الدولة و"اقتصاد الصدقة" 25-3-2012 عوني صادق * في ظروف مالية صعبة تمر بها السلطة الفلسطينية، استضافت المفوضة الأوروبية، كاثرين أشتون، الثلاثاء الماضي في بروكسل، اجتماعاً لما يعرف باسم “الدول المانحة” التي تتحمل عبء تمويل وتغطية الموازنات المالية السنوية للسلطة، بحضور ممثل للحكومة “الإسرائيلية” . وكانت تقارير صدرت عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تشيد بالتقدم الذي أحرزته السلطة الفلسطينية، سواء على مستوى النمو الاقتصادي أو على مستوى تحسين الكفاءة والشفاقية في التصرف بالعائدات وترشيد الإنفاق، ما شجع السلطة الفلسطينية على القول إنه حان الوقت لقيام “الدولة الفلسطينية”، الأمر الذي حاولت الحكومة “الإسرائيلية” في المؤتمر أن تثبت عكسه . وفي وثيقة قدمها للمؤتمر رئيس وزراء السلطة، سلام فياض، حمّل الحكومة “الإسرائيلية” والاحتلال المسؤولية عن عرقلة وتعطيل سير الاقتصاد الفلسطيني وعملية التنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال “حصار غزة، وتعطيل الحركة الاقتصادية وحركة الإنسان في الضفة الغربية” . وقال فياض: إنه “بعد تحقيق الجاهزية للاستقلال والسيادة على أراضي دولة فلسطين في حدود الرابع من يونيو/حزيران عام ،1967 سنواصل التحرك لإبقاء حل الدولتين حياً، رغم استمرار هدم “إسرائيل” للمنازل الفلسطينية وتدميرها للبنية التحتية ومساعيها لتقويض دور ومكانة السلطة الفلسطينية” . وبالنظر إلى البيان الختامي الصادر عن الاجتماع، يتبين أن المحاولة “الإسرائيلية” فشلت، حيث دعا البيان الدول المانحة إلى تقديم مليار للسلطة الفلسطينية في العام ،2012 والعودة للاجتماع في سبتمبر/أيلول المقبل . ورحب البيان بالإجراءات التي تتخذها السلطة الفلسطينية لجعل العائدات أكثر كفاءة وشفافية . في الوقت نفسه، دعا البيان الحكومة “الإسرائيلية” إلى اتخاذ مزيد من الخطوات لتحسين حركة الأفراد والبضائع، والتنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك منطقة (ج) والقدس الشرقية . كما دعاها إلى ضمان التحويلات الشهرية للسلطة . هذه النتيجة التي عكسها البيان الختامي لاجتماع بروكسل تظهر أن السلطة الفلسطينية قد حصلت على ما أرادته بالنسبة إلى المساعدات، (وإن كانت تظل على الورق)، لكنها لم تتقدم خطوة على طريق هدفها إقامة “الدولة الفلسطينية” استنادا إلى ما اعتبرته “جاهزية” الوضع لهذا الإعلان . وكل ما جاء على لسان أشتون بهذا الخصوص هو أن اتصالات تجري بين الجهات المعنية لإعادة الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي” إلى مائدة المفاوضات، وهو أمر طبيعي لأن “الدولة الفلسطينية” لن تقوم من دون موافقة الجانب “الإسرائيلي” على قيامها . وليس خطأ القول إن مساندة “الدول المانحة” للسلطة في اجتماع بروكسل لم تكن أكثر من “رشوة” لتحقيق عودة المفاوضات، ولن يكون غريباً أن يكون تقديم المساعدة مرهوناً بعودة المفاوضات، خصوصا أن المساعدات المالية المقدمة إلى السلطة لم تكن منذ الأساس إلا ثمناً للتنازلات السياسية التي قدمتها الأخيرة في إطار ما يسمى “عملية السلام في الشرق الأوسط” . وبعيداً عن مؤتمر بروكسل، يظل السؤال الحقيقي ماثلاً: هل يمكن لدولة أن تقوم اعتماداً على المساعدات الخارجية، أو ما يمكن أن نسميه “اقتصاد الصدقة”؟ علماً أن ما تقدمه الدول المانحة للسلطة الفلسطينية ليس صدقة بل ثمن له مقابل . هناك مقولة تقول: “الحرب سياسة بوسائل عسكرية”، والمعنى أنه عندما تعجز وزارة الخارجية تسلم دورها لوزارة الدفاع، أو وزارة الحرب . بعبارة أخرى، ما تعجز عنه الدبلوماسية تحققه القوة . والنتيجة أنه لا توجد سياسة لدولة ليس لديها القوة اللازمة للدفاع عن هذه السياسة، ودولة بلا قوة لا سياسة لها، إلا سياسة الخضوع والإذعان . وهناك مقولة أخرى تقول: “الاقتصاد سياسة مكثفة” . ويمكن أن تكون هناك مقولة ثالثة تقول: من دون اقتصاد لا تكون هناك لا سياسة ولا دولة . لقد قام المشروع الصهيوني على فكرة أن فلسطين هي “أرض الميعاد”، و”دولة إسرائيل” لم تكن يوماً “وطناً قومياً لليهود”، بل “الوطن القومي لليهود”، بمعنى أنه لا يمكن أن توافق “إسرائيل” على إقامة “دولة فلسطينية” مستقلة في فلسطين . والقيادات الصهيونية، على طول تاريخ “دولة إسرائيل”، لم توافق يوماً على قيام “دولة فلسطينية”، من بن غوريون إلى نتنياهو، مروراً بمائير ورابين وشارون . وحتى قرار الجمعية العامة 181 (قرار تقسيم 1947) قبلت الحركة الصهيونية نصفه الخاص بقيام “الدولة اليهودية”، وأنكرت نصفه الآخر الخاص بالدولة الفلسطينية . وفي الوثيقة التي قدمها سلام فياض إلى مؤتمر بروكسل، حمّل الحكومة “الإسرائيلية” والاحتلال كل ما يعانيه الاقتصاد الفلسطيني، وهو محق في ذلك . ولكن، كيف لدولة أن تقوم وهي تحت الاحتلال ودون أن تكون قادرة على تقرير سياستها؟ وكيف يكون لدولة اقتصاد مستقل، بينما سلطات الاحتلال تتحكم في ثرواتها ومواردها وسياساتها الاقتصادية؟ لقد أظهر التمسك بالمفاوضات كأسلوب لاسترداد بعض الحقوق عجز هذا الأسلوب عن تحقيق أي شيء، بل تأكد الجميع أن المفاوضات لم تكن أكثر من عملية “بيع الوقت” للحكومة “الإسرائيلية”، لإتاحة الفرصة لها لتهويد القدس، ومصادرة أراضي “الدولة الفلسطينية”، حتى أنه لم يبق لها الآن أكثر من 10% من أراضي فلسطين تجري المساومة عليها حتى إشعار آخر، مقابل “المساعدات” التي تدفعها “الدول المانحة” للسلطة . وقد جاء في الأنباء أن الحكومة “الإسرائيلية” عرضت على السلطة الفلسطينية، قبيل عقد مؤتمر بروكسل، تقديم بعض التسهيلات في موضوع حركة الأفراد والبضائع وتصاريح العمل، مقابل ألا تذهب إلى مجلس حقوق الإنسان لمعاودة محاولة الاعتراف بالدولة، أو لإدانة عمليات الاستيطان . ألا يدل ذلك على طبيعة “المساعدات” التي تقدمها والتسهيلات التي تطالب بها “الدول المانحة” للسلطة الفلسطينية؟ ---------------- * نقلا عن دار الخليج الأحد 25/3/2012. رابط دائم: