كان حلف شمال الأطلنطى قد تأسس رسميا، فى 4 أبريل 1949، فى واشنطن. إلا أن ذلك سبقته مراحل تمهيدية ومجموعة من الأحداث التى شهدتها أوروبا منذ أخريات الحرب العالمية الثانية وما تلاها، والتى كان من أهم نتائجها.. تغير ترتيب القوى العالمية القائدة بارتقاء قادمين جديدين على حساب القوتين الأكبر فيما قبل الحرب. فقد تغيرت مآلات الحرب بدخول الاتحاد السوفيتى من الشرق والولايات المتحدة من الغرب.. مما كان أثره تغيير دفة الحرب ونهاية النظام النازى الألمانى واستسلامه، ومحاكمة قادته فى محاكمات (نورمبرج) الشهيرة... وبنهاية الحرب.. تقهقرت المملكة المتحدة وفرنسا.. عن موضع الصدارة العالمية.. وحلت محلهما القوتان الأكبر اللتان غيرتا مجريات الحرب.. الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة.. مما كان ايذانا ببدأ عهد جديد فى خرائط الجيوسياسة العالمية.
وكانت اجتماعات التفاهم والتقسيم قد بدأت بلقاء طهران 1943، الذى حضره روزفلت، وتشرشل، وستالين، فى السفارة الروسية بطهران واتخذ اسما حركيا (يوريكا) بهدف فتح جبهة ثالثة ضد ألمانيا النازية فى البلقان مع الإقرار للاتحاد السوفيتى على مطالبه بالهيمنة على رومانيا، وبلغاريا، وبولندا.. وكان قد سبقه بوقت قصير، اجتماع مماثل فى القاهرة.. وفى فبراير 1945، تم اجتماع آخر مماثل فى يالطا، وتبعه مؤتمر بوتسدام 1948بعد الحرب بهدف تنسيق المواقف وتوزيع الأدوار فيما خص تركيا، وإيران، ويوغوسلافيا. وكان روزفلت قد مات وتبعه ووقع الاتفاق الرئيس اللاحق له (هارى ترومان).
وكان اللورد أسمان (البريطاني)، هو الأمين العام الأول للمنظمة، وينقل عنه قوله " إن هدف المنظمة، الإبقاء على الروس خارجا والأمريكيين داخلا". ومن الجدير بالذكر أن الاتحاد السوفيتى كان قد تقدم للانضمام إلى الحلف 1954.. وتم رفض الطلب.
حيث كان أحد مسببات تأسيس هذا الحلف، ردع أى تهديد من جانب الاتحاد السوفيتى لأى من الدول الغربية.. وتفاعل السوفيت بتأسيس حلف وارسو فى 1955. وكان أعضاؤه إلى جانب الاتحاد السوفيتى: بولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وبلغاريا، والمجر، ورومانيا، وألبانيا، وألمانيا الشرقية.
هدف حلف شمال الأطلنطى إلى إيجاد تفاهم وتنسيق سياسى بين أعضائه، حيث كانت أولى خطواته 1947 من خلال عقد معاهدة "دنكرك " بين المملكة المتحدة وفرنسا، والتى وقعها الطرفان بغية التنسيق المشترك فى حال تعرض أى منهما إلى أى هجوم عسكرى. ثم وفى 1949 .. تأسس الحلف كتحالف أمنى لتوفير الدفاعالجماعى والتنسيق السياسى والعسكرى بينالدول الأعضاء.. وتشكل الأعضاء المؤسسون من 12 عضوا: الولايات المتحدة -المملكة المتحدة – كندا – بلجيكا – هولندا – الدانمرك – فرنسا – أيسلندا – إيطاليا – لكسمبورج – النرويج – البرتغال.
وكان ضمن ما ورد فى الفقرة الخامسة من المادة الخامسة، فى ميثاق تأسيس الحلف، أن الأعضاء متفقون على أنه إذا تعرض أحد أعضاء الحلف لهجوم مسلح، يحق لجميع الأعضاء ممارسة حق الدفاع عن النفس بشكل فردى أو جماعى وذلك لمساعدة العضو أو الأعضاء الذين تعرضوا للهجوم، بكافة الوسائل الممكنة بما فى ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة الأمن فى منطقة شمال الأطلنطى والحفاظ عليه. وتم تفعيل هذه المادة من قبل الولايات المتحدة، إثر تعرضها لهجوم الحادى عشر من سبتمبر 2001. وتم إجراء أول مناورة بحرية للناتو 1952 وضمت 200 سفينة حربية وشارك فيها 50 ألفا من العناصر البشرية.
تطور العضوية:
بالإضافة للدول المؤسسة فى 1949.. توسع الحلف وأضاف كلا من: اليونان – تركيا – ألمانيا – إسبانيا، فى الفترة من 1952 / 1990. ثم وعقب تفكك الاتحاد السوفيتى 1991، والذى جاء نتيجة لإنهيار سور برلين 1989، ومن ثم إعادة توحيد ألمانيا، توسع حلف الناتو شرقا، فى النطاق الذى كان قبل هذا التاريخ مسرحا للنفوذ الروسى، ليضم بولندا – التشيك – المجر، فى 1999. ثم أمعن الناتو فى ضم دول أخرى فى شرق أوروبا فى الفترة من 2004 / 2009، شملت: بلغاريا – إستونيا – لاتفيا – ليتوانيا – رومانيا – سلوفاكيا – سلوفينيا – ألبانيا – كرواتيا.
وهى دول كانت ضمن حلف وارسو وبعضها كانت أجزاء من الاتحاد السوفيتى نفسه، ولذا كان هذا التوسع محل اعتراض حتى من شخصيات عسكرية أمريكية. ثم وفى 2017، 2020 تم ضم كل من الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية.
وكانت آخر الدول الملتحقة بالحلف، فنلندا والسويد، ليصل عدد الأعضاء الحالى فى 2025 إلى 32 عضوا.
وهناك طلبات مقدمة، من دول أخرى للالتحاق بالحلف، كانت تخضع للتدقيق، قبل أن تندلع حرب أوكرانيا.. أهمها: البوسنة والهرسك – جورجيا.
كما عمل الحلف على إقامة تفاهمات مع دول أخرى خارجه، تحت مسميات مختلفة، كمثل (برنامج الشراكة من أجل السلام.. والموقع مع 21 دولة)، بالإضافة إلى 15 دولة أخرى فى برنامج (الحوار المؤسسي).
إلا أن رغبة أوكرانيا (مدفوعة بتشجيع غربي) فى الانضمام إلى حلف الناتو، كان أحد أهم المسببات فى شن الحرب الحالية من روسيا الاتحادية على أوكرانيا، حيث رأت روسيا أنه تهديد مباشر لعمقها الاستراتيجى وأن أراضى أوكرانيا هى طريق سهل لبلوغ موسكو نفسها من أقرب مداخلها الممكنة طبقا لطبيعتها الجغرافية المنبسطة.
يجدر بالذكر أن فرنسا كانت قد انسحبت من الهيكل العسكرى للحلففى 1966.. حين رأى الرئيس شارل ديجول أن الحلف " يبدو كعلاقة خاصة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة " طبقا لما نقل عنه. إلا أن فرنسا عادت للمشاركة الكاملة فى الناتو فى قمة ستراسبورج 2009. ومما يجب ملاحظته، أن ثلاثة من أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين، هم أعضاء فى الناتو ولهم حق الفيتو (الولايات المتحدة – المملكة المتحدة – فرنسا). ويعتمد الناتو بشكل رئيسى، على القواعد الأمريكية الموزعة فى أراضى دوله.. والتى بلغت 37 قاعدة، تضم مائة ألف عسكرى أمريكى، منهم 65 ألفا بشكل دائم.. (أضيف إليهم 20 ألفا منذ نشوب حرب أوكرانيا).
وتتوزع هذه القواعد كما يلى:
ألمانيا13 قاعدة تضم 34894 عنصرا.
إيطاليا 7قواعد تضم 12319 عنصرا.
بلجيكا 3 قواعدوهى مقر القيادة العليا للناتو.
هولندا قاعدتان.
إسبانيا 2 قاعدتان.
كما يتمركز نحو 600 عسكرىأمريكى فى كوسوفو.
والجدير بالذكر، أنه لم يحدث فى فترة الحرب الباردة أى عمل عسكرى مباشر للحلف فى مواجهة الاتحاد السوفيتى. وكان الحلف قد بدأ فى نشر الصواريخ النووية فى أوروبا بداية من 1983. كما لم يتدخل الحلف فى حرب فوكلاند التى جرت بين المملكة المتحدة والأرجنتين عام 1980.. (لأن ميدانها جنوب الأطلنطي).
بالعودة إلى الوضع الراهن، الذى يشهد الحرب الدائرة فى شرق أوروبا بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، يجب أن نتذكر تصريحا أدلى به (جاك ماتلوك) سفير الولايات المتحدة فى روسيا والذى نسب إليه القول، إن الغرب قد أعطى التزاما واضحا لروسيا، بعدم التوسع شرقا وهو ذاته ما نقل عن وزير خارجية ألمانيا وقتها (هانز ديتريش جينشر). وهو الأمر الذى حدث عكسه. وقد تدخل إن الناتو عسكريا فى البوسنة 1992.. كما أنه تدخل فى أفغانستان، والعراق، وليبيا.
وقد كانت الإدارة الديمقراطية فى الولايات المتحدة فى ظل رئاسة بايدن داعما رئيسيا لكرواتيا فى الحرب التى شنتها روسيا عليها (إذ كانت تلك الإدارة لا تزال تضع روسيا فى مقام العدو الأول)، إلا أن تغير السلطة وقدوم ترامب والجمهوريين إلى الحكم قد أدى إلى تغيير التوجهات السياسية والمواقف على الأرض (إذ وخلافا للإدارة السابقة فترامب يرى عدوه الأول الصين وليست روسيا.. التى يمكن إخراجها من معادلة الصراع ضد الصين إذا توقف الدعم الأمريكى لأوكرانيا) وهو ما جعل موقف الأوروبيين حرجا،إذ يرون الدفاع عن أوكرانيا ضرورة جيوسياسية لأنها، فى تقديرهم ، مقدمة للأراضى الأوروبية، واجتياحها من قبل الروس قد يفتح شهيتهم للمزيد من الأراضى الأوروبية.
كان رأى ترامب المعلن من قبل والذى تم التصريح به الآن، أن الولايات المتحدة تقوم بالدفاع عن أوروبا وتبذل فى سبيل ذلك إنفاقا طائلا، فى حين أن دول الحلف الأوروبية تنفق ما لا يزيد على 1% من نواتجها القومية فى بند الدفاع... وهو ما يعده وإدارته ، غير مناسب وغير كاف وصرح نائبه فى مؤتمر ميونخ للأمن المنعقد فى الفترة من 14-16 فبراير 2025..بأن على تلك الدول أن تزيد ميزانيات الدفاع لديها لما يزيد على 3% من نواتجها القومية سنويا وبأن أمريكا لن تظل تحمى أوروبا، وكان ترامب قد سبقه بالقول، إن الولايات المتحدة لن تدافع عن دول الناتو إن لم تدفع تكاليفها. وأعلنتإزاء ذلك أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أن هناك تباينات فى رؤية كل من الولايات المتحدة وأوروبا. وأنه أصبح على أوروبا أن تستثمر 500 مليون يورو فى أغراض الدفاع، خلال العقد المقبل.
وقد تفاقم الخلاف عبر ضفتى الأطلنطى للحد الذى دفع إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسى أن يعلن "أنه لا يمكن تحديد مستقبل أوروبا فى واشنطن".كما سبق له التصريح أثناء عودته من زيارته للصين"أن أوروبا لا يجب أن تكون طرفا فى الصراع بين الولايات المتحدة والصين".
بل تفاقم الخلاف لدرجة أن طالب بعض النواب الفرنسيين باستعادة (تمثال الحرية) العلامة المميزة لنيويورك بل للولايات المتحدة ككل، إذ إنه كان هدية من فرنسا للولايات المتحدة.. وقابل ذلك رد الأمريكيين، بأنه لولا تدخلهم فى الحرب العالمية الثانية، لكانت فرنسا الآن تتحدث الألمانية (إشارة إلى أن تدخل الولايات المتحدة هو الذى أخرج القوات الألمانية من فرنسا بعد أن تمكنت من احتلال الجزء الأكبر منها).
فهل مثل قدوم ترامب إلى مركز السلطة فى الولايات المتحدة، نهاية لحقبة الناتو.. أم إنه سيستمر بشكل معدل وهل ستخضع الدول الأوروبية للضغط الأمريكى وترفع نسبة إنفاقها فى الحلف، على أن يحتفظ بهيكله الحالى؟!
ما أثر تخلى الولايات المتحدة عن أوروبا، بعد أن كانت الرابح الأكبر من حرب روسيا وأوكرانيا.. التى أشغلت بها روسيا وجمدت أرصدتها وحاصرتها اقتصاديا واستنزفتها عسكريا.. كما أنها أخرجتها من سوق الطاقة الأوروبيةالتى مثلت لروسيا رافدا أساسيا من الدخل ولأوروبا موردا رخيصا من الطاقة... وحلت محلها كمصدر للغازالطبيعى الذى كانت أوروبا تحصل عليه بأسعار معقولة عبر خطوط الأنابيب الروسية وكان آخر خط نورد ستريم-1 الذى كان نشطا ونورد ستريم-2.. الذى ما كاد أن يعلن عن استعداده لضخ الغاز بعد اكتماله.. إلا وقد تعرض للتخريب (مجهول الفاعلين) ومن ثم تم استبدال به الغاز الأمريكى المسال والأغلى بما لا يقارن بذلك الروسى.. كما أخرجت الاستثمارات الألمانية التى كانت كبيرة، من السوق الروسية.
وهنا سؤال لم يتم طرحه.. هل روسيا تمثل خطرا حقيقيا على دول أوروبا الغربية وأنها يمكن أن تخوض حربا توسعية لضم أراضيهامن دول غرب أوروبا أو حتى شرقها؟!
أم إنها صناعة البعبع الذى تخصصت فيه سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، فعبر التاريخ الحديث لم تكن روسيا البادئة بمهاجمة الغرب.. بل حدث العكس فى حروب نابليون وبعدها فى الحربين العالميتين.. اللهم إلا فى حالة (حرب الشتاء) التى استمرت ثلاثةأشهر بين روسيا وفنلندا عام 1939 للصراع على مناطق حدودية بينهما حيث القرب من سان بطرسبورج العاصمة القديمة للإمبراطورية الروسية.
وقد سبق إيراد أن تأسيس حلف وارسو جاء لاحقا لتكوين حلف الأطلنطى وردا عليه، بعد رفض طلب السوفيت للانضمام لحلف الناتو.
هل الخوف الغرب-أوروبى من الغزو الروسى له مبرراته الواقعية، أم هو أمر مبالغ فيه وغير مبرر،إذا ما استعرضنا كل ما سبق إيراده وما تشهدهالأحداث الجارية.
بناء على ما تم عرضه.. أصبحت أوروبا فى مواجهة الحقيقة وأن عليها أن تعتمد على جيوشها وتسليحها الذاتيين.. وهو ما حدا بالحكومة الألمانية لإعلان موازنة مفتوحة للدفاع، بل وتغيير نظام الإنتاج وبنيته بحيث تتحولبعض خطوط الإنتاج فى مصانع السيارات لإنتاج الأسلحة.. إلا أن ذلك يستغرق وقتا ليس بالقصير واستثمارات ليست بالقليلة.. كما يتطلب إعادة النظر فى قوانين التجنيد.
وبما أن فرنسا هى القوة النووية الوحيدة فى دول أوروبا القارية (ينظر إلى المملكة المتحدة كعنصر أوروبى أقرب إلى أمريكا منه إلى أوروبا) فهى الآن تتزعم الاتجاه لبناء قوة أوروبية بمشاركة ألمانيا.. التى كانت قد تعاقدتمع الولايات المتحدة لشراء المقاتلات إف 35 إلا أنها الآن تعيد التفكير بشأنها.. وتخطط للتوسع فى استخدام مقاتلاتها الأوروبية.." اليوروفايتر"..وتخطط للاقتراض من بنوكها المحلية لتغطية هذا الإنفاق. ويخشى أن انسحاب أمريكا وسحبها لقواتها وأسلحتها سيتسبب فى ضعف شديد للقارة العجوز، فى المدى القريب حيث ستفتقد أنواعا محددة من الأسلحة الأمريكية كما ستفتقد إلى قدر كبير من المعلومات والقدرات الاستخباراتية التى تمتلكها الولايات المتحدة.. ويشير ما سبق إلى ان حلف الناتو قدبلغ مرحلة الشيخوخة.. وإما أن تعاد صياغته على أسس جديدة تتحمل فيها أوروبا أعباءه المادية.. أو أنها ستشكل جيشا أوروبيا بقيادة فرنسا وألمانيا.. أو أن دولها ستتصرف بشكل منفرد، فى ضوء عدم حماس دول كإيطاليا، والتشيك، والمجر، فى أن تواجه روسيا بشكل حاد فهى تنزع إلى بناء علاقات متوازنة مع الروس وتتسم بقوة واتساع أحزابها الاشتراكية.
فى كل الأحوال.. فإن الناتو منذ قدوم ترامب لن يكون ما كانه أبدا من قبل.. وعلى أوروبا أن تسلك نهجا يمثل مصالحهاأكثر من أن يكون جزءا من حرب أمريكا على السيادة العالمية.
والسؤال الثانى حول أهمية الحلف للولايات المتحدة ذاتها وكونه ذراعا سياسية عسكرية تمارس من خلالها السيادة والنفوذ والسيطرة.. وليس فقط مصلحة أوروبية خالصة.. فالقواعد الأوروبية استخدمت تكرارا لمصالح أمريكية وكذراع لها.. فهل يمكن للولايات المتحدة الاستغناء عن هذه الأذرع وعن مساحات النفوذ التى يحققه لها حلف الناتو؟!