الأحد 1-4-2012
بقدر ما طرحت شخصية ومواقف البابا شنودة الثالث إشكاليات وتساؤلات على مدى سنوات ، تتصاعد المخاوف من خلو كرسى الباباوية بعد رحيله، وكأن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى. فقد تزامن تغير السلطة السياسية مع السلطة الدينية فى ظروف مرحلة انتقالية تشهد إعداد دستور جديد، وبرلمانا ذا أغلبية إسلامية ، وانتخابات رئاسية وشيكة - تتزامن هذه المتغيرات مع تغير السلطة الدينية التى سترث مشروعا سياسيا محددا يحتم على البابا الجديد أن يتعامل معه.
إن تزامن تغير السلطتين الدينية والسياسية أعاد إلى الأذهان الفترة التى شهدتها مصر عند مطلع السبعينيات بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر، ومجىء الرئيس أنور السادات، ورحيل البابا كيرلس السادس ذى التوجهات الروحانية البعيدة عن التدخل فى الشئون السياسية، وانتخاب خلفه قداسة البابا شنودة ذى الصفات الكاريزمية، والذى واجه عددا من العوامل والمعطيات دفعت به إلى معترك الحياة السياسية، والتى أدت فى النهاية إلى الصدام والمواجهة مع السلطة السياسية، انتهت بتحديد إقامته فى 5 سبتمبر 1981.
يطرح رحيل البابا العديد من التحديات التى تتعلق بمستقبل الكنيسة وتماسكها، كما يطرح تساؤلات تتعلق بمستقبل الأقباط ومن ثم مستقبل مصر . تساؤلات تتعلق بطبيعة العلاقة بين الكنيسة والنظام إلى العلاقة داخل الكنيسة ذاتها، فى ضوء الحديث عن خليفة البابا، ونظام اختيار هذا الخليفة الذى يرفضه البعض، ويشكك فيه بعض آخر: هل باتت هناك رؤية للأقباط حول وضعهم ووضع كنيستهم بعد رحيل رجل لم يكن فقط مجرد زعيمهم الروحى؟ هل سيأتى شخص متمتع بذات الحكمة والتروى والشعبية والبلاغة التى تمتع بها البابا شنوده؟ هل المعطيات الجديدة على الساحة السياسية المصرية، وسط زخم التصريحات وصعود التيارات الدينية وتواتر الأزمات الطائفية، هى نذر شبح مرعب فى ثوب جديد قد يأخذ أبعادا أخطر من تلك التى اتخذها منذ زمن؟ ، كيف سيتعامل البابا القادم مع التيارات الإسلامية المتصاعدة؟ كيف سيكون موقف البابا القادم من أى أزمات طائفية محتملة ؟ كلها تساؤلات مثارة فى ضوء المرحلة الانتقالية التى تمر بها مصر، وفى القلب منها الكنيسة المصرية.
البابا شنودة الثالث: الزعيم الدينى والممثل السياسى:
اعتلى البابا شنوده الثالث كرسى الباباوية فى 14 نوفمبر 1971، وقد سبقه بعام واحد رئيس جديد فى حكم مصر. جاء البابا شنودة الثالث عقب رحيل الأنبا كيرلس السادس الذى كان الأقباط يتباركون به ويعدونه قديسا ، ولكن ساعدت الشخصية الاستثنائية للبابا شنودة فى أن يحول منصب الباباوية كى يكون أكثر ديناميكية وثقلا على المستويين الدينى والسياسى، حيث تميزت حياة البابا شنودة بالنشاط الكبير واهتمامه بأكثر من جانب أكاديمى وعملى. فأظهر اهتماما بالشعر العربى قبل أن يتخرج فى كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، بعد دراسته للتاريخ.
ميوله الأدبية لم تحل دون التحاقه بالكلية الحربية كضابط احتياط ، ثم التحق بالكلية الإكليركية، وتخرج فيها عام 1950 لينشط فى عالم مدارس الأحد، وفى مجال الصحافة. الراهب أنطونيوس السريانى –اسمه أثناء فترة الرهبنة - فضل الابتعاد واللجوء إلى أحد الأديرة حتى عام 1962 عندما تم تنصيبه أسقفا للتعليم، حتى اعتلائه كرسى الباباوية.
ساعدت تلك الصفات الكاريزمية البابا شنودة كى يخرج بمنصب البابا من الإطار الدينى إلى الإطار الدنيوى ، خاصة أنه كان من دعاة الاتجاه الكنسى الشمولى الذى يرى أن المسيحية دين ودولة، وأن الفكر المسيحى يشتمل على كافة جوانب الحياة، ومنوط به أن يقدم حلولاً لكل المشاكل المتصلة بالدين والدنيا ، وذلك فى مواجهة الاتجاه الكنسى الانعزالى الذى كان يتبعه الأنبا كيرلس السادس– الذى يعكس وجهة نظر بعض الكهنة داخل الكنيسة - والذى يرى ضرورة الفصل بين الدين والدولة، وأن وظيفة الكنيسة الأساسية هى التعليم الدينى.
كما تضافرت العوامل الشخصية للبابا شنودة مع العوامل السياسية، والتى دفعت بمدرسة البابا شنودة الفكرية إلى التطبيق فى الواقع العملى، حيث تراجع على الصعيد الكنسى دور المدارس الفكرية المسيحية كمدرسة الأنبا متى المسكين والأنبا جريجوريوس أسقف البحث العلمى وغيرهما، والذى كان لكل منهما نظرته فى تطوير الكنيسة. ولم يتبق سوى مدرسة البابا شنودة الذى رسخ للكنيسة حضورا طاغيا فى حياة أتباعها الأقباط، أكبر أقلية مسيحية فى الشرق الأوسط.
أما على المستوى السياسى، فقد شهدت فترة السبعينيات النهاية الرسمية للمشروع القومي للرئيس عبدالناصر، وبداية لموجة من التدين وارتفاع شأن الهوية الدينية، مما أدي إلى احتقان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. البداية كانت مع إحراق مقر لجمعية قبطية في حي الخانكة بالعاصمة المصرية- القاهرة- على خلفية قيام مجموعة من الأقباط بالصلاة داخل مبنى الجمعية. لكن طبيعة الظرف السياسى وانتظار الحرب مع اسرائيل أديا إلى توارى التوترات الطائفية مؤقتا. لكن الأمر عاد إلى الظهور من جديد مع الحديث عن نية الحكومة تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو ما أرجعه كثيرون إلى محاولة الرئيس السادات اللعب بورقة العقيدة في مواجهة التيارات اليسارية والناصرية التي تعارض سياساته الداخلية المتمثلة في الانفتاح الاقتصادي والخارجية، والتي كان أبرزها الصلح مع إسرائيل.
فما كان من موقف البابا شنودة إلا رفضه قيام المسيحيين المصريين بالهجرة إلى القدس ، ما دامت تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى زيادة واحتدام التوترمع تصاعد الأحداث والصدامات الطائفية، وصولا إلى إقدام الرئيس السادات على عزل البابا شنودة. وبمجىء مبارك ، لم يتم إلغاء الإجراءات التى اتخذها الرئيس السادات بحق البابا شنودة إلا فى يناير 1985، أى بعد أكثر من ثلاثة أعوام على توليه الرئاسة . وقد يرجع ذلك إلى رغبة مبارك فى استجلاء نيات البابا تجاه حكمه قبل اتخاذ القرار بشأن الإفراج عنه، خاصة مع استقرار الأوضاع، فى ظل إدارة اللجنة الكنسية الخماسية التى كلفها السادات بالقيام بمهام البابا.
وعموما ،اتسم نظام مبارك بالشراسة والرخاوة، وقمع التمثيل والمشاركة السياسية، فخلق مجتمعا سياسيا راكدا ،وحَول المواجهات والصراعات والصدامات إلى مجالات أخرى ثقافية واجتماعية . وفى ظل هذا الفراغ السياسى، تبلور دور المؤسسات الدينية فى المجال السياسى، سواء من أجل التأثير فى معتقدات العامة وأساليب حياتهم ، أو من أجل الحفاظ على الهوية، وتدشين الشعور بالاختلاف فى حالة الأقليات الدينية.
أما على مستوى العلاقة بين الأقباط والنظام ، فقد عمد النظام إلى اتباع نفس سياسات الأنظمة التي سبقته فيما يتعلق بالطائفية، مستخدما أسلوب "ترضية النخب القبطية"، وذلك عبر بعض التعيينات في المجالس البرلمانية، فضلا عن الزيارات الاحتفالية. وترك نظام مبارك القضية دون معالجة فعلية لا لمشاكل الطائفية ولا لإشكاليات المواطنة، بل تورط في أخطاء، لا تزال آثارها موجودة بعد رحيله، دفعت برأس الكنيسة إلى تمثيل الأقباط أمام الدولة سياسيا واجتماعيا. لذا، يمكن القول إنه على الرغم من القدرات الكاريزمية التى تمتع بها البابا شنودة ،فإنه لم يدخل الساحة السياسية بمشروع سياسى ، بقدر ما فرض عليه مشروع سياسى كان حتميا أن يتعامل معه . لذا، يطرح المستقبل القريب العديد من التحديات أمام البابا الجديد، والتى تجبره على التعامل معها، حفاظا على وحدة الكنيسة، ومستقبل الأقباط فى مصر.
التحدى الأول- شخص البابا القادم:
لعل ظروف مجىء البابا الجديد تأتى فى إطار من المستجدات على الساحة السياسية المصرية. فرحيل البابا جاء عقب ثورة شهدتها مصر، أطاحت برأس النظام الذى كانت تحكمه علاقة "تفاهم" مع الكنيسة. كما أن البابا الجديد يأتى ليحل محل البابا شنودة الذى توطدت علاقته بشعبه، واستقرت على مدى أربعة عقود على كرسى الباباوية لجيل استقر ذهنه أنه ليس هناك بابا غيره ، هذا ناهيك عن أن البابا الجديد – ولأول مرة فى العصر الحديث – سيدير شئون شعبه القبطى، فى ظل حكم أغلبية إسلامية. كما أن الديموجرافيا السياسية وطبيعة مطالب الأقباط تتغير فى ضوء رفضهم لفكرة الرضوخ والاستسلام، وعدم التفريط فى حقوقهم المدنية.وفى هذا الإطار، يمكن طرح العديد من السيناريوهات حول شخصية البابا القادم :
أولا: أن يسير البابا الجديد على حكمة البابا شنودة ويتبنى ذات سياساته تجاه النظام والأقباط، ويسير على ذات النهج ونفس التوازنات. وفى إطار هذا السيناريو، يكون البابا الجديد قادرا على التفاوض والحوار بحكمة للخروج من مأزق الطائفية، حتى لايدفع بالأقباط لحالة مواجهة مع الجميع. ولكن، قد يرفض الحراك القبطى المستمر سياسات البابا الجديد، خاصة مع صعوبة توافر الصفات الكاريزمية التى كان يتحلى بها البابا شنودة لدى البابا الجديد، ومن ثم المخاوف من الانقسام بين الكنيسة والأقباط ، والخوف من تكرار أحداث كماسبيرو لدفع الأقباط إلى الكنيسة مرة أخرى، كى يستطيع النظام التعامل مع الأقباط من خلال رأس الكنيسة مرة أخرى.
ثانيا: أن يكون رجلا شديد التطرف الدينى معاديا للسلطة الموجودة، يقود الأقباط إلى المواجهة مع الدولة والنظام. إلا أن طبيعة المرحلة السياسية، من تنامى صعود التيارات الإسلامية، والتخوف من المقارنة بالبابا شنودة، ومواقفه ومحافظته على فتح القنوات مع مختلف القنوات الرسمية وغيرالرسمية ، كلها أوجه مقارنة قد لاتكون فى صالح البابا الجديد إذا دفع بالأقباط إلى هذا السيناريو، خاصة أنه يدفع بالأقباط إلى التخندق، وتعميق المناخ الطائفى.
ثالثا: أن يكون رجلا شديد السلطوية، مفرطا فى حقوق الشعب القبطى ، ومن ثم يكون طيعا للسلطة السياسية. لكن هذا السيناريو تتضاءل فرصه، خاصة فى ظل الحراك القبطى، وبروز العديد من الحركات المدنية للأقباط، والتى تدافع عن حقوقهم، سواء من العلمانيين الأقباط، أو من رجال الكنيسة أنفسهم.
وفى إطار السيناريوهات الثلاثة السابقة ، لا يمكن تصور دور البابا الجديد إلا مع تصور دور الدولة فى المقابل فى إطار تعاملها مع الكنيسة ، وكذلك النخبة السياسية بمختلف فصائلها وتياراتها. فالبابا القادم عليه مسئوليات كثيرة، سواء كانت كهنوتية، أو روحية ،أو سياسية للم الشتات القبطى، والاندماج فى الشأن العام، وفتح القنوات بين البابا والشعب .كما أن منصب البابا القادم ليس منصبا دينيا فقط، حيث يتداخل مع سلطة الدولة بتوصيل رسالة بالرضا أو عدم القبول فيما يتعلق بالعديد من المسائل الخاصة بدور العبادة أو قانون الأحوال الشخصية أو غيرها.
التحدى الثانى- صعود تيارات الإسلام السياسى:
لم يكن البابا شنودة مضطرا للتعامل المباشر مع تيارات الإسلام السياسى إلا خلال الشهور القليلة التى سبقت رحيله، بل كان أقصى تعامل للبابا شنودة هو لقاءات بينه وبين المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين قبل وفاته بنحو عشرة أيام، أو حضور بعد ممثلى الجماعة لتهنئته بعيد الميلاد.وقد يرجع ذلك إلى طبيعة شخصية البابا شنودة التى دفعت به إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع كافة القنوات الرسمية وغيرالرسمية، بعيدا عن سياسة المواجهة أو التسخين.
وفى إطار الصعود المتنامى لتيارات الإسلام السياسى ، يطرح مشهد وداع البابا مخاوف كل من الأقباط والكنيسة من الدور المنوط بالكنيسة القيام به تحت قيادة البابا الجديد ، خاصة أن الأقباط شعروا بالخوف والقلق، فى ضوء تواتر الأحداث الطائفية، والتصريحات المقلقة، والبيانات الغامضة الصادرة عن حركات الإسلام السياسى.
وفى هذا الإطار، يتعين التذكير بأن خوف الأقباط ليس من الإسلام، لأنه جزء من المرجعية الشرعية للنظام السياسى بأكمله، ولكنه من تيار الإسلام السياسى، خاصة فى ضوء بعض تصريحات التيارات الإسلامية كالحديث عن الجزية، ونظام الملة، ومصطلح أهل الذمة، الأمر الذى يشكل خطورة على حرية الاعتقاد والحريات بشكل عام. وأيضا فى ضوء التساؤل المثار حول شعار "الإسلام هو الحل"، كما تطرحه جماعة الإخوان المسلمين، بما يعني أن الإسلام يقدم حلولاًمتكاملة لكل المشكلات والمعضلات في كافة مناحي الحياة المصرية، فهل سيكون الحلالإسلامي واحداً من بدائل عدة للحلول، أم الحل الوحيد؟.
ولا يقتصر القلق من صعود تيار الإخوان المسلمين بقدر ما يتعلق بصعود التيار السلفى وتصريحاته المتضاربة بشأن حقوق المواطنة والعلاقة مع الآخر، نظرالعنفهم الرمزي تجاه الكنيسة والمطالب القبطية. ورغم تبرئهم مما ينسب إليهم إعلاميا من أحداث، فإن خطابهم لا يزال يراوح مكانه غير ممتلك بعضا منمرونة خطاب الإخوان المسلمين. وليس أدل على هذا من موقفهم داخل مجلس الشعب برفضهم الوقوف دقيقة حداد على روح البابا بدعوى أن هذا الأمر غير وارد فى الشريعة الإسلامية.
إن البابا المنتظر ليس أمامه مفر من التعامل مع الإخوان أو السلفيين، أصحاب الأغلبية فى البرلمان، والذين من الممكن أن يأتى الرئيس القادم منتميا لأى من هذين التيارين. التساؤل: كيف سيكون التعامل، خصوصا فى ضوء غياب الخبرة السابقة المتراكمة، باستثناء تلك الزيارة التى تمت بين المرشد والبابا شنودة أثناء مرضه الشديد؟ هل سيتبنى البابا القادم نهج البابا شنودة، ويدخل بصفته وبكنيسته فى معترك المفاوضات والتوازنات السياسية؟ أم سيترك تلك المهمة للنخبة المدنية القبطية، على الرغم من أن لكل من السيناريوهين تحدياته ومخاطره ؟
التحدى الثالث- التماسك الداخلى للكنيسة:
كان البابا شنودة يمتلك جميع خيوط الكنيسة فى يده ، ومن ثم قد يؤثر رحيله بشكل كبير فى كيفية إدارة الكنيسة وحجم وطبيعة الصراعات داخلها. ولعل سيناريو "الفراغ الكنسى" الذى تواجهه الكنيسة حاليا سيسلط الضوء كرها على قيادات الكنيسة، بدءا من القائم مقام البطريرك، مرورا باللجنة المشرفة على الانتخابات الباباوية، وصولا إلى أعضاء المجلس الملى العام والمجمع المقدس.
ولعل سيناريو "الفراغ الكنسى" قد بات مرعبا ومهددا لتماسك المؤسسة الداخلى من أكثر من ناحية ، منها سيطرة البابا شنودة على الأساقفة، وحنكته المعهودة فى التعامل مع المتغيرات على الصعيدين المحلى والدولى. كما تتصاعد التساؤلات حول إمكانية الحفاظ على تماسك المؤسسة فى مرحلة ما بعد البابا فى إطار الدور السياسى الذى سيلعبه البابا الجديد ، وإقصاء العلمانيين، وتحجيم دورهم، وتعديل لائحة انتخاب البطريرك. وعلى الرغم من تلك المخاوف، يصرح عدد من الأساقفة بأن رحيل البابا شنودة "لن يغير ثوابت الأقباط الداخلية أو العربية، ولن يؤثر فى موقف الكنيسة من القضية الفلسطينية، وزيارة القدس، أو حل الخلافات الداخلية، عبر الحوار والمحبة" . وصرح الأنبا بسنتى، أسقف حلوان والمعصرة "بأن موقف البابا شنودة هو موقف الكنيسة والمجمع المقدس وكل المسيحيين".
وأيا كان شكل وطبيعة العلاقات داخل الكنيسة، فإن من أبرز تحديات المرحلة الحالية صعوبة تكرار الشخصية الكاريزمية لخليفة البابا شنودة ،م ما قد يؤدى إلى صراعات داخل الكنيسة، خاصة أنه استطاع أن يحدث نهضة فى إنشاء الأديرة على مستوى العالم، وأن يصل بالكنيسة القبطية إلى العالمية. كما تتزايد المخاوف من الصراعات بين الكنيسة والدولة، خاصة أن البابا الراحل كان الضمانة لإنهاء الخلافات بالحوار حول قضايا مثل دور العبادة، أو حل الأزمات الطائفية.
وجدير هنا ذكر أن الأسماء التى ترددت بدعوى كونها الأجدر أو الأقرب لاعتلاء كرسى الباباوية هى محض تكهنات بعيدة عن الواقع الفعلى، خاصة أن قواعد الكنيسة عتيقة وشديدة الصرامة . فبغض النظر عن الاختلاف حول لائحة انتخاب البطريرك بين العلمانيين ورجال الكنيسة ، فإن انتخاب البطريرك الجديد يأتى وفقا لشروط مؤسسية معلومة بعيدة عن التحيزات الذاتية أو الميول الشخصية، وتنتهى بإجراء القرعة الهيكلية التى تعد بمثابة "الاختيار الإلهى" للبابا الجديد، وفق العقيدة المسيحية الأرثوذكسية.
التحدى الرابع- الحراك القبطى:
اهتزت معادلة التخندق والاحتماء بأسوار الكنيسة مع عملية تفجير كنيسة القديسين، ورفض شباب الأقباط استمرار سياسات النظام فى ترديد أن الهجوم من صنع قوى خارجية تستهدف زعزعة استقرار مصر، خاصة أنه لم يكد يمر عام على أحداث نجع حمادى فى مطلع عام 2010. فرفض شباب الأقباط قبول تهنئة مبارك للمسيحيين بعيد الميلاد بعد أحداث "القديسين".
وتعد هذه الخطوة اللبنة الأولى لانفصال الأقباط عن كنيستهم سياسيا، خاصة بعد الموقع الإلكترونى الذى أسسه شباب من الأقباط بعنوان "الأقباط قالوا كلمتهم.. محمد البرادعى رئيسا لمصر" ، وأيضا بعدما بدأ عدد من الحركات المدنية، ومجموعة من الأقباط المستقلين، فى الخروج على الكنيسة بشعارات مناهضة لمبارك بل وللبابا فى القاهرة والإسكندرية ، فى حين انتقدهم البابا، ونبههم إلى ضرورة التخفيف من لهجتهم، لأن العبارات التى استخدموها "تخل بكل القيم والأعراف السلوكية".
ومع ثورة 25 يناير، أخذ البابا شنودة موقفا مؤيدالمبارك في إطار التسليم بأن النظام القائم هو حامى الأقباط مع الخوف من العدو المشترك للطرفين وهو الإسلاميين، لكن آلاف الشباب القبطي شاركوا في الثورة بفاعلية، وكانت بالنسبة للغالبية منهم نهاية لمرجعيةالكنيسة السياسية، وبداية النزول إلى الشارع كمواطنين يناضلون تحت شعاراتالوطنية نفسها التي وحدت الشعب بطوائفه . لكن سقوط مبارك لم يأت بنظام ديمقراطي يضمن المساواة، وحقوق المواطنة للجميع. وزاد من صعوبة الموقف خروج الآلاف من المعتقلين من التيار الإسلامي من السجون والمعتقلات إلى صدارة المشهد السياسي بقوة.
ستكون مهمة البابا الجديد في غاية الصعوبة، في ظل خروج شباب الأقباط عن دورالكنيسة التقليدي، وطرح مشاكلهم باعتبارها جزءا من مشاكل المصريين، خاصةالاجتماعية منها والاقتصادية، وإصرارهم على حل مشاكلهم المتراكمة من خلال تحقيق مبدأ المواطنة والمساواة، وإنهاء كل صور التمييز، وذلك من خلال النضالالسياسي في الشارع، وسحب التفويض الممنوح للكنيسة لحل مشاكل الأقباط بالصورة التقليدية.
فهل سيستطيع البابا الـ 118 أن يستوعب الجيل الجديد من الشباب القبطى الذي بدأ التمرد على قيادات الكنيسة فى نهاية عهد البابا شنودة، وتمثل ذلك فىمشاركتهم فى مظاهرات ميدان التحرير، رغم توجيهات وتعليمات الكنيسة بعدم المشاركة، ثم عدم انصياع شباب ماسبيرو لطلب عدد من الأساقفة بإنهاء اعتصامهم ؟ هؤلاء الشباب تمردوا على السلطة البابوية، وقد يجدالبطريرك نفسه فى مواجهتهم. ومن المؤكد أن الأمر يحتاج إلى قدرة على التأثير والإقناع، خصوصا فى ظل حماسهم الزائد أحيانا فى الدفاع عن القضايا القبطية، والتى قد تسبب توترا فى العلاقة مع النظام والرئيس الجديد.
التحدى الخامس- العلاقة مع أقباط المهجر:
تؤخذ دائما صورة نمطية عن أقباط المهجر، كونهم خارج الوطن، على أنهم لا ينتمون للكنيسة المصرية أو لوطنهم. ونتج عن هذه الصورة السلبية استقرار القناعة بكونهم مستغلين وجودهم فى الغرب لافتعال أزمات بين الكنيسة والنظام. لذا، تتصاعد المخاوف من إثارتهم للأزمات مع الأنظمة القادمة أو الحكومات المتعاقبة، خاصة مع احتمالية أن تكون حكومات إسلامية.
كما ينظر إلى قادة أقباط المهجر بما يملكونه من أموال وعلاقات خارجية على أنهم لايرغبون فى استقرار مصر، ويدعون إلى الحماية الدولية عليها. ولعل وجود الأقباط فى بلاد المهجر لا ينتقص أبدا من وطنيتهم أو انتمائهم لمصر وللكنيسة. بل على العكس، أدى ارتباطهم بالكنيسة الأم فى مصر، واتساع وجود الكنيسة القبطية خارج مصر، إلى تبنيهم للمطالب القبطية، ولكن قد يكون انبعاثا من دوافع دينية أكثر منها دوافع مدنية. ومن الإنصاف القول إن أقباط المهجر ليسوا وحدة واحدة متجانسة، فهم مختلفون جيليا وفكريا وجغرافيا، كما أن نسبة قليلة منهم هى المسيسة والمهتمة بالشأن الداخلى المصرى، وفى القلب منه القبطى.
ولعل مطالبات بعض أقباط المهجر بحقوق الأقباط فى مصر، خاصة تحت نظام مبارك، قد أحرجت موقف الكنيسة ،ودفعت بالبابا شنودة إلى حسم الموقف قائلا "من يرد أن ينتقد فليأت إلى هنا". كما عرضت بعضا من مواقف الأقباط فى المهجر الكنيسة الأرثوذكسية لأزمات مع النظام بعد الثورة، والتى دفعت بالبابا شنودة إلى التصريح وتأكيد رفضه للحماية الدولية على مصر فى تصريحه الشهير " إن كانت أمريكا ستحمى الكنائس فى مصر، فليمت الأقباط وتحيا مصر"، الأمر الذى وطده موقف قداسته، بعد رفضه مقابلة مبعوث لجنة الحريات الدينية بالكونجرس الأمريكى أكثر من مرة.
ويطرح رحيل البابا شنودة تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الكنيسة وأقباط المهجر، فى ضوء حالة "الفراغ الكنسى" الحالية، أو التكهنات حول شخصية البابا الجديد، ورؤاه وسياساته تجاه أقباط المهجر، وفى ضوء تصاعد مخاوفهم حيال وضع الأقباط بعد "نياحة" البابا شنودة الثالث لتصل إلى نسبة 49% يرون أنها ستتأثر بالسلب، و27% يرون أنه لن يحدث تغيير، مقابل 24% يرون أن وضعهم سيتأثر بالإيجاب، كما هو مطروح على موقع منظمة أقباط الولايات المتحدة.
لعل جل هذه التحديات يترابط مع بعضه بعضا، بحيث لايمكن فصلها أو تجزئتها. فشخصية البابا القادم ستحدد ميوله وتوجهاته وتفضيلاته فيما يتعلق بالعزلة، والاقتصار على الزعامة الروحية، أو الدور السياسى الذى سيلعبه، ومدى قدرته على الحفاظ على تركة البابا شنودة، من حيث تماسك الكنيسة وقوتها فى بلاد المهجر.كما أن صعود تيارات الإسلام السياسى يفتح تساؤلات تتعلق باحتمالية انتخاب رئيس من التيار الإسلامي، الأمر الذى يحمل الكثير من المخاوف للمسيحيين على وجه الخصوص.كما ستكشف معركة كتابة الدستور، فى ضوء الغموض المحيط بتشكيل اللجنة التأسيسية، عن نوعية الخطاب الجديد للكنيسة وتوجهاتها، بل وشخصية البابا الجديد، فإما بابا يقود الكنيسة بما يواجه التحديات الجديدة، أو تكتفي الكنيسة بالأمورالدينية والقوى الجديدة التي خرجت مع الثورة للنضال والكفاح في الشارع من أجل دولة المواطنة.
إن التحليل السابق لا يحصر تحديات الكنيسة تحت قيادة البابا القادم. فبالطبع، هناك تحديات أخرى قائمة، كما أنه من الممكن استحداث تحديات جديدة، خاصة تلك المتعلقة بالشئون المسيحية الصرف، كقضايا الزواج الثانى ، والعلاقة مع شعب الكنيسة، فهل سيستطيع البابا الجديد التصدى للتحديات، والحد من المخاوف؟.