يوم في حياة العرب 30-7-2013 د. أحمد يوسف أحمد * أصبح يوم 26 يوليو مميزاً في التاريخ المصري فقد شهد ثلاثة أحداث رئيسية أولها عام 1952 حين أُجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد بعد أن تجاوز فساده كل الحدود إلى درجة قيام الجيش بثورة 23 يوليو مؤيداً من الشعب. ولم يكن مقدراً لهذا الحدث بالذات أن تكون له آثار عربية واسعة، أولاً لأن ملوكاً كثيرين عرباً وغير عرب لم يكونوا مثله، وثانياً لأن الانقلابات العسكرية في بعض البلدان العربية أخفقت في التحول لثورة تستجيب لمطالب الشعب، وأسست لإنشاء الحكم العسكري القمعي. ولكن 26 يوليو 1956 كان أيضاً أمراً مختلفاً، ففيه وقف جمال عبدالناصر وسط جماهير الإسكندرية ليلقي خطابه الشهير الذي أعلن من خلاله تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية رداً على سحب الولايات المتحدة عرضها تمويل مشروع السد العالي الذي تجسدت فيه آمال المصريين في التنمية والتقدم، ناهيك عن الطريقة المهينة لمصر واقتصادها التي اتبعتها الولايات المتحدة في سحب العرض. وقد ألهبت جرأة القرار ودلالته حماسة الجماهير المصرية، خاصة وقد كان استرداد القناة مطلباً قديماً للحركة الوطنية وإن لم يجرؤ أحد على تحقيقه من قبل، ولذلك استقبلت الجماهير عبدالناصر استقبال الفاتحين على طول طريق عودته بالقطار من الإسكندرية إلى القاهرة، وعندما حاولت القوى الكبرى أن تثبت عدم جدارة مصر بإدارة القناة بسحب المرشدين الأجانب احتشدت الجماهير على طول الضفة الغربية طيلة الرابع عشر من سبتمبر 1956 تهتف للمرشدين المصريين الذين كانوا يقومون بإرشاد أول قافلة سفن تعبر القناة بعد انسحاب المرشدين الأجانب وتتحرك معهم وكأنها تريد أن تشارك في نجاح المهمة. ولما وقع العدوان الثلاثي تدافعت الجماهير للحصول على السلاح الذي لم تبخل عليها القيادة به كي تشارك في الدفاع عن أرض الوطن وكرامته. وباختصار كانت الفترة ما بين قرار التأميم في 26 يوليو 1956 وانسحاب القوات البريطانية والفرنسية في 23 ديسمبر من السنة نفسها من مدينة بورسعيد، وهي المدينة الوحيدة التي تمكنت من احتلالها أثناء العدوان، فترة تفاعل غير مسبوق بين القيادة والجماهير. ولكن المسألة لم تقف عند هذا الحد وإنما امتدت آثارها إلى كل مكان في الوطن العربي، إذ كانت الدلالة الواضحة للقرار أن استرداد الثروات القومية من براثن القوى الكبرى المستغلة ممكن خاصة بالنظر إلى الرفض العربي الهادر لسلوكها، وكذلك معارضة الرأي العام العالمي فضلاً عن طبيعة النظام الدولي في ذلك الوقت التي جعلت قطبيه -الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي- رافضين للعدوان أو على الأقل الطريقة التي وقع بها. وبالفعل بدأ عديد من الدول العربية يتخذ من الإجراءات العاقلة والحادة ما يكفل له السيطرة على موارده الوطنية الأساسية. بل إن هذا المعنى انتقل إلى أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وقد زرت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي إحدى الدول الإفريقية الثورية التي كانت علاقتها بمصر على غير ما يرام. وكنت أخشى أن يؤثر هذا على مناخ محاضراتي هناك، ولكنني فوجئت في أول محاضرة لي بأن مصر بالنسبة لجمهور الحاضرين هي مصر الخمسينيات وتأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثي، وأنهم ينظرون إلى التطورات الأخيرة في مصر التي ربما كانت سبباً في توتير العلاقة بين البلدين مثل اتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية مع إسرائيل باعتبارها زبداً ولابد أن يذهب جفاء، أما ما مكث في الأرض فهو مصر الخمسينيات والتحرر الوطني. غير أن 26 يوليو 2013 كان أمراً مختلفاً جذرياًَ، ففي المثالين السابقين كنا إزاء قيادة من الشعب تعرف آماله وطموحاته والتضحيات التي قدمها في مسار حركته الوطنية ولذلك تفاعل معها الشعب بكل حماس وإخلاص، أما 26 يوليو 2013 فهو يوم صنعه الشعب المصري بنضاله بعد أن اكتشف على مدار سنة كاملة سوءات حكم «الإخوان المسلمين» وانعدام كفاءتهم في إدارة الدولة، ورغبتهم الشرهة في أن يضعوا في كل مفصل من مفاصل الدولة واحداً منهم كي تدين الدولة لهم -وليس مجرد الحكم. وهنا تصدت طليعة من شباب مصر لهذا الحكم وبدأت حملة شعبية لسحب الثقة من رئيس الجمهورية المعزول استطاعت أن تجمع لها 22 مليون توقيع، وهو رقم يكاد يكون ضعف ما حصل عليه من أصوات أوصلته إلى سدة الحكم. وقررت هذه الطليعة أن تتظاهر يوم 30 يونيو -وهو اليوم الذي يصادف مرور سنة كاملة على ولايته الحكم- وألا تتوقف فعالية هذا التظاهر وما قد يرتبط به من اعتصامات ووسائل نضالية أخرى إلا بعد تنحي الرئيس المعزول، ولكنه أبدى عناداً فائقاً على رغم أن المشاركين في التظاهر ضده قدروا بما يزيد عن ثلاثين مليوناً، وذهبت تقديرات أخرى إلى أنهم بلغوا في حدهم الأدنى سبعة عشر مليوناً. وإزاء هذا الوضع أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة بياناً أعطى مهلة 48 ساعة «للاستجابة للمطالب الشعبية». غير أن الرئيس المعزول صمّ آذانه عن كل هذه النداءات فما كان من القائد العام للقوات المسلحة إلا أن اجتمع برموز الوطن السياسية والدينية حيث تقرر عزل الرئيس السابق وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً للبلاد مع خريطة طريق أعلن عن فحواها مع هذه القرارات. وجن جنون «الإخوان المسلمين» الذين لم يكونوا يتصورون أن تجيء نهايتهم بهذه السرعة بعد أن عملوا من أجل السلطة أكثر من ثمانين عاماً، فحشدوا أنصارهم للاعتصام في أكثر من موقع مطالبين بعودة الأمور إلى ما كانت عليه، ولما وجدوا أن هذا لا يكفي بدأت تخرج من داخل الاعتصام جماعات مسلحة ترهب المواطنين ولا مانع من أن تقتلهم بما لديها من أسلحة، وتعمل التدمير في الممتلكات الخاصة. وعندما وصلت الأمور حداً لا يمكن السكوت عليه ضم القائد العام للقوات المسلحة صوته إلى أصوات الشباب الذين كانوا قد قرروا تنظيم مليونية يوم الجمعة 26 يوليو، وطالب جميع المصريين الشرفاء بالنزول في ذلك اليوم لإعطائه تفويضاً وأمراً بمواجهة العنف والإرهاب المحتمل، فكان هذا اليوم التاريخي الذي فاق عدد المشاركين فيه الأعداد التي خرجت في ثورة يناير، فكأن «الإخوان» في سنة واحدة قد حصدوا من الكراهية ما لم يجمعه الرئيس الأسبق في ثلاثين سنة. إن ذلك اليوم 26 يوليو 2013 يوم عربي أيضاً بامتياز لأنه كانت لدى «الإخوان» خطط للتغلغل -إن لم يكن السيطرة في كافة البلدان العربية، ولذلك فإن ما قام به الشعب المصري ستكون له بالضرورة تداعيات عربية على رغم أن دور مصر الرسمي ما زال يعاني الهزال بعد أن سخره «الإخوان» لخدمة مصالحهم، وتكفلوا بتردي الاقتصاد المصري إلى أسوأ وضع، فليس كل الدور رسمياً وإنما يمكن أن يستند إلى إرادة شعبية طالما أنها تحقق مطلباً يتسق مع مصالح البلدان العربية. ---------------------- * نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء 30/7/2013. رابط دائم: