أُحيط اتفاق جنيف بشأن النووي بين إيران والمجتمع الدولي بالكثير من المبالغات والأساطير وللجهتين: جهة «إيجابياته» على إيران و«سلبياته» على اليهود والعرب، أو لجهة «سلبياته» على إيران وإيجابياته بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل.
الذين يعتبرون الاتفاق سلبياً هم متشددو المحافظين في إيران ممن كانوا من حلفاء نجاد والحرس الثوري. لكنهم لا يستطيعون تشكيل تحد داخلي حقيقي وسط موافقة المرشد الأعلى، وترحيب الغالبية الشعبية، والتي ترجو فكّ الحصار، وتحسُّن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. ولذلك قال أحد القلة المتشددة هذه إنّ الاتفاق هو مثل «تجرُّع السُمّ». وهي كلمة قالها الراحل الخميني عام 1988 عندما اضطر لقبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار مع العراق. على أنّ الأمر بالنسبة للمعارضين للاتفاق والموافقين عليه لا يتعلق بالقوة الشعبية للطرفين، بل بالترتيبات الجديدة للسلطة، وهي تقاسُمات كانت على مدى عشر سنوات لصالح المحافظين من حول خامنئي والحرس الثوري، فكيف سينطلق الاقتصاد من عقاله، وكيف يحدث الحراك البنّاء الذي يريده روحاني مع الخارج وباتجاه الداخل.
هذا الصراع الداخلي على السلطة هو الذي سوف يؤثّر على السياسة الإيرانية تجاه دول الجوار، أكثر بكثير مما يؤثّر فيها الاتفاق مع أميركا. لقد سلّمت الولايات المتحدة لإيران بمناطق نفوذ في العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان. أمّا في النووي فإيران قدّمت بالفعل تنازُلات، لكنّ ما قدمته كان معروضاً عليها منذ عام 2004 حين جرت إحالة ملفّها النووي إلى مجلس الأمن الدولي. وهناك من الإيرانيين من يقول إنّ تصرف المرشد كان غريباً بالفعل، لأنّ الأميركيين كانوا مقبلين على كل وجوه التعاوُن، وإنما اضطُروا لسياسة العقوبات لأن الإيرانيين ما قبلوا أيَّ شيء إلا إذا أُخذ اقتناصاً ربما لأنهم يريدون أن يصبحوا قوةً إقليميةً بهذه الطريقة، وليس بطريقة الشاه في التحالُف مع الولايات المتحدة!
فلنعُدْ إلى الهياج الإسرائيلي من الاتفاق. يقول مؤيدو أوباما من الصحفيين الأميركيين، مثل ديفيد إغناتيوس وتوماس فريدمان وفريد زكريا، إنه لا داعي للهياج الإسرائيلي لأن المساعدات الأميركية الهائلة مستمرة في الأمن والعسكر والاقتصاد، ولأن الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا، خلّصت إسرائيل من أخطار الكيماوي والنووي. والعلاقات الحسنة بين أميركا وإيران أفضل ضمان لإسرائيل، ولذا فإنّ نتنياهو يلعب لعبة خطِرةً بالرهان على الانقسام الداخلي الأميركي بين الديمقراطيين والجمهوريين، مع أن الوضع الحالي ومآلاته بالمنطقة سببه الجمهوريون خلال سنوات بوش الابن. لكنهم يعترفون بأن «أمن إسرائيل الدائم» لا يزال مهدَّداً بصواريخ «حزب الله» على الحدود، والتي صارت الآن في لبنان وسوريا. والاتفاق الأميركي الإيراني عام 2010 والذي اعترف لإيران على نحو ما بمناطق النفوذ تلك تحطّم في الحرب السورية، وبتهديدات «حزب الله» لإسرائيل بالطائرات بدون طيار. لذلك فمن حقّ إسرائيل المطالبة بحل هذه المشكلة فوراً بأيّ شكل، حتى لا تعود المساومات السابقة، إذ أنّ «الهدنة» في هذا الشأن لا تنفع. ولذا يكون على نتنياهو أن يقول ذلك بالتحديد ويسعى إليه، بدلا من التحجُّج بالنووي وبخضوع الولايات المتحدة لإيران!
ولنصل إلى ملفّ العلاقات الإيرانية مع دول الجوار، والتأثير المحتمل للاتفاق عليها. أولُ المُلاحَظات في هذا المجال أنّ تركيا عادت إلى سياساتها السابقة: الكلام الجميل سابقاً مع العرب، والتعاوُن الحقيقي مع إيران. فها هو أوغلو يعتبر إيران مفتاح السلام والاستقرار في المنطقة، ويقول إن تركيا ستتعاون مع إيران في حلّ الأزمة السورية. وسيأتي روحاني إلى تركيا، ثم يزور أردوجان إيران. وحتى عندما اتجهت تركيا شرقاً، ما اتجهت إلى مصر والسعودية مَثَلا، بل حاولت إقامة علاقات «استراتيجية» مع الأسد تحت سمع إيران وبصرها. وقد اختلف الأتراك مع إيران بشأن الأزمة السورية، فأرسلت إيران «القاعدة» وحزب العمال الكردستاني إلى سوريا على الحدود التركية، وأزعجت الاتفاق مع الأكراد بداخل تركيا، وعطّلت تقدم العلاقات التركية مع الأكراد بالعراق. وحجم التبادُل التجاري بين تركيا وإيران 20 مليار دولار سنوياً وسيزداد الآن. ولنلاحظ أيضاً أن تركيا تدخلت في عمليات الصراع على الإسلام السياسي في الأقطار العربية بعد الثورات. فساءت علاقاتها بمصر دون داعٍ إلا طموحات أردوجان. وبالطبع ما كان ذلك سليماً ولا صحيحاً، ولذا يعود الآن إلى إيران بعد أن هجرها لسنتين، وقد تكون عودته من مدخل إعادة التسليم لإيران بسوريا، بعد أن كان قد قال قبل ستة أشهر إنّ سوريا والعراق دولتان مستقلتان، ولا يصح أن تكونا تابعتَين لإيران أو غيرها! بيد أنّ خبيراً تركياً قال لي إنّ تركيا تنازلت لإيران في ملفات العراق والأكراد، على أمل أن تتنازل إيران في سوريا بالتسليم بمقررات «جنيف-1» بالتحول والحكومة الانتقالية! لقد كانت هناك مشكلة في العلاقات العربية التركية أيام العسكريين، وما تسوَّتْ أيام الإسلاميين، لأنهم أعرضوا عن الخيار الأوروبي، وراحوا يلتمسون مناطق نفوذ وتأثير عند العرب وفي آسيا الوسطى. لقد كانت صورةً مهيبةً بطهران في مؤتمر التعاون الاقتصادي: صورة وزراء خارجية دول إسلامية كبرى مثل إندونيسيا وإيران وباكستان وتركيا. والإسلام بدون العرب بدون روح، ومع العرب نزاع واستقطاب وسط مساعي الإيرانيين والأتراك لاعتبار أنفسهم زعماء العالم الإسلامي.
إنما بعد هذا كلّه، لماذا الصدمة العربية من الاتفاق النووي مع إيران؟ ردة فعل دولة الإمارات، والمملكة العربية السعودية، ومجلس التعاون الخليجي كانت هادئةً ومتعقِّلة. بيد أنّ هناك انطباعاً لا يتزعزع بأنّ الولايات المتحدة ستظل على سياساتها في إعطاء ما لا تملك لمن لا يستحقُّ في المشرق والخليج.
وبالطبع فإنّ الأميركيين ينكرون ذلك، فيردُّ الخليجيون: لقد أنكرتم من قبل في عشرات الحالات في العراق وسورية ولبنان والبحرين والكويت ومصر، ثم حدث فوق ما كنّا نتوقع من سوء!
العالم العربي يغلي، وما بقيت واحةُ أمانٍ إلا في منطقة الخليج العربي. وباستثناء الفرنسيين، يحاول الأطراف الغربيون والشرقيون الضغط على العرب وابتزازهم للإفادة المباشرة، أو للأسباب الاستراتيجية. ويعتقد الإيرانيون (أكثر من الأتراك) أنهم أتقنوا أسلوب التعامُل مع الغرب والشرق، وحصلوا على فوائد ومناطق نفوذ وآمال في كل مكان. ومُخطئٌ من كان يظنُّ أن الغربيين قادرون أو يريدون مواجهةَ إيران بما يحدّ من نفوذها وأطماعها، وإنما يتدخلون في المنطقة وحسب إذا أُحرجت إسرائيل جداً أو إيران. فحتى مع تركيا اكتفوا بنشر صواريخ باتريوت! لذلك، ولكي يُصْغي الأميركيون والإيرانيون والروس وغيرهم لمطالب استقلال العرب ووحدة أرضهم واستقرارهم، تظلُّ الدبلوماسية الحركية والجادَّة والمنسَّقة أولى الضرورات. ويكون من الضروري استمرار الإصرار في البحرين، ومساعدة اليمن أكثر في إنجاح التجربة، واستكمال التحول والاستقرار في مصر. ومساعدة الشعبين السوري والعراقي على الخروج من الحرب والانقسام والتبعية، وإعانة لبنان على الصمود في وجه الاستشراس الإيراني. من المهمّ جداً الحفاظ على الهوية العربية لسوريا والعراق في وجه أنظمة الطغيان، وقرمطيات الإيرانيين وميليشياتهم.
ما يقوم به روحاني مفيد للشعب الإيراني، وربما أعان على تهدئة بالمنطقة بعض الشيء. لكن إنْ أرْضت سياساته الغرب فلن تُرضي جماهير الشعب الإيراني التي تنتظر الكثير! روحاني ليس خاتمي الذي كان يسعى لإصلاح جذري سمّاه «الديمقراطية الإسلامية». لكنّه يمكن أن ينجح لأنه ليس خاتمي!
----------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد، 1/12/2013
رابط دائم: