شجع فرنسا في تدخلها في أفريقيا الوسطى، أن تجربتها في تطهير شمال مالي من المتمردين والحركات المتطرفة قوبل بترحيب وتقدير. ولم يعد وصول القوات الأجنبية إلى الموانئ والمطارات الأفريقية يثير أي تحفظ. فقد توارت الحسابات إزاء كل ما هو أجنبي، عندما يتعلق الأمر بإخماد بؤر التوتر التي عجز أهل البيت الأفريقي في تطويعها.
لكن باريس التي ارتمت في الحضن الأميركي زمناً انتفضت الآن على طريق تعزيز وجودها في المستعمرات الأفريقية السابقة. وبدا أنها تتجاوز الطموح الأوروبي نحو الاستئثار بدور متميز، لم تسبقها إليه عواصم أوروبية أخرى، مثل إسبانيا والبرتغال وبريطانيا كان لها تأثير في العلاقات والمستعمرات السابقة. وانكفأت كما الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس تتلمس أدواراً في مناطق أخرى في العالم.
لا علاقة للتدخل الفرنسي في العاصمة بانغي بتداعيات الأزمة السورية التي قيدت حركات الدول الغربية بالحاجة إلى استصدار قرارات عن مجلس الأمن. ففي أزمة مالي التي أعقبت اندلاع الصراع الدامي في سورية، لم يكن عصياً على باريس وباقي الأعضاء المتنفذين في مجلس الأمن حيازة ضوء أخضر للتدخل العسكري. هنا لا وجود لأي فيتو روسي أو صيني لأن موسكو وبكين غير معنيتين بالسباحة في المياه الدافئة. غير أن ما هو أبعد من التدخل العسكري الفرنسي أن باريس تجاهر بدورها في المستعمرات الأفريقية السابقة. كمن يقايض بأكثر من ورقة في اليد. إنها تقول بالفم المليان: اتركوا أفريقيا وابحثوا عن أي مكان آخر في أرض الله الواسعة.
بعد مرور عقدين على الغزو الأميركي للعراق وتمدد النفوذ الأميركي شرقاً وغرباً، اختارت باريس أن تقطف الكعكة التي في متناول اليد. إنها تدرك انشغالات الأميركيين بسحب قواتهم من أفغانستان بعد العراق، والتأثير القوي للأزمة الاقتصادية والمالية في الانكفاء الأميركي. لذلك تسارع الخطى من أجل معاودة ترتيب الأوضاع في المجال الحيوي لنفوذها في عمق الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وصادف أن الاشتراكي فرانسوا هولاند الذي كان أكثر حماسة حيال تدخل بلاده في العراق في وقت سابق، أدرك أن «الغنائم» تكون أسهل حين تذهب بلاده إلى الحرب، من دون ضجة.
لا ينقشع من أفريقيا اليوم سوى الأزمات. اقتتال بهوية دينية في نيجيريا، وحذر تحفه المخاطر في مالي وحروب عنصرية في أفريقيا الوسطى، وما خفي كان أعظم، طالما أن الآلة الإعلامية لا توجه الأنظار إلى غير ما تعتبره مناطق ساخنة، فقد تركت الصومال حقل تجارب لـ «أمراء الحرب» في انتظار ساعة الحسم الأميركي. واطمأنت دولة جنوب السودان إلى تقسيم بقوة واقع الانتساب الديني والعرقي. غير أن فرنسا التي أدركت أن مستقبل الصراع الراهن والقادم ستكون أفريقيا ساحته بامتياز، اقتطعت لنفسها دوراً لا ينازعها فيه أحد.
إنها تدرك أن الصينيين تغلغلوا في القارة السمراء عبر التجارة والصناعة وتأهيل المشاريع المنتجة التي لا ينافسهم أحد في كلفتها المشجعة للمارد الصيني وحده. كما أن الروس في حاجة إلى فترة أطول للخروج من صدمة انهيار الحرب الباردة التي شكلت أفريقيا مجالات خوضها بالوكالة عقوداً طويلة. كما لا يبدو أن الأميركيين في وارد إضافة أعباء جديدة للثقل العسكري الذي يتحملونه. ومن هنا يبدو الرهان الأفريقي لباريس أكبر من مجرد إطفاء الحرائق المشتعلة في أيما مكان.
قبل اختتام قمة الإليزيه الفرنسية - الأفريقية أشعر الرئيس فرانسوا هولاند أصدقاءه الأفارقة المقربين بأهمية التدخل في أفريقيا الوسطى. ساعده في ذلك أن التئام القمة أعادت للدور الفرنسي بريقه، وبعد أن كان مشروع إقامة النادي الأفريقي - الفرنسي ذا طموح ثقافي في بعث الفرنكوفونية ومعاودة ربط العواصم الأفريقية بمصدر الإلهام الفرنسي الذي اشتغل طويلاً على تأهيل النخب الأفريقية، عبر استخدام الثقافة والحضارة، جاء الدور الآن على الحسم العسكري الذي بات مطلوباً أفريقياً ودولياً.
كما الحرب على الإرهاب استقطبت المحاور، ولم تترك مجالاً لطرح أي سؤال حول طبيعتها وخلفياتها وأهدافها القريبة والبعيدة، فإن الفرنسيين اتخذوا من الحرب على غياب الأمن والاستقرار واستشراء العنف والعصبية ذرائع مقنعة للتدخل. وطالما أن القوات الأفريقية عاجزة عن القيام بهكذا دور، لأنها لا تتوافر على مرجعية تنظيمية وآليات سياسية وقانونية، فقد صار في إمكان الفرنسيين أن ينوبوا عن الأفارقة في ما عجزوا عنه. والأكيد أن رسالة باريس تتجاوز شرعية التدخل الذي أجازه مجلس الأمن نحو شرعية معاودة ترتيب مراكز النفوذ. من يدري فقد دخل الروس على خط التوازنات الجديدة. والفرنسيون يرون أنهم أكثر تأهيلاً في هذا الجانب على الأقل، في انتظار استفاقة الأفارقة وشركائهم الذين يتفرجون.
-----------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الإثنين، 9/12/2013
رابط دائم: