مشروع الدستور المعدَل الذى اعتمدته لجنة الخمسين يوم الأول من ديسمبر وقدمه رئيسها إلى رئيس الجمهورية يوم الثالث منه، له من لم قبله قبولا لا تحفظ فيه ومن عارضه معارضة مطلقة، وكلا الفريقين يؤسس موقفه من المشروع على موقفه من خلع الرئيس السابق محمد مرسى ومن خارطة الطريق التى أعلنتها القوات المسلحة يوم 3 يوليو الماضى بمباركة من القوى السياسية المسماة بالمدنية ومن بعض دعاة الإسلام السياسى الأكثر محافظة. ينبنى موقف المعارضين معارضة مطلقة على رفضهم لخارطة الطريق وعلى تمسكهم بدستور 2012 المعطَل، وأمر التعرِف على هؤلاء المعارضين يسير، فهم الإخوان المسلمون ومناصروهم من تحالف دعم الشرعية. أما الفريق الذى بارك 3 يوليو فإن أمره أكثر تعقيدا. القابلون بمشروع الدستور المعدَل قبولا لا تردد فيه هم من بين أعضاء هذا الفريق، وربما كانوا الأغلبية فيه فى الوقت الحالى. ولكن من بين هذا الفريق من تحفظ على المشروع ومنهم من لمَح، بل وأعلن صراحة، أنه سيعترض عليه. دعاة الإسلام السياسى الأكثر محافظة أعلنوا استياءهم من تراجع مشروع الدستور المعدَل عن توجهات وأحكام كانوا قد نجحوا فى إدخالها على دستور 2012، ولكن ليس بعيدا عنهم الموافقة على التعديلات. وفى فريق 3 يوليو مجموعات تحفظت على مشروع الدستور المعدَل ولكن مبرراتها تختلف اختلافا كليا عما يحرِك الإخوان المسلمين وحلفائهم.
مبررات المتحفظين والمعترضين تستحق المناقشة، ففى هذه المناقشة سبيل لتوسيع آفاق النقاش السياسى فى مصر ولتعميقه، ولبيان التعدد فى المجتمع المصرى وتأكيد شرعية هذا التعدد. غير أنه يجدر أن تبدأ المناقشة بالعرفان للجنة الخمسين على ما بذلته من جهود فى ظل توزيع للقوى السياسية والاجتماعية حكم عملها بل وتكوينها، توزيع هو نتاج لعقود من التسلط، ومن تعثر التنمية، ومن التراجع الفكرى والثقافى. فى النص المعدَل تحسن ملحوظ عن النص الأصلى. أسباب ترسيخ الطائفية والمذهبية وتفتيت الوحدة الوطنية، أساس الدولة الوطنية التى زرعت جذورها فى مصر منذ قرنين من الزمان، والتى كان دستور 2012 قد كرَسها، اختفى أغلبها من المشروع. باب الحقوق والحريات والواجبات العامة فيه تقدُم ملموس وهو ضمَن النص الدستورى مادة جديدة عن الحق فى نقل أعضاء الجسد البشرى، فواكب بذلك التقدم العلمى وعزَز الحق فى الحياة. تخصيص نسبة من الإنفاق العام لأغراض الحقوق الاجتماعية مثل التعليم والصحة العامة جديد وهو أخذ بما سارت عليه دساتير حديثة أخرى، حتى وإن كان يمكن المناقشة فى النسبة المخصصة وفى المبدأ ذاته. غير أن المتحفظين يردُون قائلين أنك إذا تمعَنت فى مشروع الدستور فإنك ستجد أن الجديد فيه مع ذلك قليل. بنية المشروع المعدَل قريبة جدا من بنية دستور 2012، وهى تكاد تكون مطابقة لبنية دستور 1971، أى أن انقضاء أكثر من أربعين سنة لم يغير فى مقاربة المشرِع الدستورى للقانون الأساسى للدولة، وكأنما لم يطرأ تقدم فى علوم المجتمع وفى العلم الدستورى ذاته فى العقود الأربعة المنصرمة، العقود التى شهدت توسعا فى المعرفة يبلغ مئات أمثال ما عرفته البشرية منذ فجر التاريخ. مثل دستور 1971، مرة أخرى يخصص مشروع الدستور المعدَل بابا للمقومات الأساسية للمجتمع وهى مقومات لا شأن للدساتير بها. وهو يفرض على الدولة أن تحرص على تماسك الأسرة واستقرارها وترسيخ قيمها، وكأن قيم الأسرة جامدة غير قابلة للتطور. هل قيم الأسرة، التى يواصل المشرع الدستورى حشر أنفه فى شأنها، هل هى فى سنة 2013 على ما كانت عليه فى سنة 1913 أو فى سنة 1813؟ وتبلغ المفارقة مداها عندما نتذكر أن جوهر فكر الإخوان هو هذا بالضبط، أى أن القواعد والقيم لا تتغير، بل وأنها لا ينبغى أن تتبدل. وتأخذ مجموعة من المتحفظين على النص المعدَل تكريسه لجعل الأزهر الشريف مؤسسة دستورية وهو ما كان قد أدخله، لأول مرة فى التاريخ الدستورى المصرى، دستور 2012. مجموعات أخرى تتباين موضوعات تحفظها على مشروع لجنة الخمسين ما بين إخضاعه المدنيين للقضاء العسكرى، والسلطات المعطاة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتعيين خمسة فى المائة من أعضاء مجلس النواب، والسلطات الممنوحة لرئيس الجمهورية التى تضخمت فى الأيام الأخيرة لصياغة مشروع الدستور المعدَل. كل هذه المجموعات من أنصار 3 يوليو تعتبر أن المشروع لم يخرج على التقليد الذى سارت عليه الدساتير فى نصف القرن السابق عليه، وأنه ليس مشروعا لدستور ثورة تقلِب التربة حتى جذور نبتها، تعرِضها للهواء والشمس فتخلصها من الآفات وتغرس فيها زرعا صحيا يانعا.
مجموعات عديدة أخرى من فريق 3 يوليو صدمتها الديباجة التى تقترحها على الشعب لجنة الخمسين. ديباجات الدساتير تعبِر عن فلسفاتها وهى تقدم القيم التى تستلهمها هذه الدساتير والمبادئ التى تستند إليها. لذلك فإن الديباجات تتسم بأعلى درجات التجريد، وهى قصيرة. هذا هو ما يقول به العلم الدستورى، وهذه هى حال دساتير جنوب أفريقيا، والبرازيل، والهند، وفرنسا، وإسبانيا. ديباجات دساتير هذه الدول الخمس مركزة تركيزا شديدا وأطوالها على التوالى خمسة أسطر، وخمسة عشر سطرا، وثلاثة وعشرين سطرا، وأربعة أسطر، وثلاثة عشر سطرا، وكلها أسطر غير كاملة. ديباجة مشروع الدستور المعدَل فى ستة وستين سطرا وبها نفس أدبى غير منضبط يمكن أن يسائل فيه القارئ غير المصرى، بل والمصرى نفسه. هل مصر رأس أفريقيا المطل على المتوسط؟ أم أن هذا الرأس فى تونس حيث تقع أعلى نقطة فى شمال أفريقيا فى بنزرت؟ وهل مصر قلب العالم كله؟ العالم كرة كل نقطة فيه قلبه. ثم إن مَن تواضع لله رفعه! تكرار إسباغ صفة العظمة، فضلًا على الروعة، يفرغ «العظمة» من معناها وهو استخدام للفظ لا جدوى منه ولا داعى. يصعب أن يكون فى العالم شعب يحب نهرا مثلما يحب المصريون نهر النيل، سواء كان هذا النهر أعظم أنهار الدنيا أو لم يكن. ماذا يقول من يعيشون على ضفاف نهر الكونجو أو نهر الزامبيز إذا ما قرأوا ترجمة للدستور فوجدوا أن المصريين يعتبرون أن النهر الذى يعيشون على مصبِه هو أعظم أنهار القارة؟ لماذا يقبلون بذلك، وإن لم يقبلوا فما قيمة تأكيدنا أن النيل "أعظم أنهار" أفريقيا؟ أخشى ما يخشاه الوطنيون المصريون أن يشعر الآخرون بالشفقة عليهم إن هم قرأوا مثل هذا النص. ولا مجال فى نص دستورى لذكر أسماء أشخاص مهما كانت بطولاتهم وآثارهم فى تطور الوطن وتاريخه. الديباجة ليست مقدمة تاريخية للدستور وإنما هى إعلان مركَز وتجريدى للإطار المفاهيمى للدستور، وهو ما لا ينفى أن يكون هذا الإطار مستخلصا من التجربة التاريخية للشعب الذى يمنح نفسه هذا الدستور. ربما كان الملمح التاريخى الوحيد الذى يجدر إيراده فى الديباجة هو الإشارة إلى الدولة الوطنية التى بدأ بناؤها فى الربع الثانى من القرن التاسع عشر، لأن هذه هى الدولة التى يصاغ الدستور لضبط حركتها، من جانب، ولأن هذه هى الدولة كذلك التى يشكك فى شرعيتها الإخوان المسلمون ويريدون لها أن تذوب فى مشروع عبر وطنى مستحيل.
المناقشات بشأن الدستور تأييدا، وتحفظا، واعتراضا، بل ورفضا، ظاهرة صحية تعزز التعددية وتحفرها فى الضمير الشعبى. لا ينبغى تسخيف المناقشات بل يجب تشجيعها. أما التصويت على المشروع فهو يترك بعد المناقشات لضمير كل مواطن. ولا يعنى إبداء التحفظات والاعتراضات بالضرورة رفض مشروع الدستور، بل إنه يمكن قبوله ثم العمل على علاج أسباب التحفظ والاعتراض ليمكن فى النهاية تزويد البلاد بدستور يفيدها فى خوض العقود القادمة من القرن الحادى والعشرين.
----------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأحد، 8/12/2013.
رابط دائم: