مستشفيات غزة تحت الحصار.. عندما يصبح الطب رسالة مقاومة
16-4-2025

إنجي بدوي
* باحثة ماجستير في الشأن الإسرائيلي
فى خضم إحدى أعنف الكوارث الإنسانية فى التاريخ الحديث، يتصدر الطاقم الطبى فى قطاع غزة مشهد البطولة والصمود، حيث يقف الأطباء والممرضون على خط النار الأول، حاملين عبء الإنقاذ فى ظل حصار خانق وعدوان دموى مستمر. هؤلاء الجنود المجهولون لا يحملون سلاحا سوى سماعة الطبيب، ولا يطلبون سوى الاستمرار فى إنقاذ أرواح المدنيين الأبرياء.
 
تعيش الأطقم الطبية فى غزة لحظات استثنائية من الضغط والصعوبات، تجعل من كل دقيقة فى عملهم معركة وجود. إن معاناة هذا الطاقم لا تقتصر على ظروف العمل القاسية، بل تمتد إلى الجانب النفسى والإنسانى، حيث يجدون أنفسهم فى مواجهة مشاهد يومية تفوق حدود التحمل والصبر، وسط صمت دولى وتقصير واضح فى دعمهم.
 
منذ اندلاع حرب 7 أكتوبر 2023، يواجه العاملون فى القطاع الطبى واقعا يفوق حدود الخيال، إذ يجدون أنفسهم محاصرين بين نقص فى الأدوية والمستلزمات الطبية، وانقطاع دائم للكهرباء والمياه، وحصار وقصف جوى مستمر، وسط عدد كبير من الجرحى والمصابين والمرضى.
 
لقد تحولت المستشفيات فى قطاع غزة إلى ساحة حرب، وأصبحت غرف العمليات ملاجئ للآلاف ممن يبحثون عن أمل فى البقاء بمكان آمن؛ ولكن الاحتلال جعل المستشفيات فى مقدمة الاستهدافات والافتراء كذبا بأسباب مزيفة لقتل الأبرياء.
 
لكن القصة لا تقتصر على مشاهد العمل الميدانى بل هناك ما هو أعمق، وهى المعاناة النفسية التى تحدث للأطباء والممرضين كل يوم، هؤلاء لا يعالجون غرباء فقط، بل أحيانا يجدون بين المصابين أبناءهم أو أقاربهم. ورغم ذلك، نراهم يتمسكون بمهنيتهم ويستمرون فى أداء واجبهم دون تردد.
 
ومن أصعب القصص كانت قصة الطبيب حسام أبو صوفيا، مدير مستشفى كمال عدوان، الذى استُشهد ابنه خلال الحرب على غزة، فيما أصيب هو الآخر. ورغم الفاجعة فقد رفض مغادرة موقعه قائلا: "ما دام هناك مرضى، لن أغادر"، ليصبح رمزا لمعاناة الطاقم الطبى وصموده.
 
وبحسب بيانات الأمم المتحدة، فقد قتل ما لا يقل عن 1060 عاملا صحيا خلال الـ18 شهرا السابقة فقط، وهو رقم يعكس حجم الخطر المحيط بالكوادر الطبية، وأكثر من 150 آخرين تم احتجازهم فى ظروف قاسية على يد الاحتلال الإسرائيلى، بعضهم تعرض للضرب والتعذيب النفسى والجسدى، والتقييد والصعق بالكهرباء، والحرمان من العلاج والرعاية، وبجانب سوء المعاملة، كل ذلك دون توجيه أى تهمة سوى أنهم "فلسطينيون".
وبالرغم من أن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تعمل على حماية خاصة للعاملين فى المجال الطبى وبحسب نصوص المادة الثالثة، فإن الاحتلال انتهك كل الاتفاقيات والقوانين الدولية وارتكب جرائم حرب ضد الطواقم الطبية ومؤسساتهم فى غزة.
 
تعيش المستشفيات فى غزة ما بين القصف والاقتحام. ولم تكن الهجمات على المنشآت الطبية مجرد أخطاء عسكرية، بل بدأت كجزء من استراتيجية ممنهجة لإفشال النظام الصحى فى غزة، ما يؤدى إلى ارتفاع حصيلة الوفيات دون سبب. لقد تحولت مستشفيات غزة إلى أنقاض بسبب الغارات الجوية، والاقتحامات والاعتقالات، أبرزها كان مستشفى الشفاء الذى تعرض للاقتحام فى نوفمبر 2023 ثم فى مارس 2024، ومستشفى كمال عدوان فى بيت لاهيا، ومستشفى النصر فى خان يونس، والمستشفى المعمدانى الذى خرج من الخدمة بشكل كامل منذ أيام.
 
ومن ضمن أهداف الاستراتيجية قصف المركز الوحيد فى غزة لعلاج مرضى السرطان، وبجانبها مراكز رعاية الأجنة ومراكز رعاية النساء الحوامل والأطفال، فى محاولة واضحة لقطع جذور النسل الفلسطينى. إن خروج المراكز عن الخدمة مع وجود نقص فى العلاج أو انعدامه أدى إلى عجز الأطباء عن علاج المرضى فضلا عن وفاة عدد كبير من المرضى، ليس بسبب الإصابة، بل لانعدام العلاج.
فى غزة، لم تعد مهنة الطب مجرد وظيفة إنسانية، بل أصبحت معركة بشكل مختلفا أن تكون طبيبا أو مسعفا يعنى أنك مستهدف وتقف فى وجه قصف لا ينذر. ورغم كل هذه التحديات، فإنها زادت من إصرار الطواقم الطبية فى غزة ودفعتهم إلى الاستمرار فى عملهم رغم التهديدات.
يواصل الأطباء والمسعفون فى غزة فعل المعجزة اليومية، وسط كل الخذلان والصمت الدولى من قبل المؤسسات التى من المفترض بها حماية القانون الدولى الإنسانى، لا إدانة حقيقية ولا خطوات لوقف الجرائم المرتكبة وانعدام العدالة بحق الكوادر الطبية.
 
لم تختبر الطواقم الطبية فى غزة فقط فى مهاراتها العلاجية، بل فى إنسانيتها، وصبرها، وقوتها النفسية، وهنا يصبح الطب "رسالة مقاومة". فى كل مستشفى قصة تفوق الخيال، وكل طبيب أو ممرضة يحمل داخله رواية مؤلمة. فى مستشفى الشفاء إحدى أكبر المنشآت الطبية فى غزة، وقف الجراحون يعملون تحت ضوء الهواتف المحمولة بعد انقطاع الكهرباء، لا مخدر كافيا، ولا تعقيم مناسبا، ومع ذلك، أجريت عشرات العمليات الجراحية الطارئة.
رغم الخطر المحدق، والتهديد الدائم بالقتل، لم يغادر هؤلاء مقاعدهم، ولم يبحثوا عن الأمان أو حتى ساعة حدادا على أحبائهم الذين فقدوهم خلال الحرب. إن مستشفيات غزة ليست فقط أماكن لعلاج المرضى، بل أصبحت خط الدفاع الأخير عن الإنسانية خلال حرب الإبادة.
 

رابط دائم: