التعاون الإسلامي الكونفوشيوسي 13-5-2012 * كل متابع للساحة السياسية والفكرية العربية وأجوائها العاصفة هذه الأيام، يعلم أن الليبراليين العرب يمثلون ظاهرة بارزة في بعض البلدان العربية، ويثير خطابهم كثيراً من الجدل واللغط واللبس الذي يقود أحياناً للعداء والمناحرات لفهم هذا الواقع . الكل ينادي ويطالب بالإصلاح من خلال التغيير السلمي عبر آليات ديمقراطية حديثة، ولكن خطابهم يحمل في طياته ما يمكن تسميته بالعنف السياسي والثقافي الذي يؤدي أحياناً لنوع من الاستقطاب وخلق الحزازات وبروز عوامل الاحتكاك والتفاعل مع الآخر المجاور والبعيد . فما يحدث عن طريق التناوش الإعلامي المتواصل حول القيم والأخلاق والمفاهيم وعلاقات الدول العربية بغيرها من الدول الأخرى، والذي لا يخضع لمقاس محدد، فيكون الرفض والشجب لما هو مغاير شكلاً ومضموناً مع أحداث كبرى تزيد من احتقان الساحة العربية الغربية، ويستخدم البعض في خطاباتهم أو حواراتهم مفاهيم تفتقر كثيراً إلى آداب اللياقة السياسية، ومعايير العلاقات بين دول الغرب والشرق مثل أمريكا وروسيا والصين، من دون أن يدركوا أن الفهم التاريخي يؤكد أنه لا ولاء مطلقاً للماضي المحكوم بماضيه فقط، ولا انغلاق عليه، كما أنه لا يمكن إنتاج الحاضر بتاريخ الماضي وإنما بتاريخ الحاضر والمستقبل معاً؛ لأن التاريخ محكوم بقوانين صارمة ثابتة، سنن إلهية، وليس بهوى الشعوب، ولا بتعلقها بماضيها بعد دحر الدكتاتوريات العاتية . كأن التاريخ العالمي بدأ يدفع الآن بعض القوميات والأيديولوجيات والثقافات للتناحر بعضها ضد بعض، وأن هذه الثقافات سوف تؤلف المجموعات المتعادية مستقبلاً، بل يظهر وكأن هناك تحالفاً إسلامياً كونفوشيوسياً بالأفق يتهدد كل ما هو غربيّ، ويتزايد هذا الخطر بالتحالف مع الأتراك، وأنهما يشكلان معاً صدمة نفسية عميقة التجذر في الذاكرة الجمعية للشعوب الغربية . ويرى الدكتور هارالد موللر، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فرانكفورت وعضو الهيئة الاستشارية، السابق، للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح، أن الأقاليم الكبرى في السياسة الدولية: الغرب، آسيا، العالم الإسلامي، روسيا ومجالها، وكذلك أقاليم “الأطراف” وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تصور مسار العلاقات اللاحقة بين الأقاليم، ويبين التأثيرات المحتملة لعوامل الاضطراب، ويرى أن النبض المعادي للغرب يزداد تعاظماً في قوته بشكل ملحوظ من خلال التطورات الديمقراطية، وأن النمو البشري يتزايد بشكل أقوى مما عند الغرب، وأن معدلات النمو السكاني في إفريقيا والعالم الإسلامي قد بلغت أكثر من 4% أغلبيتهم تحت سن الخامسة والعشرين، وهؤلاء الشباب أكثر استعداداً للحرب والعنف وتطبيق الديمقراطية . ويشير كذلك إلى أن الإسلام يمتلك حدوداً خارجية أكثر بكثير من أية ديانة أخرى، وهذا يعود إلى أن البلدان والشعوب محشورة بين ثقافات عالمية أخرى، في حين يشكل البحر حماية لأجزاء كبيرة من أجنحة الثقافات الأخرى . لذلك فإن الدول التي تتجاوز حدودها الأرضية تزداد فرص دخولها في نزاعات مشتركة . وقد انتقد المفكر موللر فرضية هنتغنتون حول دعم سيناريو الرعب تجاه العالم الإسلامي الكونفوشيوسي من خلال مبيعات الصين وكوريا الشمالية من الأسلحة للدول الإسلامية، وكذلك تقديم الدول الأرثوذكسية، مثل روسيا، الأسلحة للعديد من الدول الإسلامية . وهذا يعكس مفهومات متباينة تضرب بجذورها في التواريخ العقلية المختلفة، وأن الأوروبيين والأمريكيين يسردون مسبحة التاريخ الحبة تلو الأخرى من دون خوف من أن ينقطع صمتها للتغلب على مشكلات الوجود بين الماضي ورداءة المستقبل، وبما تحتويه من قضايا الاقتصاد، والسياسة، وأيضاً الدين، ونظم القيم بواقعية، وبمستوى تطور نظام السلطة والطبقات الاجتماعية، والنظام القانوني . وبالنظر لهذه العوامل وتأثيرها المتبادل والمتنوع وانطلاقاً من هذا الأساس فمن غير المشروع ألاّ تتحالف هذه الدول مثل روسيا والصين وكوريا مع الدول العربية الإسلامية ضد الدول الليبرالية الرأسمالية . فالصين بتقاليدها المستمرة منذ خمسة آلاف سنة، والتي تعتبر مهد ثقافة خاصة هي الكونفوشيوسية، لا تزال تمارس كما في السابق نظام الحزب الأوحد الذي يعتمد على سلطة مركزية بيدها كل السلطات . ومع ذلك فهي تعمل نحو أقلمة مجالاتها الاقتصادية، وما يرتبط بها من عمليات سياسية تمارس سياسة الانفتاح، وهذه التغييرات ستترك أثراً عميقاً في الثقافة الصينية وبخاصة في أشكال السلطة . وقد بات التغيير ملموساً الآن؛ لأن الصين أدركت أن الثقافات لم تعد لاعباً سياسياً فاعلاً، ولا تستطيع أن تكون فاعلة في السياسة الدولية مباشرة . ولذلك فإن الحديث عن صراع الثقافات لا يعدو كونه مجازاً لا يميز واقعاً سياسياً ممكناً، فعالم السياسة له بعد مادي يتجلى بوضوح في الحدود التي تميّز أراضي الدولة، فالدولة توجد بصفتها معطى جغرافياً ويجسدها أشخاص محدودون . أما الثقافة، فعلى العكس من ذلك، تفتقر إلى مثل هذه الخاصية المادية، فهي توجد فعلاً في إعادة إنتاجها المستمر من خلال ممارسة البشر لها في الدوائر المختصة، وهي لا ترتبط بمنطقة معينة محمية بحدود حتى لو كانت حدوداً طبيعية حاجزة - ولا عرق . ورزمة المعايير الثقافية، التي توجه ممارسات البشر، غير منصوص عليها بشكل كامل في أي من كتب القانون، وحتى الكتب السماوية للديانات الكبرى، لأنها لا تحتوي سوى على جزء، وإن كان أساسياً، من ذلك فقط . يُستخلص من هذا كله أن العلاقات بين الدول تتم من خلال عمليات وضرورات المصالح الاقتصادية، والاعتماد المتبادل في ظل شروط التكنولوجيا في شكل منافسة اقتصادية سياسية شاملة، وأن تكون الرغبة في جعل الرفاه نموذجاً تقويضياً للعوائق السياسية وصداً للعنف السياسي الذي يشكل حجر عثرة في تعاون ودينامية العالم . -------------------- نقلا عن دار الحياة اللندنية 13/5/2012. رابط دائم: