الأزمة بطبيعتها كاشفة، والحالة المصرية ليست استثناء، ومن يغرق في التفاصيل سوف تتوه منه الحقائق الكبرى وأهمها في هذه اللحظة أن فض اعتصامي رابعة والنهضة في القاهرة أظهر بوضوح شمس نهار صيف، كيف كانت ستحكم مصر لو أن الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته بقيا في السلطة. الجوهر هو دولة فاشية نازية اختبرتها مجتمعات ودول أخرى تحت أقنعة شتى من قومية أو مذهبية أو دين، ولكن رغم تعددها كانت في النهاية واحدة. في المعمل المصري كانت علامات الساعة آتية كما هو حال هذه الدول، فالبداية فيها الكذب المستمر والخداع الذي لا تطرف له عين. كانت السلطة قريبة بمجرد الإطاحة بحكم حسني مبارك، ولم تكن هناك صدفة في التفاوض الفوري مع نائب الرئيس عمر سليمان في الوقت الذي جرت فيه عملية الإطاحة به والتعامل مع المجلس العسكري.
وعندما انتهت صلاحية هذا الأخير بانتخابات الرئاسة، جرى استغفال الجماعة الوطنية باتفاق «فيرمونت» حتى أطيح بالأحزاب اليسارية والليبرالية، ومن بعدها القوات المسلحة بإعلان الدولة مدنية بالإطاحة بالمجلس العسكري.
هكذا جرى الانفراد بالسلطة في مصر، وبدأ التحضير للدولة الشمولية بدستور ثيوقراطي قام على جمعية تأسيسية غير شرعية، مع محاولة استمالة قوى الشرطة والأمن لعلها ترغب في أن تكون عصا النظام الغليظة. الإشارة كانت واضحة أن مظهر وجوهر الدولة الإيرانية قد هبط على مصر، ولكن الأمر كان يحتاج لاعتصامات رابعة وفضها بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) لكي تسفر الجماعة عن أن وجهتها دولة دينية. لم يكن شعار دولة «إسلامية.. إسلامية» حبا في الإسلام، ولكن كراهية وإلغاء للدولة الوطنية المصرية.
لم تعد مصر التي يرفعون أعلامها هي القضية، فقد تجاورت الأعلام التي وضعت من أجل كاميرات التلفزيون مع أعلام القاعدة. وفوق المنصة كانت الصراحة كاملة، فالتهديد بالعنف والدماء السائلة كالنهر كثيفة، ويعيد التذكير بما جرى قبل إعلان نتيجة انتخابات رئاسة الجمهورية عندما كانت الشواهد تقول: إن استبعاد بطاقات «المطابع الأميرية» المزورة يمكنها أن تعطي الرئاسة للفريق أحمد شفيق. ساعتها جرى التهديد الصريح بحمامات الدم، والصراع حتى آخر نفس، والاستشهاد حتى آخر «شهيد»، وحرق الوطن حتى آخر مؤسسة. انكشف المستور كله أثناء اعتصام رابعة والنهضة وما جرى عند فضهما، فتهديدات المنصة لم تكن مجرد انحراف لغوي من جماعة متشددة لا دخل بالإخوان بها، وإنما هي كانت لب الموضوع. فما فعلته الجماعة لم يكن أقل من حريق آخر للقاهرة في مؤسسات عامة، وفي محطات للوقود، وكل ما طالته يد من مصادر للسلطة أو خدمة لمواطنين. كان نيرون يحرق روما لأنها لم تحقق له ما يريد، ولا بأس ساعتها من تطبيق ما بشر به صفوت حجازي من أن من يرش بالماء يرش بالدم.
ببساطة فإن التنظيمات الفاشية لا تصبح فاشية دائما في عامها الأول، فهو عام الخداع وترتيب الأوضاع وتحييد الخصوم، والقضاء على المحايدين. المهم أن تتولد حالة من الخوف العام، ومن بعده تبدأ الدولة «الأرويلية» عملها، فالأخ الأكبر يبدأ في تطبيق فاشيته الكبرى. المعمل كان في الاعتصام حيث تسير عمليات التعبئة والحشد بالطريقة ذاتها التي يتم بها تعبئة معلبات الطعام حيث كل علبة تماثل الأخرى في الشكل والوزن والطعم. في «رابعة» و«النهضة» الميدانين في قلب القاهرة والجيزة، لم يكن فيهما من صوفية رابعة العدوية شيء، ولا كان فيهما من نهضة مصر جوهر. كانت الأناشيد والشعارات والأغاني والخطب تسير في انتظام لكي تجري عمليات غسل وكي العقول والأفئدة. لم يكن هناك ندوات أو مناقشات أو حوارات حول قضية الاعتصام، أو أي محاولة للمراجعة لما جرى، أو بحث أسباب لماذا غضب المصريون كل هذا الغضب وهم الذين فرحوا بمرسي في ميدان التحرير حينما ذهب لكي يقسم قسم الولاء للوطن فيحمي أراضيه، والشعب فيرعى مصالحه. أيامها فتح مرسي سترته مدللا على أنه ليس مرتديا واقيا للرصاص وسط مئات الآلاف من المتظاهرين، هؤلاء ذاتهم كانوا هم الذين تظاهروا لكي «يسقط حكم المرشد»، فلم يكن ممكنا أن تحكم البلاد عن طريق تنظيم سري.
ولكن الإخوان لا يستطيعون العيش من دون تنظيم سري، وكان هذا التنظيم هو الذي يسير أرض الاعتصام بعد أن سير الدولة من قبل.
كان التنظيم في رابعة والنهضة يسفر عن أنيابه ليس فقط في تعليب مواطنين، وإنما في خلق تنظيم إرهابي متعدد الأطراف يكون جاهزا للحرق والقتل. كان النموذج حاضرا في جماعات إرهابية عرفت القتل والإرهاب، ولها جماعاتها التي تعمل على تقييد الجيش المصري في سيناء، وكان جمع السلاح صناعتها منذ خرجت من السجون. ولكن الإخوان لا يحبون أن يكونوا أسرى لإخوان من نوع آخر، فالوظيفة هي تقديم النموذج، أما ما تبقى فهو وظيفة خلق الكراهية ضد الدولة المدنية، وضد المسيحيين، وضد اليسار والليبراليين، فهؤلاء هم «الكفار» الجدد. ولذلك لم تكن هناك صدفة في أن عمليات حرق الكنائس ودور العبادة المسيحية والمؤسسات الملحقة بها كانت في مقدمة أهداف ما بعد فض الاعتصام. والآن نستطيع أن نعرف من قام بحرق الكنائس من قبل في الإسكندرية أو في أطفيح؛ ومن قام بالتحريض ضد المسيحيين وخلق حربا دينية تحطم أعمدة الدولة الوطنية. تلك الدولة التي تعاديها الجماعة كما لا تعادي كيانا آخر، لأنها عبر السنوات والعقود كانت هي العقبة الكبرى أمام الفاشية والنازية والدولة الشمولية التي تسيطر وتهيمن.
كانت مصر ستحكم كما حكمت دولة الاعتصام، فالمعترضون فيها، والدخلاء عليها، مصيرهم القتل والإعدام بعد تعذيب وتشويه كما حدث لأفراد عثر على جثثهم داخل اعتصام رابعة، أما من بقوا خارجها من الشعب، فهؤلاء مصيرهم الترويع والتهديد، وغياب الحياة المستقرة، ولا بأس من تقسيم دولة، أو شن حرب على دولة أخرى تعطي الحاكم القوة والطاقة للسيطرة والهيمنة. ولكن ذلك لا يحدث دون القضاء على السلطة الوطنية، أو رموزها، ولذلك كان الهوس بأقسام الشرطة وحرقها، والتمثيل بجثث ضباطها وجنودها. ولكن ولحسن الحظ كان للشعب المصري رأي آخر، وجاء الإبداع بجمع التوقيعات، ثم جاء الخروج الكبير بالملايين، وتجمعت القوى الحية في الدولة لكي تنتصر في مواجهة من يحاولون إهدارها. وربما كانت الأيام الراهنة صعبة، والليالي شاقة، والخوف والشك على مصر مقلقا؛ ولكن أحدا لا ينبغي له أن يتجاهل كيف أن حكما يفلس تماما بعد عام واحد في السلطة ربما لا ينبغي له أن يخيف أحدا.
----------------------
* نقلاعن الشرق الأوسط اللندنية، 21/8/2013
رابط دائم: