الأخضر الإبراهيمي لم يكن متشائما بكل هذا القدر منذ تكليفه بهذه المهمة، التي غدت بمثابة عقدة لا يستطيع حلها حتى ألف حلال، ونائب الأمين العام للجامعة العربية أحمد بن حلي، الذي يعرف عنه أنه بطبعه متفائل، قال كلاما يعني أنه لا يرى أي بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم وكذلك فإن العرب، باستثناء النظام السوري الذي يراهن ليس على قوته وإمكانياته وإنما على موسكو وطهران وعلى ميوعة المواقف الغربية، لا يتوقعون أن يصدق «المنجمون» هذه المرة وأن ينعقد جنيف الثاني ولو من أجل الانعقاد فقط وحتى إن لم يحقق ولو خطوة متقدمة واحدة في اتجاه حل هذه الأزمة المستعصية التي مع طول الوقت غدت أزمة إقليمية ودولية!!
ولكن رغم كل هذا ومع ذلك فإن لاعبي لعبة الأمم الجديدة، أي الروس والأميركيين ومن لف لفهم ويخيط بمسلتهم، منهمكون في الإعداد ليوم الـ22 من يناير (كانون الثاني) المقبل، وكأنه لا وجود لكل هذه العقبات الكأداء التي تقف في طريق انعقاد «جنيف 2»، وكأن سوريا لم تصبح ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، وكأن هذا البلد بمعظم مدنه وقراه لم يتحول إلى أكوام من الأتربة والحجارة، وكأن أعداد القتلى لم تصل إلى 126 ألفا، وكأن أعداد اللاجئين إلى الدول المجاورة والبعيدة لم تصل إلى الملايين، وكأن هذا النظام الدموي لا يواصل حربه الطاحنة ضد شعب لم يتعرض لمثل ما تعرض وما يتعرض له أي شعب آخر في العالم بأسره.
في تصريحاته الأخيرة توقع الأخضر الإبراهيمي أن تتحول سوريا، كالصومال، إلى دولة فاشلة وهو كمن ألقى حجرا في بركة آسنة راكدة قد تحدث عن «جمهورية سوريا جديدة» وكل هذا في حين أن أحمد بن حلي، ورغم تأكيده أن جنيف السويسرية ستستضيف في الـ20 من ديسمبر (كانون الأول) الحالي اجتماعا على مستوى كبار المسؤولين من الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة يعقبه اجتماع موسع للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ودول الجوار السوري بمشاركة الجامعة العربية لبحث انعقاد «جنيف 2» في موعده المقترح في 22 من يناير المقبل، إلا أنه أعرب عن تشاؤمه من إمكانية عقد هذا المؤتمر في هذا الموعد، وقال: «لست متفائلا بأن يكون هذا التاريخ موعدا لهذا الاجتماع؛ وذلك لأن هناك ترتيبات ما زالت جارية من جانب المعارضة السورية للمشاركة فيه».
والمستغرب أن يتفق هذا المسؤول العربي مع كل الذين أعاروا ضمائرهم وبدل أن يحملوا نظاما دمويا قتل من شعب، من المفترض أنه شعبه، كل هذه الأعداد المرعبة، مسؤولية تعثر كل محاولات حل هذه الأزمة التي غدت مستعصية، ويحملّونها للمعارضة التي تكونت في ظروف في غاية الصعوبة وبقيت تعمل في ظروف في غاية الصعوبة والتي تخلى عنها الغرب الذي أشبعها مراجل فارغة في البدايات وتخلى عنها وعن شعبها في المراحل اللاحقة.
إن هناك الائتلاف الوطني الذي اعترف به العالم بمعظمه «ممثلا شرعيا للشعب السوري» والذي يضم الجيش الحر، والمجلس الوطني، ومعظم قوى المعارضة المعتدلة و«المعقولة»، والمعروف أن هذا الائتلاف قد اشترط، ومعه كل الحق، على ضرورة حسم قضايا رئيسة من غير الممكن الذهاب إلى «جنيف 2» من دون حسمها، وفي مقدمتها أنه لا مكان لهذا الرئيس السوري بشار الأسد لا في المرحلة الانتقالية ولا في مستقبل سوريا، وأن الحكومة أو الهيئة التي يجب تشكيلها لإدارة الأمور في هذه المرحلة الانتقالية يجب أن تكون كاملة الصلاحيات بما فيها الصلاحيات الأمنية والعسكرية، وأنه لا يمكن القبول بحكومة تكون بمثابة تعديل وزاري على حكومة النظام الذي يجب أن يدفع ثمن كل ما ارتكبه من جرائم أكدتها تقارير واحدة من أهم الهيئات الدولية المعنية.
فهل تريد الجامعة العربية، مثلها مثل الروس، أن تذهب المعارضة السورية، الائتلاف الوطني والجيش الحر تحديدا، إلى هذا المؤتمر مستسلمة ورافعة الأيدي؟ وهل تقبل الجامعة العربية أن تشارك إيران التي تغوص في دماء أبناء الشعب السوري حتى الركب من دون أن تسحب قواتها وميليشياتها المذهبية والطائفية من سوريا؟ هل الجامعة العربية يا ترى قد تخلت عن مواقفها السابقة، وتخلت عن عدم اعترافها بهذا النظام، وباتت تصب جام غضبها، مثلها مثل آخرين كثر، على الضحية وتغض النظر عن الجلاد، الذي لا يزال يقتل ويدمر ويشرد السوريين يوميا، رغم أن المفترض أن «جنيف 2» أصبح على الأبواب؟!
قبل أيام صدر بيان إيراني - تركي وقعه محمد جواد ظريف وأحمد داود أوغلو يطالب بوقف لإطلاق النار في سوريا وكل هذا و«الشقيقة» تركيا تعرف تمام المعرفة بحكم عوامل كثيرة أن الذي يطلق النار في هذا البلد، الذي تحول إلى أكوام من الركام وإلى عشرات الألوف من المقابر الجماعية المجهولة، هم حراس الثورة الإيرانية، وفي مقدمتهم فيلق القدس السيئ الصيت والسمعة، ومع هؤلاء بالطبع ميليشيات حزب الله والميليشيات الطائفية العراقية، وبالتالي فإنه كان على وزير الخارجية التركي أن يطالب مضيفه ويطالب نظيره الإيراني بسحب هذه القوات الغريبة من الأراضي السورية.. وبعد ذلك لكل حادث حديث وعندها بالإمكان مطالبة المعارضة ونظام بشار الأسد بوقف فعلي لإطلاق النار وبإشراف دولي قبل الـ22 من يناير المقبل.
ثم وحتى نرى كل هذا الذي نراه ونسمع كل هذا الذي نسمعه فهل هناك يا ترى شيء يجري وراء الكواليس؟ وهل الشعب السوري والمعارضة السورية وربما أيضا نظام بشار الأسد سيفاجأون باتفاق كاتفاق تدمير الأسلحة الكيماوية، الذي أبرمه الروس والأميركيون دون علم أي من أصحاب هذه القضية ومن وراء ظهور هؤلاء جميعهم؟ وهل سيفاجأون أيضا باتفاق كاتفاق «النووي» الإيراني، الذي فاجأ هذه المنطقة وأهلها، والذي لا تزال تدور حوله شبهات كثيرة، رغم كل الإيضاحات التي نقلها محمد جواد ظريف إلى بعض دول الخليج العربي، ورغم كل التطمينات التي أبلغها جون كيري لهذه الدول التي أبدت مخاوف محقة من أن هذا الاتفاق قد يخفي لعبة دولية جديدة قذرة؟!
إنه لا يمكن أن يحقق «جنيف 2»، هذا إنْ هو انعقد في موعده في الـ22 من يناير المقبل أو في أي موعد آخر أبعد، أي نجاح وأن يجترح أي حل فعلي لهذه الأزمة المتفاقمة ما لم يجرِ الاتفاق مسبقا، وبين الروس والأميركيين بالأساس، على أنه لا بد من قيام جمهورية «سوريا جديدة»، كما قال الأخضر الإبراهيمي، وعلى أنه لا مكان لا لبشار الأسد ولا لنظامه في هذه الجمهورية، وأيضا على أنه لا يجوز ألا يحاسب المجتمع الدولي من خلال هيئاته المعنية هذا النظام على كل الجرائم التي ارتكبها وعلى كل هذا الخراب الذي حل بسوريا.. أما بغير هذا فإن الأمور ستذهب إلى تعقيدات جديدة ستكون أخطر كثيرا وأصعب من هذه التعقيدات الحالية، وإن هذا البلد سيصبح دولة فاشلة، كما قال الإبراهيمي، وسيتحول إلى حالة أشد خطرا على الدول المجاورة والمتاخمة وعلى العالم بأسره من الحالة الصومالية.
إنه من غير الممكن معالجة هذه الأزمة السورية بكل خطورتها وكل تعقيداتها على أساس الحلول المفروضة؛ فهناك أنهار من الدماء سالت وهي لا تزال تسيل، وهناك بلد بات ممزقا ومحطما ومدمرا، وهناك ثغرات طائفية غدت تهدد هذا البلد بالانقسام والتشظي ثم وإن المشكلة، التي تتحمل مسؤوليتها أولا روسيا بوتين ولافروف، وثانيا أميركا وإدارة أوباما التي تعاني من ضعف حقيقي وفعلي غير مسبوق، هي أن سوريا أصبحت ساحة صراع إقليمي ودولي وأنها قد تصبح بؤرة إرهاب منفلت من عقاله، كما هو عليه الوضع في العراق وفي أفغانستان وأيضا في اليمن وليبيا، إذا لم يحسم «جنيف 2» المرتقب، هذا إنْ هو انعقد وأغلب الظن أنه لن ينعقد، أولا وقبل أي شيء آخر مسألة قيام جمهورية «سوريا جديدة» على أنقاض هذا النظام الذي في حقيقة الأمر لم يعد قائما وأنه يجب ألا يكون لبشار الأسد أي دور لا في المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها ولا في مستقبل بلد بقي محكوما بالحديد والنار لأكثر من 40 عاما من قبل هذه العائلة وحلفائها من الأعمام والأخوال.. ومن المؤلفة قلوبهم من غير أبناء الطائفة العلوية.
-----------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الخميس، 5/12/2013.