لطالما مثّل الفضاء السيبراني ساحةً لصراع بين رؤى مثالية تدعو إلى حرية غير مقيدة، وواقع تفرضه المصالح الاقتصادية والأمنية. في عام 1996، جاء "إعلان استقلال الفضاء السيبراني"لجون بيري بارلو ليجسّد هذه المثالية، متصورًا فضاءً رقميًا منفصلًا عن سلطة الحكومات، حيث تنساب الأفكار دون قيود تشريعية. لكن مع تسارع التطور التكنولوجي، لم يبقَ هذا الحلم مثاليًا لفترة طويلة؛ فقد أظهرت التحولات العميقة في علاقة التكنولوجيا بالدولة أن استقلال الفضاء السيبراني ليس سوى وهم اصطدم بتعقيدات الواقع. وبينما كانت شركات التكنولوجيا تُقدَّم يومًا باعتبارها قوى متمرّدة على السلطة، باتت اليوم لاعبًا رئيسيًا في صياغة السياسات والاستراتيجيات الوطنية، مما يطرح تساؤلات حاسمة حول طبيعة دورها وحدود نفوذها.
إعلان بارلو أعلاه استند إلى إرث ثقافة الستينيات المضادة، التي مجّدت الحرية الفردية ورفضت المؤسسات السلطوية، ليصبح لاحقًا ركيزة أساسية لنهج وادي السيليكون، حيث ساد الاعتقاد بأن الابتكار التكنولوجي يجب أن يظل بمنأى عن التدخل الحكومي. غير أن هذه الرؤية المثالية سرعان ما اصطدمت بتعقيدات الواقع، إذ أدى التطور التكنولوجي السريع، والتشابك المتزايد بين المصالح الاقتصادية والأمنية، إلى إضعاف الحدود الفاصلة بين القطاع التكنولوجي والدولة. وكما يوضح كتاب "الجمهورية التكنولوجية: القوة الصلبة، الإيمان الناعم، ومستقبل الغرب" "The Technological Republic: Hard Power, Soft Belief, and the Future of the West"للمؤلفين ألكسندر كارب ونيكولاس زاميسكا، فإن الشركات التي كانت يومًا ما تُجسّد روح التمرد على السلطة، تحولت تدريجيًا إلى لاعبين أساسيين في صياغة الاستراتيجيات الوطنية، مما أثار تساؤلات جوهرية حول طبيعة علاقتها بالدولة، ومدى التزامها بالمصلحة العامة في مواجهة الحوافز الاقتصادية التي تدفعها نحو التركيز على العوائد قصيرة المدى.
يطرح الكتاب الذي صدر مؤخرًا في 320 صفحة عن دار نشرCrown Currencyتساؤلًا جوهريًا: هل ضلَّ وادي السيليكون طريقه؟ في رأي المؤلفين، تحولت كبرى شركات التكنولوجيا من قوى دافعة للتغيير إلى كيانات تركز على التطبيقات الاستهلاكية قصيرة المدى، بدلاً من التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه المجتمع، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والتفوق التكنولوجي الوطني. هذا التحول، بحسب المؤلفين، لم يكن مجرد خيار اقتصادي، بل هو نتيجة لهيمنة نموذج اقتصادي قائم على تحقيق الأرباح السريعة وتجنب الاستثمارات الطويلة الأجل التي قد تحمل مخاطر سياسية أو مالية. لكن رغم انتقادهما لهذا المسار، لا يدعو المؤلفان إلى تفكيك هذه القوة، بل إلى إعادة توجيهها نحو خدمة المصالح الاستراتيجية للدولة، خاصة في مجالي الدفاع والاستخبارات.
لم يكن هذا التحول مجرد تطور طبيعي، بل جاء مدفوعًا بتغيرات سياسية كبرى. في السابق، كانت شركات التكنولوجيا تتجنب التورط في السياسة، لكن مع صعود دونالد ترامب، بدا أن هذه العلاقة تتغير، حيث خضعت كبرى شركات وادي السيليكون - ولو مجازيًا - أمام البيت الأبيض. في هذا السياق، أصبحت شركات مثل "بالانتيرتكنولوجيز" لاعبًا رئيسيًا في تقديم حلول تكنولوجية لمؤسسات الدولة، مما يعكس تحوّل وادي السيليكون من مناهضة السلطة إلى التعاون الوثيق معها. يرى المؤلفان أن هذه الشراكة ليست مجرد ضرورة اقتصادية، بل استراتيجية تهدف إلى ضمان تفوق الغرب في مواجهة القوى المنافسة، مثل الصين، التي تبنت نموذجًا مختلفًا يقوم على التكامل الوثيق بين الدولة والقطاع التكنولوجي.
يدافع الكتاب عن فكرة أن التكنولوجيا لم تعد مجرد محرك اقتصادي، بل تحولت إلى عنصر رئيسي في المعادلة الجيوسياسية العالمية. فالولايات المتحدة لم تعد تهيمن على المشهد الرقمي بالقدر نفسه الذي كانت عليه في بداية الألفية، حيث تمكنت الصين من تطوير نموذجها الخاص عبر دعم شركات، مثل "هواوي" و"علي بابا"، مما أوجد تحديًا استراتيجيًا كبيرًا للغرب. في هذا السياق، يدعو المؤلفان إلى تعزيز التعاون بين الحكومة الأمريكية ووادي السيليكون لضمان بقاء الولايات المتحدة في موقع الريادة التكنولوجية. لكن هذا التعاون يطرح تساؤلات معقدة حول دور الدولة في تنظيم الابتكار، ومدى قدرتها على تحقيق التوازن بين الأمن القومي والحرية الرقمية.
رغم أن الكتاب يقدم نقدًا واضحًا لمسار التكنولوجيا في العقود الأخيرة، إلا أنه يقع في تناقض جوهري. فبينما ينتقد المؤلفان نزعة وادي السيليكون إلى المشاريع الاستهلاكية، يعترفان في الوقت نفسه بأن هذا النهج الابتكاري هو ما جعل شركات التكنولوجيا الأمريكية تهيمن عالميًا، حيث بلغت قيمتها السوقية 21.4 تريليون دولار في 2024. هذا يطرح تساؤلات معقدة أيضًا من قبيل: كيف يمكن تحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار وضمان توجيهه نحو المصالح العامة؟ هل يمكن للحكومة أن تتدخل في سياسات شركات التكنولوجيا دون أن تؤدي إلى تقييد إبداعها أو عرقلة تقدمها؟
لكن السؤال الأهم الذي يطرحه المؤلفان في الكتاب، دون تقديم إجابة واضحة، هو: كيف يمكن للدولة أن تضمن بقاء هذه القوة التكنولوجية خاضعة للمساءلة أمام المجتمع؟ فبينما يدعو المؤلفان إلى تعزيز العلاقة بين الحكومة والشركات التكنولوجية، لا يقدمان تصورًا عمليًا لكيفية تحقيق ذلك دون المساس بروح الابتكار أو تعريض النظام الديمقراطي لخطر هيمنة نخبة رقمية لا تخضع لأي رقابة فعلية.
يمكن اعتبار "الجمهورية التكنولوجية" بمثابة بيان لصعود ما يمكن تسميته "المجمع الصناعي التكنولوجي"، حيث لم تعد كبرى شركات وادي السيليكون مجرد قوى اقتصادية، بل أصبحت فاعلًا رئيسيًا في صياغة الاستراتيجيات الوطنية. ما كان يُنظر إليه يومًا كرمز للتمرد على السلطة، أصبح الآن جزءًا أساسيًا من بنيتها. السؤال الذي يظل مفتوحًا هو ما إذا كان يمكن لهذا الاندماج أن يحدث دون أن يتحول إلى استغلال سياسي واقتصادي، ودون أن تفقد التكنولوجيا جوهرها كقوة تحررية.
في المحصلة، يواجه العالم معضلة متجددة تتمثل في كيفية توظيف التكنولوجيا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية دون التفريط بالقيم الديمقراطية والحقوق الفردية. فبينما توفر التطورات التقنية للدول والشركات أدوات غير مسبوقة لتعزيز الأمن وتوسيع النفوذ، فإنها تثير في المقابل مخاوف متزايدة حول الخصوصية، وحرية التعبير، وإعادة تشكيل موازين القوى بين الأفراد والسلطات. ورغم أن الكتاب لا يقدم إجابة حاسمة لهذه الإشكالية، إلا أنه يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقة بين الابتكار والسلطة في العصر الرقمي، حيث يصبح اتخاذ القرارات التكنولوجية أكثر تعقيدًا، ويتطلب توازنًا دقيقًا بين متطلبات الأمن وضرورات الحرية.
رابط دائم: