الانتخابات الرئاسية بين الهرولة وعقدة الزعامة! 17-3-2012 السيد يسين * مفكر سياسي مصري، ومستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. يبدو المشهد السياسي في القاهرة هذه الأيام مثيراً غاية الإثارة، بعد أن فتح رسميّاً باب الترشح لمنصب رئيس جمهورية مصر العربية. وهذه أول مرة تنظم فيها انتخابات حرة حقاً لمنصب رئيس الجمهورية، بعد التعديلات الدستورية التي أجريت في عهد الرئيس السابق، والتي ألغت نظام الاستفتاء وحولت نظام الانتخاب ليكون تنافسيّاً وفقاً لشروط محددة حددها القانون. غير أن هذه الشروط كانت تعجيزية حقاً، لمنع مرشحين حقيقيين من المنافسة الحرة مع الرئيس، الذي ظل جاثماً على صدر الشعب المصري ثلاثين عاماً كاملة! وجرت انتخابات الرئيس عام 2005 ولكنها كانت في الواقع تمثيلية غير متقنة الصنع، لأنها كشفت عن كون النظام السلطوي -على رغم دعاوى قبوله التحول الديمقراطي التدريجي- مصمم على عدم احترام مبدأ تداول السلطة. وأسوأ من هذا أنه كانت هناك خطة توريث في رئاسة الجمهورية. وهكذا يتحول النظام الجمهوري إلى نظام ملكي، بغير سند من الدستور أو القانون. والملمح الأساسي للمشهد السياسي بعد فتح باب الترشح رسميّاً لمنصب رئيس الجمهورية يتمثل في بروز حالة من الهرولة الشديدة، أقدم عليها عشرات المواطنين الذين تزاحموا بالمناكب للحصول على استمارات الترشح للمنصب الرفيع! وحتى نكون موضوعيين حقاً ونحن نشير إلى هذه الظاهرة السياسية الفريدة التي تتمثل في أن ما يزيد على مائتي شخص من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية تدافعوا للترشح، يمكن القول إن هذه الظاهرة إحدى النتائج المبهرة لثورة 25 يناير! فلأول مرة تشعر جماهير الشعب المصري بملايينه المتعددة أنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم -مهما كان مواطناً بسيطاً وليست لديه أي خبرة سياسية أو حتى إدارية- وأن يتقدم بكل ثبات وجسارة لكي يرشح نفسه لأرفع منصب سياسي في البلاد. غير أن السلبيات البارزة لهذه الهرولة السياسية غير العقلانية هو بروز النقص الفادح في الثقافة السياسية لعشرات الذين تقدموا للترشح. ولو كانت لديهم ثقافة سياسية حقيقية لما أقدموا بهذا التهور على الترشح، وخصوصاً أن قائمة المرشحين المحتملين للرئاسة فيها شخصيات قومية مرموقة لها تاريخ، وتتضمن أيضاً رموزاً سياسية محترمة، تمتلك التاريخ النضالي، ومارست من قبل المعارضة الجسورة للنظام السلطوي السابق، وبعض هذه الشخصيات لها خبرة في قيادة وإدارة مرافق شتى، أكسبتهم ولاشك في ذلك معرفة متراكمة تصلح أساساً متيناً للبناء عليها في ممارسة مهام منصب رئيس الجمهورية. ويندهش المرء من فرط سذاجة العشرات ممن تقدموا للترشح، التي برزت في التصريحات التي أدلوا بها وهم يبررون لماذا أقدموا على هذه الخطوة، أو ما هي آراؤهم -ولا نقول برامجهم- في حل المشكلات الجسيمة التي تواجه المجتمع المصري في الوقت الراهن. وقد استمعت إلى أسباب إقدام ترشح بعضهم واندهشت من تفاهة الأسباب! قال أحدهم إنه كشف عن صفقة اللوحات المعدنية التي أعدتها وزارة الداخلية وما شابها من فساد ولذلك قرر أن يرشح نفسه! ولم أفهم العلاقة بين هذا العمل "المجيد" الذي قام به هذا المواطن وبين جدارته في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية. غير أن ما أضحكني حقاً -وإن كان ضحكاً أشبه بالبكاء- تصريح لأحد المرشحين المحتملين وهو طبيب يدير مستشفى لجراحات التجميل، وهو الذي أجرى عملية تجميل "لأنف" عضو مجلس الشعب السلفي الذي ادعى كذباً أنه تم الاعتداء الجنائي عليه بغرض اغتياله، وسرق منه -فوق البيعة- مئة ألف جنيه! وتقدم هذا الطبيب بشهادته التي دحض فيها دعاوى عضو مجلس الشعب الكاذب، وبعد ذلك عقد مؤتمراً صحفيّاً قرر فيه بكل خفة أنه سيرشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية! ترى ما العلاقة بين جراح التجميل ومنصب الرئيس المرتقب! وهكذا يمكن القول إن المشهد السياسي يوم فتح الباب للترشح كان أشبه -كما ذكر بخفة دم بالغة- أحد المعلقين على شبكة الإنترنت "بمهرجان الرئاسة للجميع!". بمعنى من يستحق ومن لا يستحق حتى لو كان نكرة سياسية اندفع للوقوف في طابور المرشحين المحتملين، مع أن بعضهم لن يجد عشرة مواطنين يزكونه مع أن المطلوب ثلاثين ألف صوت من خمس عشرة محافظة بحيث لا يقل عدد المزكين عن ألف من كل محافظة! ومعنى ذلك أنه حين يقترب موعد الانتخابات الفعلية ستختفي أسماء العشرات من هؤلاء، ولن يبقى في الساحة إلا عدد لا يمكن أن يزيد على عشرة مرشحين على الأكثر! أما الملمح الثاني من ملامح المشهد السياسي في مصر فهو تحكم عقدة الزعامة لدى بعض المرشحين المحتملين، مع أن بعضهم رجال دولة أو شخصيات سياسية مرموقة، مما كان جديراً بحمايتهم من الانزلاق إلى "الأنوية السياسية!". والسؤال الرئيسي الذي نجح الإعلام المصري عن طريقه في استدراج هؤلاء المحتملين للإجابة عليه هو: ما هو أول قرار ستتخذه حين تصبح رئيساً للجمهورية؟ قال مرشح محتمل -وإن كان انسحب من السباق احتجاجاً على تلوث المناخ السياسي كما زعم- إن أول قرار سيتخذه هو أن يعقد أول مؤتمر صحفي له في "إسطبل عنتر"، وهي منطقة عشوائية شديدة التخلف حتى يثبت للعشوائيين أنه يحس بهم! يا للسذاجة! وقال آخر عميق الخبرة إن أول قرار هو أنني سأعفو عن جميع السجناء من أهل سيناء المتهمين في قضايا سياسية! تأمل معي أيها القارئ هذا العدوان المخطط على سيادة القانون! ونفس هذا المرشح المحتمل أخذته عقدة الزعامة إلى آخر مدى فقال بصورة "عنترية" مفضوحة لن أعفو عن "مبارك" لو صدر عليه حكم! وقال مرشح محتمل آخر إن أول قرار سأتخذه هو أن أمنع مد الغاز إلى إسرائيل طبقاً للاتفاق الذي أبرم في عهد النظام السابق! واندفع مرشح محتمل آخر زاعماً أن أول قرار سيتخذه هو إلغاء اتفاقية "كامب ديفيد"! وقال مرشح محتمل يتسم بالاتزان -غير أن المنافسة الشرسة أفقدته هذا الاتزان- إنه سيعيد الأمن إلى المجتمع في مدة لن تزيد عن مئة يوم! وهكذا أثبت هؤلاء المرشحون المحتملون، ومن بينهم شخصيات لها خبرة، أنهم لم يفهموا إطلاقاً دلالة ثورة 25 يناير، والتي قضت بضربة واحدة على "الأنوية السياسية" وقد كانت تتمثل في الزعيم الملهم، أو توجيهات الرئيس الذي يأخذ قراراته منفرداً بدون استشارة المجالس النيابية أو الهيئات القضائية أو مجلس الأمن القومي! وخلاصة المشهد السياسي للمرشحين المحتملين أنهم في الواقع حاصروا الشعب المصري بالهرولة السياسية الحمقاء من ناحية، وبعقدة الزعامة من ناحية أخرى! --------------------------------- * نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس 15 مارس 2012. رابط دائم: