تصحيح العلاقة اللبنانية - السورية بعد حربين 27-5-2012 سليم نصار * كاتب وصحافي لبناني من أبلغ الكلمات التي قيلت في ذكرى الحرب اللبنانية، كانت كلمة دييغو باتوريل، رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي بالوكالة. وقد ركز باتوريل في كلمته على أهمية مصالحة اللبنانيين مع حاضرهم المضطرب بعدما اتفقوا على مصالحة ماضيهم المثقل بأهوال الحروب الأهلية وإرهاب الغزاة. وكان بهذه المطالبة الصريحة يسعى إلى إنهاء حال النزاعات اللبنانية الداخلية التي عطلت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مدة تزيد على نصف قرن. واعتبرت دعوة رئيس البعثة باتوريل بمثابة تحذير لشعب دولة صغيرة، يصعب أن يشفى من أمراضه النفسية بتجاهل حاضره المقلق. وذكر أن بلاده إسبانيا، استمرت في معالجة تداعيات الحرب الأهلية طوال سبعين سنة. كل هذا بسبب اقتناع الإسبان بأن السلام والاستقرار لن يتحققا داخل مجتمع ممزق يختلف مواطنوه على الماضي والحاضر والمستقبل. المقارنة بين حرب إسبانيا (1939) وحرب لبنان (1975)، تظهر التماثل بينهما واضحاً، خصوصاً أن الدولتين تحولتا إلى ساحتين مشرعتين للتدخل الخارجي. مع فارق أساسي هو أن الجنرال فرانكو عقب انتصاره، لم يسلم مقاليد الحكم فوراً إلى الملك، بل انتظر سنوات عدة أجرى خلالها عملية تطهير واسعة. ولما شعر بأن حركة الانصهار الوطني قد نجحت في استعادة اللحمة الداخلية، وأن التدخل الخارجي قد انحسر تدريجاً، قام بتجيير مسؤولية الحكم إلى زعماء الأحزاب الجديدة واختار لنفسه دور الراعي والمراقب. أما في لبنان، فإن الانتقال من حال الاقتتال الداخلي طوال 15 سنة، إلى حال السلم الأهلي، لم يدم أكثر من سنة جرى خلالها الاتفاق على مبادئ مؤتمر الطائف. والثابت أن اتفاق الطائف لم يحمل للبنانيين سوى الهدوء الأمني، في حين ظلت الحرب السياسية مشتعلة بين الزعماء التقليديين. وقد زادت مرحلة الوصاية السورية من حدة الخلافات الداخلية، خصوصاً عندما ميزت دمشق «حزب الله» عن سائر الأحزاب، ومنحته امتيازات الجيش البديل. وكان من الطبيعي أن يثير هذا التعاطي الاستثنائي حفيظة الطائفة السنّية التي شعرت بالغبن والتهميش. وهذا ما يفسر ردود فعل هذه الطائفة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فقد قيل يومها إن عملية الاغتيال عجلت في انسحاب القوات السورية من لبنان... وأخرجت سنّة لبنان من عروبة سورية! ثم جاءت أحداث 7 أيار 2008 لتؤكد أن الامتيازات التي أعطيت لـ «حزب الله» جعلته وصياً على الطوائف الأخرى، وعلى كل الجماعات التي تخالف توجهاته. مع إحياء ذكرى شهداء 7 أيار، حاول أنصار النائب خالد الضاهر إقامة مهرجان في بلدة حلبا (عكار). وقد اغتيل خطيب الحفلة الشيخ أحمد عبدالواحد قبل وصوله إلى حلبا، على يد ضابط وبعض جنود الجيش اللبناني. وحدث أثناء إعلان النبأ، أن عرضت إحدى الفضائيات مشهداً يمثل الشيخ عبدالواحد وهو يخطب ضد سورية وحلفائها في لبنان. لذلك، استنتج بعض المحللين أن عملية الاغتيال كانت انتقاماً للماضي، وتذكيراً بأن ملتزمي خطه السياسي سيلاقون مصيره أيضاً. يقول المراقبون إن النظام السوري استنفر خلال هذه المرحلة الصعبة، كل أنصاره في لبنان وإيران والعراق، من أجل تجميل صورته السياسية الخارجية في مواجهة المعارضة وحلفائها. والثابت أن المؤازرة الخارجية لا يمكنها حجب الحقائق على أرض الواقع، خصوصاً بعد امتداد الأحداث الدموية إلى كل المحافظات والمدن السورية. وفي هذا السياق، يقدر الخبراء العسكريون أن نهاية سنة 2012 ستشهد تغييراً كاملاً في نظام الحكم السوري، لا فرق أكان ذلك بمشاركة الرئيس بشار الأسد، أم من دونه. واستناداً إلى المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تشهدها تونس ومصر وليبيا، فإن العهد المقبل في سورية مضطر إلى إعادة النظر في مختلف الاتفاقيات التي وقعت مع الدولة اللبنانية. وتتحدث المعارضة اللبنانية عن ضرورة إلغاء كل المعاهدات والاتفاقيات التي تقيد الدولة مثل «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» التي وقعت سنة 1991. وهي تنص على «الروابط الأخوية المميزة التي تربط البلدين والتي تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والانتماء الواحد والمصير المشترك والمصالح المشتركة». وجاء في تفسير المعاهدة، «أن البلدين يعملان على تحقيق أعلى درجات التعاون والتنسيق في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما... وبما يمكن البلدين من استخدام طاقاتهما السياسية والاقتصادية لتعزيز علاقات الأخوة». ويرى المشرعون أن هذه المعاهدة لم تنفذ كونها صيغت في شكل «ديكتات»، أي إملاء من قبل سلطة متفوقة. لذلك، بقيت حبراً على ورق مثلها مثل 39 اتفاقية و80 بروتوكولاً ومذكرة. ويقول البطريرك الماروني السابق الكاردينال نصرالله صفير، إن «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» أتت لمصلحة فريق من دون الآخر. كما أن تعيين سفيرين في بيروت ودمشق لم يلبّ حاجة لبنان في القضايا الحيوية مثل ترسيم الحدود، وحسم مسألة شبعا وإعادة الأراضي المقتطعة ناحية «المصنع». وكما كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب حريصاً على استقبال الزعيم جمال عبدالناصر في خيمة على الحدود اللبنانية – السورية... كذلك كان حريصاً على استرداد كل الأراضي التي ضمتها سورية بعد سنة 1936. وعليه، أرسل مهندس الجيش ألبير متّى إلى دمشق، على أمل إقناع محافظ ريف دمشق عبدالحليم خدام، بضرورة إعادة ترسيم الحدود. وبعد زيارات متواصلة استمرت سنتين، طلب فؤاد شهاب من المهندس متّى التوقف عن ملاحقة هذه القضية لأن: ما لسورية هو لسورية، وما للبنان هو لسورية ولبنان! وفي ضوء هذا المنطق قامت سورية باستخدام الأرض اللبنانية، طوال 29 سنة، حديقة خلفية تضع فيها كل ممثلي الأحزاب المتطرفة، وكل المتدربين على مقاومة خصومها. وكان أبرز هؤلاء الممثلين عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، الذي أمنت دمشق لأنصاره مخيمات التدريب على استعمال السلاح في منطقة البقاع الحدودية. ومن هذه المنطقة اللبنانية التي تجهل الدولة في بيروت أي شيء عن ضيوفها الأغراب، كان محازبو أوجلان ينطلقون عبر الأراضي السورية للقيام بعمليات إرهابية داخل تركيا. هكذا، استمر نشاط هذه المجموعة سنوات عدة إلى أن حشدت أنقرة قواتها، وطلبت من الرئيس حافظ الأسد تسليمها عبدالله أوجلان. وعلى أثر ذلك التهديد، رفعت سورية حمايتها عن أوجلان الذي لجأ إلى ألمانيا وهولندا قبل أن يعتقل في كينيا. وهو حالياً يقبع في معتقل تركي. بين أشهر ضيوف سهل البقاع منتصف الثمانينات، كانت رئيسة الجيش الأحمر الياباني تسيوشي أوكودا. وهي التي دربت كوزو أوكاموتو الذي نفذ عملية مطار اللد حيث قتل عدداً كبيراً من الإسرائيليين. ومع أن هذه الطبيبة أنشأت قواعد عالمية عدة في الدول الاشتراكية، إلا أنها اعترفت بأن قاعدة لبنان كانت الأكثر خبرة ونشاطاً. علماً أن الدولة اللبنانية لم تسأل مرة ماذا يفعل اليابانيون في البقاع! كان الإمام موسى الصدر يصف لبنان في خطبه، بـ «البلد المستباح»، أو «حديقة من دون سياج» يسطو عليها كل من يشاء. وقد تكون الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ 1976 هي التي شجعت النظام السوري على ارتكاب أخطاء دفع اللبنانيون ثمنها غالياً من أرواحهم وأملاكهم وأموالهم. وعليه تتوقع الدولة في بعبدا والحكومة في السراي، أن تقوم دمشق بتصحيح علاقاتها على قاعدة الندية والمساواة والمصالح المشتركة وحرية الاختيار. صحيح أن اتفاق الطائف قد أشعر سورية بمسؤوليتها الأمنية تجاه لبنان... ولكن الصحيح أيضاً أن سورية استغلت الحرب اللبنانية كي تقوي جماعات معينة، وتنشئ منظمات تدين بالولاء لها لا للدولة. وبما أن سورية ستخرج من حربها الأهلية ضمن نسيج استراتيجي جديد ينسجم مع ظروف المنطقة، فإن بوسعها تعزيز التنسيق الإيجابي مع لبنان بحيث يبقى وطن الرسالة والتآخي والتعاون. عندما فتحت مدافع القوات السورية العاملة في لبنان، نيرانها على منطقة الأشرفية طوال أسبوع كامل، تدخل أنصار سورية في لبنان مع عبدالحليم خدام لعله يأمر بوقف عملية التأديب. وكان جوابه على الفور، إن بيروت ليست أفضل من حماة... وإن كل من يعارض الأوامر سيلقى المصير ذاته! وفي هذا الجواب تختصر العلاقة بين نظامين لا تفكر قيادتاهما بعقلية واحدة ومنطق واحد. ذلك أن الديموقراطية في لبنان لا يمكن أن تخضع لإرادة الحزب الواحد، لأن تكوينها التاريخي مبني على خصائص ثابتة اشتركت كل الفئات في تطويرها، سياسياً وحضارياً. ومن هذا التكوين برزت الحلول والوسائل التي يصح اعتمادها في معالجة القضايا الشائكة. يقول المحللون إن الخلاف اللبناني – السوري نشأ أصلاً من النظرة السلبية التي ترى لبنان كياناً منافساً لسورية. في حين يرى اللبنانيون أن بلادهم لا تمثل صفة التنافس بمقدار ما تمثل صفة التكامل مع أي كيان عربي آخر. والسبب أن مخزونها الثقافي بالغ الأهمية... ورصيدها السياسي بالغ التطور. لذلك، يعرف رئيس الجمهورية ميشال سليمان أن مدة ولايته هي ست سنوات، في حين احتاجت سائر الدول العربية إلى ثورات دموية كي تنهي ولايات حكامها الأبديين! ------------------------ * نقلا عن الحياة اللندنية السبت 26/9/2012. رابط دائم: