مما لا شك فيه أن استحواذ شركة ألفابت (الشركة الأم لجوجل) على شركة “ويز” (Wis) الإسرائيلية الناشئة فى الأمن السيبراني، التى بلغت قيمتها 32 مليار دولار، تُعدُّ واحدة من أكبر صفقاتها فى تاريخها. إذ تجاوزت هذه الصفقة جميع استحواذاتها السابقة، بما فى ذلك صفقة "موتورولا" التى بلغت قيمتها 12.5 مليار دولار عام 2012. هذه الخطوة لا تمثل تحولًا استراتيجيًا فى سوق الأمن السحابى فحسب، بل تروى أيضًا قصة شركة ناشئة نمت من جذور عسكرية إسرائيلية استطاعت تحويل خبراتها الاستخباراتية إلى أدوات دفاعية مبتكرة. ما يجعل هذا الاستحواذ أكثر إثارة هو تأثيره المحتمل فى إعادة تشكيل معادلات القوة بين عمالقة التكنولوجيا، ليضع جوجل فى موقف يسمح لها بالمنافسة بشكل أكثر فعالية فى عصر يتسم بتطور مستمر فى تهديدات الأمن السيبراني، حيث باتت هذه التهديدات جزءًا من معركة أوسع بين التقنيات المتقدمة.
من الجدير قوله فى هذا السياق أن “ويز” تأسست عام 2020 على يد أربعة أفراد جمعتهم الخدمة فى الوحدة 8200 الاستخباراتية الإسرائيلية، المعروفة بأنها “مصنع النخبة التكنولوجية” التى أنجبت مؤسسى شركات مثل تشيك بوينت وأبيرسك. يقود الفريق عساف رابابورت، الرئيس التنفيذى الذى سبق أن باع شركته الناشئة "أدالوم" لمايكروسوفت مقابل 320 مليون دولار عام 2015، ليعود بعدها برفقة زملائه من الوحدة 81 (وحدة سيبرانية أكثر سرية) إلى الساحة بأداة أمنية ثورية.
إنّ هذا الفريق، المكون من عامى لوتواك (الرئيس التقني)، وينون كوستيكا (نائب رئيس المنتجات)، وروى ريزنيك (نائب رئيس البحث والتطوير)، لم يُبنَ على الخبرة التقنية فحسب، بل على ثقافة عسكرية تُعلى من السرعة والدقة واستباق التهديدات. هذه الروح العسكرية تجسّدت فى تصميم منصة “ويز” التى تعمل كمركز قيادة افتراضي، حيث تجمع البيانات من منصات سحابية متنافسة (أمازون، مايكروسوفت، جوجل)، وتفحصها بحثا عن الثغرات عبر 13 مجالا أمنيا، بدءا من أمن التعليمات البرمجية إلى سلاسل التوريد.
على الرغم من تأسيس “ويز” قبل أربع سنوات فقط، فإن ارتفاع تقييمها من مليار دولار فى جولة التمويل الأخيرة إلى 12 مليار دولار فى 2024، ثم بيعها بـ32 مليار دولار، يُثير أسئلة عن السبب الكامن وراء هذه القيمة الخيالية. إن تحليل عملية الاستحواذ يشير إلى ثلاثة عوامل رئيسية تبرر دفع هذا المبلغ المرتفع:
أولا، لا تقتصر استثمارات ألفابت على التقنية فقط، بل تشمل أيضا الاستفادة من خبرات عميقة فى مجال الأمن السيبراني، القادرة على تطوير أدوات استباقية فى سوق معقدة ومتطورة. فخلف شاشات “ويز” يقف فريق من خريجى الوحدات الاستخباراتية الإسرائيلية الذين حولوا خبراتهم العسكرية إلى حلول مبتكرة فى هذا المجال. التقارير تشير إلى أن العديد من شركات الأمن السيبرانى الكبيرة فى إسرائيل تأسست على يد أفراد من هذه الوحدات، مما يعزز قدرة “ويز” على مواكبة التحديات المتزايدة فى السوق. ثانيا، ابتكرت “ويز” نموذج عمل متميزًا من خلال تقديم حلول أمنية متوافقة مع جميع منصات الحوسبة السحابية، مما جعلها خيارا مناسبا للشركات التى تعتمد على بيئات سحابية متعددة، وهو الاتجاه السائد حاليا.
ثالثا، مع تحول الهجمات السيبرانية إلى صراع بين تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت الأنظمة الذكية قادرة على محاكاة الهجمات ودفاعات أخرى عبر الخوارزميات المتقدمة، تتمتع "ويز" بقدرات تحليلية متقدمة تتكامل مع تقنيات جوجل فى التعلم الآلي، مثل نموذج Gemini. هذه التقنيات لا تقتصر على توفير دفاعات حيوية ضد التهديدات السيبرانية، بل تدفع السوق إلى مرحلة جديدة من التحولات حيث تصبح الأنظمة الدفاعية أكثر مرونة وتكيفا، مما يسمح لها بالاستجابة بسرعة للتهديدات المتغيرة بشكل متواصل. فعلى سبيل المثال، بفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن لــ "ويز" أن تقدم حلولا استباقية متطورة قادرة على تحديد الثغرات الأمنية قبل أن يتم استغلالها، مما يعيد رسم قواعد اللعبة فى قطاع الأمن السيبراني.
وسط هذه التحولات العميقة، يبرز سؤال جوهري: أين موقع العالم العربى من هذه الصفقات؟ ففى عصر الثورة الصناعية الخامسة، تُعيد القوى التكنولوجية الكبرى رسم موازين القوى، بينما لا يزال العالم العربى يُكافح لتطوير منظومته السيبرانية، التى غالبا ما تعتمد على استيراد الحلول بدلا من صناعتها. على الرغم من الاستثمارات المتزايدة فى التكنولوجيا، إلا أن المنطقة لا تزال تفتقر إلى شركات تقنية سيبرانية عالمية تستطيع فرض نفسها كلاعب حقيقى فى هذه السوق. فبينما تستثمر شركات مثل ألفابت ومايكروسوفت فى العقول العسكرية الإسرائيلية، يبقى البحث والتطوير فى العالم العربى متأخرا. وإذا لم يتحول الأمن السيبرانى إلى أولوية استراتيجية، فسنجد أنفسنا مرة أخرى فى موقع المتفرج، نُشاهد الآخرين يصنعون مستقبل الثورة الصناعية الخامسة بينما نبقى مجرد سوق استهلاكية لتقنيات الآخرين.
ختامًا، تُجسّد هذه الصفقة إحدى الحقائق الجديدة: فى اقتصادٍ رقمى يزداد تعقيدا، لم تعد الهيمنة تُقاس بحجم الخوادم، بل بقدرة الشركات على حماية بيانات العالم. فالأمن السيبرانى اليوم لم يعد رفاهية، بل هو “بوليصة تأمين” إلزامية فى عصر التهديدات السيبرانية المتطورة، والتى باتت مدعومة بأدوات الذكاء الاصطناعي. والسؤال الذى سيظل مطروحا: هل تمتلك جوجل القدرة على تحويل هذا الاستحواذ إلى نقطة قوة تدعم سيادتها فى الفضاء الرقمي، أم إن الصفقة ستتحوّل إلى فقاعة أخرى فى تاريخ التكنولوجيا؟ الإجابة، كما هو الحال فى عالم الأمن السيبراني، لن تتضح إلا مع الوقت.
رابط دائم: