اهتمت حركة النشر الغربية،وبالأساس الأمريكية في الربع الأخير من عام 1102 ، بجملة من القضايا القديمة التي لاتزال تشغل تفكير الجماعة البحثية الغربية، وفي القلب منها الأمريكية، باعتبارها قائدة حركة التفكير العالمي في القضايا الدولية، لاسيما شكل النظام الدولي الذي لم يتبلور بعد، في ضوء التحولات في موازين القوي، وتراجع القوة الأمريكية (سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا ..). ولم يقتصر هذا الاهتمام على الكتب، ولكنه -أيضا- احتل مكانة متقدمة على أجندة مراكز الفكر والرأي الأمريكية والغربية، لاسيما مع تزايد الحركات الاحتجاجية الشعبية على ضفتي الأطلسي للأزمات المالية التي تواجهها دول الأطلسي، والتي لها جل الأثر على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها.
دفع هذا الأمر عددا كبيرا من الكتاب الأمريكيين إلي البحث عن أسباب تراجع القوة الأمريكية عالميا في مواجهة القوي الصاعدة التي تتقدمها الصين والهند والبرازيل، ومستقبل ومكانة الولايات المتحدة، في ظل تلك التحولات الحادثة في النظام الدولي، وكيفية استعادة قوتها عالميا. وفي هذا السياق، يظهر الانقسام بين المفكرين والكتاب، بين من يرون أن العصر القادم لن يكون أمريكيا، وآخرين يرون أنه أمريكي بامتياز، وأن الولايات المتحدة ستظل فاعلا رغم التغيرات الحادثة عالميا.
وينتمي كتاب "باتريك بوكانان" Patrick J. Buchanan - الصادر خلال شهر أكتوبر من عام 2011 - والمعنون بـ"انتحار القوي العظمي: هل أمريكا ستبقي على قيد الحياة إلي عام 2025"، إلي الاتجاه الذي يرى أن الولايات المتحدة لم تعد القوة المسيطرة عالميا، في ظل صعود قوي دولية جديدة منافسة بقوة لها، وساعية إلي أن تحل محلها في مناطق تراجع النفوذ الأمريكي، وأنها أصبحت منافسة للولايات المتحدة في كافة المجالات.
وتضمن الكتاب تفسيرا لأسباب التراجع الأمريكي. ويرجع السبب الرئيسي إلي الأعباء الاقتصادية، وأزمة الديون الأمريكية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي منذ عام 2008، نتيجة ارتفاع تكلفة حربي أفغانستان 2001 والعراق 2003 وهو سبب تتفق علىه معظم - إن لم يكن كل - الكتابات التي تناقش تراجع القوة الأمريكية. لكن "بوكانان" يضيف سببا آخر يتعلق بتراجع الهوية المسيحية للولايات المتحدة وثقافتها، وهو ما يرتب عللا اجتماعية وثقافية تهدد القوة الأمريكية وطموحها الإمبراطوري.
ويتفق "بوكانان" مع معظم الكتابات الأمريكية في أن الحل يكمن في تخفيف الولايات المتحدة انخراطها في المشكلات الدولية وتحمل الأعباء الدولية بمفردها، ولكن عليها دفع القوي الدولية الأخري وتلك الصاعدة لتحمل إدارة النظام الدولي وقضاياه معها. وهو ما يتسق مع كثير من الكتابات الأمريكية التي بدأت تدعو إلى عودة الانعزالية الأمريكية، نظرا لكثرة المخاطر والمشاكل التي تعود على الداخل الأمريكي من كثرة انخراطها الدولي، وإشراك جنودها في عديد من مناطق الصراع الدولي، والتي أثقلت كاهل الاقتصاد الأمريكي، وبالتإلى دافعي الضرائب، وتوجهات الإنفاق الأمريكي التي أضحت تبتعد عن تلبية احتياجات المواطن الأمريكي (التعليم، الرعاية الصحية، البني التحتية ..). ويرتبط بذلك الحديث عن ضرورة إنهاء الحروب التي تشارك فيها الولايات المتحدة خارجيا، وتقليل الإنفاق العسكري وخفضه، وهي قضية يحتدم النقاش حولها داخل الولايات المتحدة.
الكتابات الغربية حول " الربيع العربي"
لم يقتصر اهتمام حركة النشر الغربية بقضايا تقليدية استهلكت في الكتابات الغربية والأمريكية خلال الأشهر الماضية، لكن كانت هناك زيادة في عدد عناوين الكتب الصادرة باللغة الإنجليزية التي تتحدث عن الثورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتي يطلق عليها في الكتابات الغربية "الربيع العربي" مع نجاحها في إسقاط نظامي حكم كانا من المتصور غربيا استحالة إسقاطهما، وهما نظاما "بن علي" في تونس، و"مبارك" في مصر، وإنهاء حكم "القذافي" في ليبيا.
وبدأت الكتابات العربية والغربية - على حد سواء - تولي أهمية لبحث أسباب تلك الهبات الشعبية مع اجتياحها دول المنطقة، ووصولها إلى دول خليجية تحقق ثروات اقتصادية طائلة من بيع النفط، والتي تدحض المقولة الأمريكية إن الأوضاع الاقتصادية المتدنية عربيا هي السبب الرئيسي في الثورات. إلا أن هذا لا يمنع من كون تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية سببا، ولكنه سبب ضمن منظومة من الأسباب الأخري السياسية والاجتماعية والثقافية التي اجتمعت في دفع الشعوب العربية للخروج إلي الشوارع للتعبير عن رفضها لأنظمتها الحاكمة، والذي كان من شأنه أن أصبحت الشعوب فاعلا في صناعة القرار العربي الداخلي والخارجي بعد عقود من التهميش.
وقد ركزت الكتابات التي تناولت الثورات العربية بالبحث والتحليل على أسباب نجاحها في عدد من الدول العربية مثل تونس ومصر وعدم نجاحها في اليمن وسوريا. وقد أرجعت معظمها إلى سببين رئيسيين، الأول متعلق بالداخل وتركيبة المعارضة وقوتها، ومدي سيطرة النخبة الحاكمة على مؤسسات الدولة، خاصة مؤسستي الجيش والشرطة القادرتين على قمع شعوبها. أما السبب الثاني، فهو مرتبط بالقوي الخارجية ومدي رغبتها وتدعميها لحدوث التغيير في دولة دون غيرها، والذي يخضع لحسابات المصلحة. وفي هذا السياق، يتم الحديث عن التدخل الخارجي العسكري في لبيبا، وإمكانية حدوثه مرة أخرى.
وقد صاحب هذا اهتمام عديد من الكتابات العربية بتساؤل رئيسي، مفاده: هل الدول الخليجية ذات الوفرة النفطية التي تمكنها من تحقيق تنمية اقتصادية ومستوي دخل مرتفع لمواطنيها محصنة ضد الثورات لغياب الأسباب الاقتصادية القاسية التي تدفع المواطنين إلى الثورة ضد أنظمتها الحاكمة والمطالبة بالتغيير الثوري؟.
لكن معظمها توصلت إلى صعوبة - وليس استحالة - أن تشهد الدول الخليجية ثورات مثل التي شهدتها مصر وتونس للوفرة النفطية التي تعكسها الأنظمة الحاكمة في تنمية اقتصادية، ورفع مستوي دخل مواطنيها، وإلى عمل السلطة الحاكمة في تلك البلدان على مناقشة الأسباب التي تدفع مواطنيها إلى الثورة والعمل على حلها، وكذا غياب قوي سياسية وتيارات فكرية فاعلة، وأيضا للثقافة السياسية المنتشرة بين مواطني الخليج العربي، والتي تمنع الخروج على الحاكم، والالتزام بأمر طاعة ولي الأمر.
ومع تحقيق الإسلاميين تقدما في الانتخابات التونسية وكذا المصرية ، وأيضا في المغرب، بدأ الحديث داخل الأوساط الأمريكية والغربية في حلقات النقاش والمؤتمرات التي عقدتها كثير من مراكز الفكر والرأي الأمريكية، وكذا الأكاديمية، عن "شتاء عربي" أو "خريف عربي"، مع وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في دول ذات أهمية للمصلحة والأمن القومي الأمريكي. وقد زاد هذا الهاجس مع الفوز غير المتوقع غربيا وأمريكا للسلفيين المتشددين دينيا في الانتخابات المصرية.
ولذا، أثار المشاركون والمتحدثون، سواء من الطرف العربي أو الغربي في المؤتمرات والندوات التي تتناول مستقبل المنطقة مع تنامي قوة ونفوذ التيار الإسلامي، تساؤلات عدة حول شكل هوية الدول العربية، ووضع غير المسلمين، والعلاقات الخارجية مع القوي الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والموقف من الصراع العربي - الإسرائيلي، وقوي المقاومة التي تنظر إليها واشنطن والقوي الغربية على أنها جماعات "إرهابية"، حسب التصريحات والتقارير الرسمية الغربية. وركزت الكتابات التي تتناول الثورات العربية على تحديات ومعوقات نجاح الثورات في عديد من الدول العربية، مثل سوريا واليمن، والسيناريوهات المتاحة أمام الدول العربية، لتجنب ثورات تسقط حكامها كحالة مصر وتونس وليبيا.
واهتم باحثون وكتاب بدارسة مشاكل الأقليات في العالم العربي مع تصاعد الأحداث الطائفية، لاسيما تلك التي يتعرض لها الأقباط في مصر، وكذا الشيعة في عدد من الدول الخليجية. وقد اهتمت الأوساط الغربية بمناقشتها في مؤتمرات وندوات مخصصة لمناقشة وضع الأقليات في العالم العربي، يأتي في مقدمتها جلسات الاستماع التي يعقدها الكونجرس الأمريكي لمناقشة أوضاعهم. ويتزايد الاهتمام بتلك القضية مع تنامي نفوذ القوي الإسلامية سياسيا، في ظل تراجع ملحوظ للقوي الليبرالية، وهو الأمر الذي يثير حفيظة الغرب والحركات والقوي المدافعة عن حقوق الإنسان.
وأخيرا، كان هناك اهتمام عربي خلال الأشهر الماضية بقضية قليلا ما اهتمت بها الجماعة البحثية العربية، وهي العلاقة بين الجيش والتحول الديمقراطي. فمع الدور الجلي الذي لعبه الجيش المصري في إنجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير، ودور الجيش السوري في إخماد الثورة السورية، ودخول الجيش الليبي في مواجهات مع الثوار، وطرح تونس حالة لعب الجيش دور الحامي للدولة، وترك اللعبة السياسية للقوي والأحزاب السياسية، بدأت مراكز الدراسات العربية تولي أهمية لتلك القضية، وبدأت في دراسة خبرات تاريخية سيطر فيها العسكر على السلطة في عديد من دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، ومدي تأثير ذلك في التحول الديمقراطي في تلك الدول، وذلك لاستشراف مستقبل التحول الديمقراطي العربي، في ظل فاعلية الجيوش ودخولها المعترك السياسي. وهي قضية لا تزال محل بحث ودراسة عربيا، وسيتزايد الاهتمام بها خلال الفترة القادمة، مع تزايد دور الجيوش العربية في العملية السياسية.
(*) تقديم قسم " مكتبة السياسة الدولية" ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 187 ، يناير 2012