المخاطر الإقليمية لإنقلاب مالي 8-4-2012 محمد الأشهب * كانت تكفي إطاحة نظام الرئيس المالي أمادو توماني توري ليتأكد أن أسوأ من الانقلاب العسكري تأتي ارتدادات جغرافية وسياسية على حساب سيادة ووحدة البلاد. فلم تنقض أيام على تمرد عسكري بباماكو حتى عصف تمرد آخر قاده الطوارق وحركات متطرفة للإجهاز على آخر قلعة في الاستقرار الهش. هكذا أصبح الانقلاب مرادفاً للتقسيم، والذين أتوا على ظهر الدبابات إلى القصر الرئاسي أبانوا عن عجز كامل عن التحرك شمالا للإبقاء على تماسك هذا البلد الإفريقي الموزع بين الإثنيات والولاءات وسطوة العشائر. وإنها لمفارقة أن يكون العسكريون الذين يحتمون في الثكنات هم أول من يستسلم لرياح البلقنة والتجزئة. مع أن دورهم يكمن في حماية السيادة أولاً. غير أنهم بدل الانشغال بهاجس الدفاع عن وحدة الوطن، راحوا يقامرون بمناصب سياسية ولسان حالهم يقول: لا يضير الاستئثار بالسلطة حتى لو كان ثمنه إقامة كيانات انفصالية. ثمة تجارب تعاود إلى الأذهان كيف أن التفريط في وحدة الأوطان لا يعني شيئاً أمام إغراء السلطة حتى لو كان نفوذها لا يزيد على مربعات القصور الرئاسية. فقد حكم صدام حسين ثلث العراق من دون أن يحركه وازع إزاء حظر جوي طاول جنوب البلاد وشمالها. وابتهج عمر البشير بحكم نصف السودان التاريخي ليدخل في صراع بلا حدود مع دولة الجنوب. وربما لو خير بشار الأسد بين حكم دمشق والتخلي عن المناطق المشتعلة غضباً ضد نظامه لفضل طلاق كل ما هو خارج عن القصر الجمهوري. لم تكن مالي في حاجة إلى انقلاب عسكري بلا هوية ولا شرعية، ليتبين العالم أن هذا البلد المستوي على ركام من الألغام يعاني من أكثر الويلات الموشومة على صدره، فقراً واضطرابات وقلاقل ومعضلات اقتصادية واجتماعية فاقت كل الحدود. فقد كانت تحمل بين ثناياها وفي عمق مكوناتها كل أسباب الانفجار والانهيار. إلا أن تكون بوادر التصدع في شكل تقسيم وإقامة دولة في الشمال لا تعدو أن تكون مقدمة لعصر الدويلات القادمة في الساحل جنوب الصحراء. كان اللوم ينصب سابقاً على الاستعمار الأجنبي الذي اهتم بترسيم حدود مناطق نفوذه في إفريقيا تحديداً عبر خرائط صنعت في المكاتب، لم تراعِ حاجات السكان وتقلبات الطبيعة وانتساب القبائل وتوزيع الموارد والأنهار والتجمعات البشرية. بل تنظر بعيون المصالح إلى ما يمكن أن تجنيه، وهي جاثمة على الأرض أو حتى بعد رحيلها. لم يفتتن الأفارقة بشيء أكثر من الترويج لفكرة صون الحدود الموروثة عن الاستعمار، مع أنها في الأصل وضعت لتكريس أنواع من التجزئة وغرس جذور بؤر التوتر. وعلى رغم أن المواثيق الدولية منحت الأسبقية لوحدة الدول على مبدأ تقرير المصير، فإن بعض المبادئ استخدمت لأهداف كانت أبعد عن تطلعات حركات التحرير الإفريقية في التضامن والانعتاق والتقدم. الآن تفتح التجربة المريرة التي تمر بها دولة مالي الباب واسعاً أمام كل النزعات، من جهة لأن الانقلاب العسكري التي تحيط به الشكوك على مستوى نقل السلطة إلى المدنيين أوجد فراغاً كبيراً ألغى أي دور محتمل للدولة في مواجهة مخاطر التقسيم. ومن جهة ثانية لأن المخاوف الناشئة حيال استشراء ظاهرة الإرهاب وتنامي التطرف وتوالي موجات اختطاف الرعايا الأجانب، باتت تحتم فعل شيء يضمن إحكام الرقابة الأمنية والسياسية على تلك المناطق الشاسعة الخارجة عن كل ضبط. الأكيد أن ما شجع متمردي الطوارق على إقامة كيان لهم، من خلال الاستيلاء على مدن ومواقع وإعلان استقلالها من طرف واحد، هو غياب السلطة في مالي، يضاف إلى ذلك عدم الاهتمام الدولي بالنزوح المستمر للطوارق. فقد كان وصول أفواج منهم إلى شمال موريتانيا مؤشراً على أن الأزمة لا بد أن تنفجر بصورة ما، إن لم يكن على صعيد البعد الإنساني، فمن خلال الاعتماد على الهوية الثقافية التي جعلت الطوارق موزعين في أنحاء شتى بين مالي والنيجر والجزائر. لم يقع الاهتمام اللازم بالمشكل نتيجة المخاوف من أن تكون له انعكاسات سلبية في التركيبات السكانية داخل المناطق التي يتواجد فيها الطوارق. ولعل الحل الأنسب كان يكمن في صون هوية هذه المكونات في اللغة والثقافة داخل تعددية مفتوحة أمام الجميع. بيد أن الأمر مرتبط أساساً بضمان الاستقرار والأمن، وهما العنصران الغائبان في أكثر المعادلات المطروحة في منطقة الساحل جنوب الصحراء. إنه انقلاب آخر أشد خطورة قد تتطاير شظاياه في كل اتجاه. -------------------- * نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد 8/4/2012. رابط دائم: