آليات التحوّل الديمقراطي
28-3-2012

عبدالحسين شعبان
* مفكر وباحث عربي

حتى الآن وباستثناءات محدودة جداً لم يتحقق الانتقال الديمقراطي للسلطة ولم يؤخذ بقواعد التداول السلمي في الغالبية الساحقة من أنظمة الحكم في البلدان العربية، وحتى لو اعتمدت تلك القواعد، فإن الكثير من العقبات تعترض طريق ضبط آليات الانتقال، لاسيما في ظل غياب مؤسسات دستورية ورقابية، فضلاً عن ضعف القضاء ومحاولات الهيمنة عليه أو توجيهه، بحيث لا يتمكن من القيام بدوره لحماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وردع السلطات التي تتغوّل على القوانين والأنظمة أو تتجاوز على قواعد العدالة .

وإذا كانت البلدان العربية تتشارك في هذه الإشكاليات، فإن لكل بلد خصوصيته، لاسيما باختلاف تركيبته الاجتماعية والفئوية والدينية والطائفية والمذهبية والإثنية، الأمر الذي اتخذت فيه مسارات التغييرات أشكالاً وطرقاً مختلفة في طبيعتها ومنعرجاتها، حسماً أو مخاضاً أو انتظاراً، وإنْ جمعتها بعض المشتركات، لاسيما المطالبة بالحريات والكرامة ومحاربة الفساد .

وعندما عجزت المؤسسة السياسية والدستورية عن تحقيق التحوّل السلمي للديمقراطية، وفقاً لآليات التداول، فقد اندلعت الحركات الشعبية، لتقوم بهذه المهمة، لاسيما عندما قطعت الطريق على الحاكم بالنزول إلى الشوارع والساحات العامة والتظاهر احتجاجاً على شحّ الحريات وتردّي الوضع الاقتصادي والتخلف الاجتماعي الذي ظلّت المنطقة العربية تعانيه، على الرغم من الواردات الهائلة التي تدخلها سنوياً، والتي تم تبديد الكثير منها، لدرجة أن دولاً مثل ليبيا والجزائر والعراق، وهي بلدان نفطية غنية، ظلّت شعوبها أقرب إلى الفقر، بل إن بعض الشرائح  السكانية دون خط الفقر، بسبب سياساتها غير العقلانية وتبديد المال العام وتخصيص ميزانيات هائلة لشراء وتكديس الأسلحة، فضلاً عن سوء توزيع الثروة وغياب العدالة الاجتماعية .

وبشكل عام فإن المنطقة العربية ظلّت تعاني عدم اعتماد آليات الانتقال الديمقراطي السلمي، وبرر الحكام تمسّكهم بالسلطة تحت ذرائع ومزاعم مختلفة، ولا فرق في ذلك سواءً كانت الأنظمة ملكية أو جمهورية، محافظة أو ثورية، بل إن النظر إلى الديمقراطية  من جانب الأنظمة السياسية السائدة كان أقرب إلى الاتهام باعتبارها “صناعة غربية” أو “نبتاً شيطانياً” أو “فكرة مريبة” يراد بها استهداف بلدان المنطقة وتدميرها، ولعل مثل هذا التصوّر ربط كل شيء بما فيه الرغبة في التغيير وانفجار الانتفاضات الشعبية، باعتبارها “خدعة مشبوهة” و”مؤامرة” مدعومة من الخارج، حيث أسهم الغرب في تدريب بعض الأفراد، ليقوموا بتهييج الشعوب العربية . هكذا يختزل بعض الحكام أو من يقوم بالدفاع عمّا هو قائم بحجة عدم معرفة البديل، حركة الشعوب أحياناً، ليحشرها لتدخل في متاهات أو تصوّرات سياسية أو أفكار مسبقة، خصوصاً عندما يتم التخندق في المواقع والتشبث بالمصالح، ولا يتم النظر إلى الشعوب بديناميكيتها وتفاعل عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية في داخلها، لاسيما عوامل التغيير، التي كانت تختمر ببطء ولكن بعمق، حتى وإنْ بدت كأنها مخدّرة لمرحلة دامت بضعة عقود من الزمان في ظل أنظمة تسلطية، روّضت حركتها وأجهضت تطلعاتها، لكنها عندما اقتنصت اللحظة الثورية لم تدعها تفلت من بين يديها .

ولعل أولى دلالات عدم اعتماد الآليات الديمقراطية في الانتقال السلمي هو عدم وجود دستور ديمقراطي، أو رغبة في إجراء تعديلات دستورية تسمح للقيام بعملية الانتقال الديمقراطي تلك ضمن آليات معروفة وعامة مع أخذ خصوصية كل بلد ومراعاة خلفياته الثقافية، والدلالة الثانية هي غياب قوانين انتخابية معتمدة لقاعدة التمثيل النسبي، فضلاً عن تزوير الانتخابات أو التلاعب بها أصلاً، وإنْ كانت لا توجد قاعدة كاملة، إلاّ أن قاعدة التمثيل النسبي أقرب إلى عدالة التمثيل في البرلمانات . وإذا كانت المهمة الأولى للمواطن هي انتخاب من يمثله عن طريق انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، فإن ذلك يعني مقدمة الطريق للمشاركة في إدارة الشؤون العامة من خلال المراقبة وحق التعبير بالوسائل المختلفة، لاسيما عبر وسائل الرأي العام المتنوعة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، وفي ظروف معينة يمكن اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي للوقوف على رأي الشعب إزاء قضايا معينة ومصيرية .

وإذا تحدثنا عن الانتقال الديمقراطي، من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، فلا بدّ من استكمال ذلك من خلال تحقيق استقلال القضاء، الذي من دونه لا يمكن إقامة الدولة القانونية والدستورية ذات المؤسسات الديمقراطية . ولعل غياب قضاء نزيه ومستقل هو المشكلة التي تشترك فيها الغالبية الساحقة من الدول العربية، بغض النظر عن أنظمتها، سواءً كانت ثورية أو محافظة، جمهورية أم ملكية، رئاسية أم برلمانية .

ولعلّ من التحديات الأساسية التي تواجه التحوّل الديمقراطي، ضعف الثقافة السياسية أو تشوّهها، خصوصاً الثقافة الحقوقية والقانونية بشكل خاص، وهذا ينعكس على فلسفة التربية التي تقوم بها الدولة سواءً إزاء مبدأ المشاركة أو مبدأ المساواة وعدم التمييز أو مبدأ المواطنة الكاملة، تلك التي لا تقتصر على حق الانتخاب وإنما تقوم على المشاركة، بحيث تشمل الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا يزال حق المشاركة محجوباً في الكثير من البلدان العربية، كما أن المواطنة لا تزال مبتورة أو ناقصة أو على درجات، فضلاً عن ذلك فالمواطنة لا تستقيم مع الفقر، وكيف يمكن الحديث عن التنمية مع غياب هذا الحق؟

إن غياب المفهوم السليم للتنمية الإنسانية الشاملة بمعناها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والنفسي المتوازن، باعتبارها ركناً أساسياً للتطور، يشكل أحد عناصر ضعف عملية التحوّل الديمقراطي، لا سيما في إطار آليات التحوّل السلمي . ومن دون تنمية متوازنة في مناطق الحضر والريف، وبين المركز والأطراف، ولاسيما مشاركة واسعة لا يمكن الحديث عن تنمية شاملة، تلك التي تتطلب تحقيق قدر من الديمقراطية الاجتماعية وتحرير الفرد والمجتمع من وسائل الضغط المختلفة التي تعوق إطلاق طاقاته وإمكاناته . ولعل ذلك يتطلب المساواة وتكافؤ الفرص، ويستهدف تقليص الفوارق الاجتماعية والتفاوت الطبقي .

إن التربية السليمة تتطلب إعادة النظر في المناهج والأنظمة والبرامج (السائدة) بما يكفل بناء العقل السوي المنفتح على الآخر والقادر على استيعاب عملية التغيير والإسهام فيها وبالاستفادة من الاطلاع على تجارب الآخرين واعتماد الأساليب السلمية لتحقيق ذلك، لا سيما بالاعتراف بحقوق المرأة وحقوق الطفل ونبذ التمييز لأي سبب كان، وكل ذلك يسهم في معالجة النقص الكبير في الثقافة الديمقراطية وفي التربية المتوازنة، وعبر آليات معتمدة للتحوّل الديمقراطي .

-------------
* نقلا عن دار الخليج الأربعاء 28/3/2012.


رابط دائم: