولكن مانديلا الآخر ولد في السجن حينما صار قوة ملهمة لملايين المضطهدين والمظلومين في قارات العالم المختلفة، دخل مانديلا إلى ذلك النادي الذي يضم غاندي ومارتن لوثر كينغ الذين تداخلت في أفكارهم صورة المقاومة مع نزعة إنسانية واضحة لا تريد فقط تحرير المظلومين، ولكن الظالمين أيضا. هنا تتسع القلوب والعقول لكي تتحمل المعضلة النفسية لجانبي الصراع، وتصبح قادرة على التعامل معها من خلال التسامح والاستيعاب والبحث عن حلول وفرص للتعايش المشترك. ليس معنى ذلك أن مانديلا كان على استعداد للاستسلام، بل إنه كان صلدا في ضرورة أن تكون جنوب أفريقيا الجديدة قائمة على حكم الأغلبية ومن ثم يحكم الغالبية الأفريقية من أهل البلاد الأصليين. ولم يقبل حلولا من نوعية إزالة الفصل العنصري مع بقاء البيض في الحكم، أو إعطائهم أغلبية خاصة دائمة في البرلمان. ولكنه كان يعرف أن جنوب أفريقيا الجديدة وحتى تكون جديدة حقا، لا بد أن تكون لديها القدرة على احتضان كل من يعيشون على أرضها. هنا، فإن النضال الوطني لم يكن سبيلا للانتقام، وإنما للبناء، ولا طريقا للكراهية والبغضاء، وإنما للحب والتفاهم، ولا تكريسا للخوف من استبداد مضى، وإنما الأمل في مستقبل مقبل.
لم يقض مانديلا في الحكم أكثر من فترة رئاسية واحدة، وفاق في ذلك جورج واشنطن الذي وضع أساس الفترتين الرئاسيتين في الولايات المتحدة عندما رفض البقاء في الحكم لفترة ثالثة، وهو ما كان مسموحا به حتى جرت التعديلات الدستورية التي ثبتت هذه القاعدة بعد الحرب العالمية الثانية. وحينما ترك الحكم بكل ما فيه من تفاصيل، كان بمقدوره أن يركز على القضايا الكبرى والأعظم التي تهم بلاده وتهم العالم. تفاصيل ذلك سوف يجري ذكرها من قبل آخرين، ولكن السؤال الملح هو أن العالم العربي الذي قدم مجموعة لا بأس بها من قادة التحرر الوطني، فإنهم جميعا لم يكن لديهم ما هو أكثر من التخلص من الاستعمار. كان لديهم أفكار غامضة عن البناء والتنمية، ولكنهم لم يتعدوها إلى مصالحات تاريخية مع التنوع القائم في المجتمع، ولم يصلوا إلى أن أصل البناء يحتاج إلى تعليم مختلف وقيم مختلفة. ولا يمكن تفسير ما يحدث الآن في الكثير من البلدان العربية من انفجارات إثنية ودينية وعرقية، إلا أن الثورات وحروب التحرر لم يكن فيها ما يخلق تسامحا وتفاهما بين الأعراق، وإنما وضعت الأساس للصدام فيما بينها. باختصار فإن المجتمعات التي قامت على الخوف من الاستعمار والاحتلال الأجنبي، ظلت مجتمعات قائمة على الخوف، سواء من السلطة أيا كانت، أو من الآخر في المجتمع، وكلاهما كان إذا أتيحت له الفرصة أشد قسوة من المستعمر في الماضي والسلطة في الحاضر. مجتمعات الخوف هذه لم يكن فيها للأمل نصيب، وعلى الأغلب قامت على التشاؤم، وما كان فيها من تفاؤل كان قليلا واحتفاليا. كانت ابتسامة مانديلا الشهيرة واحدة من أهم أسلحته في المقاومة والبناء والتغيير. نادرا ما ضبط صدام حسين أو حافظ الأسد أو معمر القذافي أو علي عبد الله صالح أو غيرهم متلبسا بالابتسام، بل إن تجنبها كما يبدو كان فريضة، لأنها ربما تنم عن الضعف أو الخفة في ميزان السلطة والسطوة.
لا أدري عما إذا كان ممكنا ميلاد مانديلا عربي بعد أن تحول حلم الربيع العربي إلى كابوس خريف جاء قبل الأوان، ولم يكن الشباب أسعد حالا من الآباء، ولكن التاريخ - على أي حال - فيه مفاجآت كثيرة!
---------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأربعاء، 11/12/2013.
رابط دائم: