20 أغسطس 2013
مثلت الانتخابات الرئاسية التى شهدتها مالى أخيرا محاولة جادة لاستعادة الديمقراطية والسلام، وخطوة مهمة للانتقال السلمى السلس للسلطة، بعد أن أصبحت الدولة المالية التى كانت تنعم بالاستقرار، وقدمت نموذجا للدولة الديمقراطية في غرب إفريقيا، مهددة بالتحول إلى دولة "فاشلة"، " أو "منهارة"، أو بالانقسام إلى دولتين تحت وطأة التأثيرات الحادة الناجمة عن الاضطرابات التى شهدتها عقب الانقلاب العسكرى في مارس 2012 ، الذى جاء ردا على فشل الرئيس السابق أمادو تومانى تورى في التعامل مع تمرد الطوارق في الشمال، وما أعقبه من تصاعد المطالب الانفصالية لهم، ودخول الجماعات المسلحة التى تطمح في إقامة إمارة إسلامية على خط المواجهة مع الجيش المالى، وصولا إلى التدخل العسكرى الدولى تحت قيادة فرنسا للقضاء على هذه الجماعات، ومنع سيطرتها على الشمال المالى، بعد أن أعلنت عن روابطها بتنظيم القاعدة.
فخلال أكثر من عام ونصف عام، تطورت الأحداث بصورة متسارعة في مالى، وكان لهذه التطورات تأثيراتها الداخلية الحادة، وكذلك الخارجية التى لم تقتصر على دول الجوار في منطقة الساحل والغرب الإفريقى، ولكنها امتدت إلى باقى القارة الإفريقية والساحة الدولية، بعد أن برزت الأزمة المالية كبؤرة جديدة من عدم الاستقرار الإقليمى، بعد أن سيطرت الجماعات الإرهابية على شمال مالى، خلال أشهر قليلة أعقبت الانقلاب العسكرى، وبدأت في تطبيق بعض حدود الشريعة الإسلامية ، وفي هدم الأضرحة التاريخية في مدينة تمبكتو، التى تعد جزءا من التراث الإنسانى الحضارى، ومن ثم أصبح إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر هو الطريق الأفضل للبدء في عملية استرداد الدولة، خاصة بعد أن ربطت القوى الغربية مساعداتها لمالى بانتخاب رئيس دائم للبلاد.
وقد عبرت فاعليات الانتخابات التى عقدت في أجواء من الهدوء النسبى عن رغبة كبيرة لدى المواطن المالى في المشاركة في إنهاء حالة الصراع والفوضى التى عمت البلاد خلال الأشهر الأخيرة، حيث بلغت نسبة المشاركة ما يقرب من 50 % من جملة الناخبين، وكان القاسم الأكبر للجنوب في هذه المشاركة. أما اللاجئون في الدول المجاورة، فلم تستطع قطاعات منهم المشاركة في هذا الحدث المهم.
تحديات داخلية بعد انتخابات الرئاسة
إلا أن الرئيس المالى الجديد أبو بكر كيتا الذى فاز بأغلبية الأصوات خلال جولتى الاقتراع تنتظره العديد من الملفات الحرجة، ففضلا عن المشكلات الاقتصادية التى تفاقمت خلال شهور الصراع، ومشكلات النازحين الذين تجاوزت أعدادهم مائتى الف نازح، وهناك ملف المصالحة الوطنية في ظل تعقد الأزمة التى ترتبط بمظالم تاريخية، وتتعدد أبعادها ما بين مطالب انفصالية للطوارق، وأزمة سياسية ودستورية نتيجة للانقلاب العسكرى، وتمركز الجماعات الإرهابية المسلحة في الشمال.
ويدعم هذه الأبعاد مجموعة من النتائج السلبية التى طرحتها الأزمة الراهنة، ومنها بروز مشكلات بين الجماعات الإثنية. وهذا الأمر لا يقتصر على العلاقات بين الشمال والجنوب فقط حيث ينظر مواطنو الجنوب للشماليين على أن تحركاتهم هى التى أدت إلى تفاقم الصراع، وجلبت التدخل الدولى. كما تركت القوات الفرنسية قبل انسحابها مسئولية مدينة كيدال لـلحركة الوطنية لتحرير أزواد، مؤكدة أن الطوارق ليسوا جماعة إرهابية، وأنهم ساعدوا في قتال الإرهابيين، وقد أغضب هذا الموقف الكثيرين في جنوب مالى.
بل وتمتد هذه المواقف إلى داخل الشمال أيضا، فلا يزال الطوارق في الشمال يطالبون بدولة مستقلة، ولم يتراجعوا عن مطالبهم بالانفصال وتكوين دولة الأزواد التى ناضلوا لسنوات من أجلها، بعد معاناتهم من عقود من الإقصاء والتمييز من العمليات السياسية والاقتصادية، وعدم وفاء حكومات باماكو المتعاقبة لوعودها لهم، لذلك لا يتوقع الطوارق حلول السلام الدائم مع مقدم الرئيس الجديد، إلا اذا منحهم هذا الرئيس المزيد من الحريات، وهو ما دفع قادة ثلاث حركات مسلحة في شمال مالى، هى المجلس الأعلى لوحدة أزواد، والحركة الوطنية لتحرير أزواد، والحركة العربية الأزوادية، إلى توحيد مواقفها من الأزمة في إقليم أزواد قبيل الدخول في مفاوضات واجادوجو التى من المقرر أن يبدأ فيها الرئيس المالى الجديد .
وفي الوقت الذى تستمر فيه الجماعات الدينية المسلحة في الوجود في مدن الشمال، على الرغم من تبعثر عناصرها على الحدود نتيجة للضربات العسكرية الدولية، فإنها تحاول استعادة قواتها. واستغلت هذه الجماعات المظالم التاريخية للطوارق، كما تقوم بجرائم عبر الحدود مثل الإتجار في الأسلحة والمخدرات، وخطف الرعايا الغربيين للحصول على فدية، ولكن انحل الترابط الذى يجمعها بحركات التحرير الطوارق، ومن ثم تصبح محاولة توحيد البلاد التى تعهد بها الرئيس أبوبكر كيتا الفائز في الانتخابات أمرا في غاية التعقيد.
أما الملف الأمنى، فهو يرتبط بتحقيق إنجاز في مسار المصالحة الوطنية، إلى جانب استمرار التعزيزات العسكرية للبلاد، حيث تسلمت بعثة الأمم المتحدة مهمة حفظ السلام من القوات الإفريقية قبل الانتخابات. كما بدأت فرنسا في سحب قواتها البالغ عددها 4000 جندى من مالى، حيث من المزمع أن تبقى على 1000 جندى من هذه الحشود، في الوقت الذى تقوم فيه بعثة تابعة للاتحاد الأوروبى بإعادة تدريب وتجهيز القوات المسلحة في مالى، بعد ما منيت به من هزائم خلال العام الماضى على أيدى الطوارق والجماعات الإرهابية .
وقد هددت جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وهى إحدى الجماعات الإرهابية في الشمال قبل الانتخابات، بشن هجمات على مراكز الاقتراع، لكنها لم تتمكن من تنفيذ تهديداتها.
التأثيرات الإقليمية لنتائج الانتخابات
وعلى المستوى الإقليمى، رحبت الدول المجاورة لمالى بالانتخابات الرئاسية بحسبانها أولى خطوات تحقيق الاستقرار بما ينعكس على الأمن في منطقة الساحل والغرب الإفريقى، حيث يعانى هذا الامتداد الجغرافي العديد من المشكلات الأمنية، متمثلة في انتشار الصراعات والحروب الأهلية، والتطرف العنيف، وبروز عدد من التنظيمات الإرهابية بين أرجائه كجماعة بوكو حرام في نيجيريا، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامى الذى يرتبط بجماعات مسلحة في شمال مالى كجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.
وقد حملت الأزمة المالية تهديدات للأمن القومى لدول الساحل والغرب الإفريقى، والتى تصاعدت مخاوفها من أن تصبح مالى قاعدة لتصدير الإرهاب إلى دولها، في ظل نمو الاتجاهات المتعاطفة مع الجماعات الدينية داخلها، كما خشيت من أن تتحول مالى إلى دولة فاشلة داخل هذا الإقليم المضطرب، في ظل عدم امتلاك دوله لإمكانيات التعامل مع التضاريس والمساحات الواسعة من الصحارى الذى تتميز بها جغرافية الأراضى المالية التى تمثل سمات مثالية لإيواء العناصر الإرهابية والإجرامية.
ومع تقدم الجماعات الإرهابية، وسيطرتها على شمال مالى، وزحفها نحو العاصمة باماكو، زادت مخاوف هذه الدول من تمكن هذه الجماعات من تكوين إمارة إسلامية في هذا الإقليم، تقدم الدعم لكافة الجماعات الإرهابية الأخرى في الإقليم.
وكانت الجزائر أكثر هذه الدول شعورا بالتهديدات الأمنية لهذه الجماعات، نظرا لتجربتها المريرة معها، وامتدادات هذه الجماعات داخل حدودها، لذلك كانت ترفض التدخل الدولى في مالى. وبالفعل، لم تؤد الحملة الدولية المدعومة بالقوات الإفريقية في مالى إلى القضاء على هذه الجماعات، بل أدت إلى إضعافها، وتبعثر عناصرها على الحدود، وتسلل عدد منها إلى داخل الدول المجاورة.
وقامت إحدى هذه الجماعات، وهى جماعة الموقعين بالدم (التى يتزعمها مختار بلمختار أحد كبار قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامى) باعتداءات إرهابية في مايو ويونيو الماضيين في شمال النيجر، استهدفت معسكرا للجيش، وموقع استخراج يورانيوم لشركة اريفا الفرنسية في ارليت، وسجن نيامى، وكذلك تدور معارك منذ نهاية أبريل في جنوب تونس بين الجيش ومقاتلين إرهابيين. كما تحول جنوب ليبيا خلال الشهور الأخيرة إلى جيوب للعناصر الإرهابية. و تؤكد كل هذه الأحداث أن وجود دولة ديمقراطية تُشرك كافة الجماعات الموجودة في مالى أمر مهم لاستقرار دول الجوار.
كما تسمح الانتخابات المالية بالبدء في إعادة آلالاف اللاجئين الذين فروا نتيجة للصراع والتدخل الدولى إلى دول الجوار، حيث تستضيف بوركينا فاسو، والنيجر، وموريتانيا أكثر من 175 ألف لاجئ مالى، في حين تأثرت الجزائر سلبا بالتدخل الدولى في مالى، والذى أدى لزيادة إنفاقها على تأمين حدودها المشتركة مع مالى لمنع تسلل الإرهابيين والأسلحة إلى داخل الدولة، هذا فضلا عن استقبالها أكثر من 35 ألف لاجئ مالى، وتقديمها مساعدات لما يقرب من 100 ألف لاجئ في موريتانيا. وقد وصفت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس" الانتخابات الرئاسية بالحرة والنزيهة، وأنها جرت في جو سلمى .
تفاعلات دولية مع أزمة مالي
أما على المستوى الدولى، فقد صعدت الأزمة المالية من احتمالات إقامة تنظيم القاعدة مركزا لعملياته في شمال إفريقيا ومالى، ولجذب الإرهابيين الأجانب إلى هذا المركز، واستخدامه في شن هجمات على العواصم الأوروبية والولايات المتحدة، وتهديد المصالح الغربية الحيوية في هذا النطاق الجغرافي الذى تمتلك دوله ثروات طبيعية هائلة، أهمها النفط، وتتنافس على ثرواته العديد من القوى الدولية والإقليمية كإسرائيل وإيران.
لذلك، لم يكن من الغريب ترحيب المجتمع الدولى ورعايته لفاعليات الانتخابات، فقد وضع التدخل الدولى الأزمة المالية على قمة الأجندة السياسية الدولية، وتدخلت القوات الدولية في مالى بقيادة فرنسا، وساندتها قوات الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس)، والاتحاد الإفريقى (AFISMA) وذلك لاستعادة مدن الشمال التى سيطرت عليها جماعات مسلحة، وتم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في يوينو الماضى مع الطوارق.
وقد أشاد الاتحاد الأوروبى بهذه الانتخابات، ووصفها بالنزاهة، ورآها خطوة في استعادة النظام الدستورى للبلاد، وأعلنت الرئاسة الفرنسية أن الرئيس فرانسوا هولاند سيتوجه إلى مالي لحضور حفل تنصيب الرئيس الجديد، كما أكدت الولايات المتحدة أنها مستعدة لاستئناف مساعداتها لمالي المعلقة منذ الانقلاب العسكرى.
وأمام هذه التحديات الكبيرة، يتطلع المواطن في مالى إلى دور فعال للرئيس الجديد أبو بكر كيتا الذى تولى عددا من المناصب السيادية، خلال عقد التسعينيات، وجاءت حملته الانتخابية تحت شعار " تحقيق المصالحة الوطنية من أجل كرامة مالى".