خطوة خطيرة على طريق التطبيع 10-4-2012 د. أحمد يوسف أحمد * أثار النبأ الذي نشر في وسائل إعلام مصرية وعربية يوم السبت الماضي جدلاً واسعاً حول قضية قديمة جديدة هي مقاومة التطبيع مع إسرائيل. يقول النبأ إن مئات من الأقباط المصريين قد سافروا يوم الجمعة السابق على نشر الخبر إلى القدس المحتلة، في تحدٍّ لقرار البابا شنودة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الذي رحل منذ أسابيع قليلة بحظر سفرهم إلى القدس قبل تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، وكان يؤكد بموقفه هذا قمة الوحدة الوطنية والفهم السليم لصراع العرب مع إسرائيل. بدأت قضية مقاومة التطبيع في مصر عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في 1979، وكانت هذه المقاومة هي السلاح الوحيد بيد الشعب آنذاك لإعلان رفضه المعاهدة التي فرضت عليه فرضاً على رغم إحاطتها بسياج من الشرعية الزائفة بعد استفتاء شعبي شكلي، وكانت المعاهدة تتضمن أحكاماً عديدة معظمها جائر في الميدان العسكري- الأمني، ولكنها امتدت أيضاً إلى أحكام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل كانت هي الثغرة التي نفذ الشعب منها إلى مقاومة المعاهدة التي جعل منها السادات شيئاً أقرب إلى قدس الأقداس، غير أن الشعب المصري الذي أجبرَ على السلام مع إسرائيل لم يكن مهيأ بأي حال للصداقة مع شعبها، وهو سلوك طبيعي في ضوء الحروب المتكررة بين مصر وإسرائيل، وعشرات الألوف من الشهداء والمنازل المهدمة، والمنشآت الحيوية التي هاجمتها إسرائيل إبان حرب الاستنزاف، ولم يكن هذا كله بعيداً عن ذاكرته التاريخية، فقد جاءت تطورات السلام مع إسرائيل بعد سنوات قليلة من حرب أكتوبر 1973، أي أن دماء الشهداء لم تكن قد جفت بعد، ولا تمت إزالة آثار الهمجية الإسرائيلية بالكامل. وفي هذه الظروف وجد الشعب المصري من يطالبه على رغم هذا كله بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، والتخلص من ذاكرته التاريخية، وفتح صفحة جديدة مع الإسرائيليين الذين لا يفتأون يذكروننا حتى الآن بمذابح النازي التي كان اليهود ضحية لها في الحرب العالمية الثانية. click here هكذا مارس الشعب المصري بامتياز مقاومته التطبيع دون ترتيب مسبق أو توجيه من أحد. صحيح أنه كانت هناك خروقات إلا أنها كانت محدودة للغاية من الذين كانوا يعانون من البطالة ويتصورون إسرائيل جنة الله في أرضه، أو من بعض رجال الأعمال الذين غلَّبوا مصالحهم على مصلحة الوطن، أو بإغراءات أميركية كما في اتفاقية "الكويز" التي أعفت الصادرات المصرية التي تدخل في إنتاجها نسبة معينة من المكونات الإسرائيلية من التعريفة الجمركية في السوق الأميركية، أو من نفر من الأدباء والفنانين من طالبي الشهرة، ولكن الموقف الشعبي المضاد للتطبيع بقي في مجمله صامداً. في هذا النضال السياسي الصعب اتخذت الكنيسة الأرثوذكسية وعلى رأسها البابا الراحل الموقف الذي يؤكد انتماءها إلى نسيج الوطنية المصرية، فرفض البابا أي حديث عن التطبيع من قبل أقباط مصر، مع أنه كان مطروحاً في مسألة دينية وليس في سياق سياسي، وهي رغبة الأقباط في الحج إلى القدس، ومع ذلك كان البابا شنودة راغباً في ألا تثور أية شبهة تطبيع بسبب هذه الزيارات الدينية، فمنعها، وأعلن صراحة أن أقباط مصر لن يدخلوا القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، وأيديهم في أيدي إخوتهم المسلمين. وكان البابا شنودة في هذا صاحب موقف صحيح بخصوص مسؤولية إسرائيل عن الأهوال التي لحقت بالعرب والفلسطينيين. غير أنني أعتقد من ناحية أخرى أنه كان حريصاً على تأكيد حقيقة أن أقباط مصر جزء من نسجيها الوطني ولا يمكن لهم أن يخرجوا عن الإجماع الشعبي، وقد لقي هذا الموقف تقديراً عاليّاً من الشعب المصري، كما أن صيته قد ذاع عربيّاً وإسلاميّاً بسبب هذا الموقف الصلب، وخاصة أنه تفوق بموقفه هذا على أقرانه من رجال الدين المسلمين ذوي الأدوار "الرسمية" في مصر، ولم يُعقد في حينه أي مؤتمر عربي أو إسلامي إلا وأشاد بموقف البابا شنودة، واعتبر هذا الموقف أساساً لما يجب أن يتبع من سياسات في مواجهة التطبيع. وقد دفع البابا شنودة ثمن هذا الموقف غاليّاً خاصة وقد راجت تقارير عن رفضه مصاحبة السادات في زيارته إسرائيل عام 1977، وعن رفض إرسال وفود من أقباط مصر لزيارة القدس على أساس أن الوقت غير ملائم، وقد أفضى هذا كله في النهاية إلى إلغاء السادات القرار الجمهوري الذي صدَّق على اختيار البابا شنودة على رأس الكنيسة الأرثوذكسية، واختيار لجنة لإدارة شؤون الكنيسة. ومن الحقيقي أنه كانت هناك خروقات لقرار البابا بمنع سفر الأقباط إلى القدس، إلا أن هذه الخروقات كانت محدودة وانحصرت في أولئك الأقباط المتدينين الذين تهفو نفوسهم لزيارة القدس، أو بسبب بعض رجال الأعمال في مجال السياحة الذين كانت نفوسهم "تهفو" أيضاً لجني الأرباح الطائلة. في ذلك الوقت كان الجدل بخصوص التطبيع وما يزال يدور في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد تبلور تيار قوي تزعمته السلطة الفلسطينية لاحقاً يرى أن التطبيع على هذا النحو يكاد يكون فرضاً لدعم الفلسطينيين ماديّاً ومعنويّاً، وأنه لا يضر بالقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد، وكذلك كان هناك عدد من أفراد النخبة المصرية الحاكمة في ظل النظام السابق يرون هذا الرأي نفسه، وكان هؤلاء يدلون بتصريحاتهم في هذا الخصوص ويدافعون فيها عن التطبيع، ولكن دون جدوى، بل إن هذه المواقف "الرسمية" قد حظيت بردود فعل شديدة القسوة في الساحتين السياسية والفكرية في مصر. في هذه الظروف تأتي أنباء زيارة المئات من أقباط مصر إسرائيل يوم السبت الماضي كثقب في جدار مقاومة التطبيع، ومن المفترض أن تستمر هذه الرحلات بانتظام فتصل الأعداد إلى الآلاف، وقد أكدت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها أن الموقف الرافض للتطبيع والذي يمنع أقباط مصر من زيارة القدس هو موقف الكنيسة، ولم يكن مرتبطاً بشخص البابا شنودة حتى ينتهي بوفاته، ولكن الخوف من أن "كاريزما" البابا شنودة لاشك قد ساعدت على الالتزام بالقرار، أما بعد غيابه فقد يأتي على رأس الكنيسة من لا يتمتع بهذه "الكاريزما" نفسها، وبالتالي فإن ثمة مخاوف من أن يفلت زمام الأمر من بين يدي الكنيسة. وفي النهاية فإن من المهم أن هذا الحدث يعيد إلى دائرة الضوء ذلك الجدل الحاد حول حدود التطبيع مع إسرائيل وآفاقه، وهي مسألة تتصل بوضوح بمستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي، ولا يقل عن ذلك أهمية أن هذه التطورات تأتي في ظل "ثورة يناير" التي توحد فيها أقباط مصر ومسلموها في لحظة تاريخية مجيدة أعادت إلى الأذهان مناخ ثورة 1919، ومن المعروف أن "ثورة يناير" قد ركزت في شعاراتها وأفعالها على ضرورة تبني سياسة أكثر صرامة وفاعلية تجاه إسرائيل وجرائمها بحق العرب والفلسطينيين، ومن ثم فإن أحد الأبعاد المقلقة لما حدث -خاصة وأنه مرشح للاستمرار- هو احتمال حدوث شرخ لا قدر الله في العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها من هذا المنظور تحديداً. وما أغنانا جميعاً في هذه الظروف الراهنة عن مثل هذه التطورات ------------------------ * نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 10/4/2012. رابط دائم: