نظرة مختلفة حول ما جرى بين ترامب وزيلينسكي
11-3-2025

د. أحمد عرفان
* استشارى تكنولوجيا المعلومات

في السطور القادمة دعونا نلقي نظرة مختلفة لما حدث مؤخرًابين الرئيس الأمريكي والرئيس الأوكراني:

هل نظن أن ما حدث كان مجرد خلاف في الرأي أو الرؤى!؟
قطعا لا فهناك نقاط أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبار لفهم الصورة الواسعة والتحولات الجذرية التي تحدث في النظام الأمريكي خصوصا والنظام العالمي عموما..
دعنا نتطرق للموضوع من وجهة نظر اقتصادية بحتة في محاولة لاستشراف تطورات وتغيرات المستقبل القريب.
لذا سنعود قليلا إلى الوراء لفهم كيف نجحت أمريكا في استخدام دول العالم قاطبة لينمو اقتصادها كي تصبح تلك الدولة العظمى التي نراها اليوم، بغض النظر عن اختلاف الصورة حاليا عن ما كان من قبل؛ فهذه الدولة العظمى قد أصبحت على شفا الانحدار وهذا التوقع أو الرؤية ليس من لدنى إنما هو تقارير بعضها غير معلن والآخر يظهر ويختفي، بين فينة وأخرى، على استحياء!

أولا: هل تعتقد أن قطع ترامب التمويل عن أوكرانيا كان فعلا بغرض حثها على الدخول في عملية سلام مع روسيا لوقف الحرب أم إن هناك أسبابا أخرى خفية!؟
ثانيا: هل كان بيع الصين نسبة 25% من حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية مجرد رد فعل على إجراءات اقتصادية متشددة من جانب أمريكا!؟
ثالثا: لماذا يصر الرئيس الأمريكي ترامب على توقيع اتفاقية المعادن مع أوكرانيا!؟

تلك التي سينتج عنها دخل من التسييل المستقبلي لجميع أصول الموارد الطبيعية المملوكة للحكومة الأوكرانية ذات الصلة، سواء كانت مملوكة بشكل مباشر أو غير مباشر وتشمل هذه الأصول على سبيل المثال:
رواسب المعادن، والهيدروكربونات، والنفط والغاز الطبيعي والمواد القابلة للاستخراج الأخرى مثل الليثيوم والتيتانيوم، بالإضافة إلى البنية التحتية ذات الصلة، مثل محطات الغاز الطبيعي المسال، والبنية التحتية للموانئ، وغيرها..

لعقود ماضية، اعتمدت الولايات المتحدة على منطق بسيط ألا وهو:
١- طباعة الدولارات.
٢- تصدير التضخم.
٣- استيراد سلع حقيقية بالقيمة.

حدث هذا بينما جمعت الدول الأخرى الديون الأمريكية كاحتياطيات!!
هذا النظام عمل بسلاسة حتى عام 2008 عند حدوث الأزمة الاقتصادية- التي مثلت أزمة حقيقية اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929م، حيث بدأت الأزمة أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوروبية والآسيوية، والخليجية، والدول النامية، التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي.
عندها شهدنا أول شرخ في أساسيات هذا النظام حيث بدت بعض الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في 2008 ناجحة: 
فقامت بعمل تيسير كمي هائل لمعالجة أزمة الانكماش وتباطؤ النمو الاقتصادي، إضافة إلى أسعار فائدة صفرية، مع تدخل في الأسواق. 
لكن هذه الإجراءات قد أخفت في طياتها مشكلات هيكلية أعمق وعلى الرغم من هذا سارت الأمور على ما يرام.
ونظراً لأن كل أزمة تتطلب تدخلًا أكبر بشكل متسارع فقد كشفت أزمة كوفيد-19 العيب القاتل في النظام المالي، إلا أن حزمة تحفيزية بقيمة 5 تريليون دولار كسرت آلية أساسية، ألا وهي قدرة سندات الخزانة على استيعاب ديون جديدة. 
حيث بدأ المشترون الأجانب التشكيك في النموذج الاقتصادي الأمريكي كله وكشفت الأرقام تحولًا مذهلًا في سوق السندات الحكومية يروي القصة الحقيقية: 
فقد أصبح الوسطاء الأساسيون يعانون كثيرآ للحفاظ على السيولة النقدية.
وباتت نسب التغطية في مزادات شراء السندات الحكومية تتراجع بشدة، وأصبح
بنك الاحتياطي الفيدرالي هو المشتري الرئيسي كملاذ أخير...
لكن الجزء المقلق حقًا كان انسحاب الصين الذي لم يكن عشوائيًا حيث انخفضت حيازتها للسندات الحكومية الأمريكية بنسبة 25%
ليتم استبدالهم بمشترين من ملاذات ضريبية (بلاد أو مناطق) يتم فيها فرض الضرائب بمعدل منخفض.. 
وقد ظهر هذا النمط نفسه قبل عمليات إعادة ضبط العملة السابق أثناء أزمة 2008، وتشير أوجه التشابه التاريخية إلى ما سيحدث بعد ذلك:
فقد شهدت عشرينيات القرن الماضي تشوهات مماثلة، حيث أخفى التوسع الائتماني ضعفًا هيكليًا في الاقتصاد، وبدأ الدائنون الأجانب في الانسحاب بصمت، في حين تدخلت كيانات غامضة  للحفاظ على المظهر العام.
والتشابه مع الحاضر مريب، انظر إلى مسار الإنفاق العسكري، فالقواعد العسكرية في 80 دولة أصبحت غير مستدامة، بينما يواجه الموظفون غير القتاليين تخفيضا غير مسبوق في أعدادهم.

المؤسسة المالية للإمبراطورية تنهار

يفسر ما سبق أن التطورات السياسية الأخيرة للولايات المتحدة وموقف ترامب ونائبه جيه.دي.فانس من أوكرانيا ليس أيديولوجيًا بل هو ضرورة مالية بحتة. 
حيث تُظهر الأرقام أن أمريكا تقترب من أعلى سقف أو حدٍّ إئتماني للديون، فقد أصبحت
الالتزامات الخارجية مستحيلة الإبقاء عليها وتنفيذها نظرا لتجاوزها التداعيات السياسية..
من جانب آخر نرى أن البنية المالية العالمية تشهد تحولاً وتغييراً جذريا، دول البريكس تبني أنظمة موازية، وصفقات النفط تبتعد عن الدولار، والبنوك المركزية تقوم بتخزين الذهب بمعدلات قياسية، وسوق السندات يطلق العديد من الإنذارات، ومنحنيات العائد مشوهة بشدة، السيولة النقدية في قطاعات حيوية تتبخر، والعلاقات التقليدية بين الأصول تنهار، والبيانات تشير إلى "تحول طوري" وشيك، ومؤشرات الضغط السوقي ترتفع، مقايضات الأساس عبر العملات تظهر إجهادًا، أسواق الريبو تتطلب تدخلًا مستمرًا (الريبو هو نظام يسمح للمستثمرين ببيع أوراقهم المالية للبنك مع اتفاق على ارتجاعها بعد فترة محددة بسعر يتفق عليه مقدما بما يسمح للمستثمر بتوفير السيولة مؤقتا)، أنابيب النظام المالي تنسد.
مع كل ما سبق نرى معظم المستثمرين غافلين عما يجري بينما سيعيد هذا التحول تشكيل كل شيء بما فيها:
• تدفقات التجارة العالمية. 
• التحالفات العسكرية. 
• الأسواق المالية. 
• العملات الاحتياطية.... إلخ.

إذن دعنا ننتظر الأشهر الأربعة والعشرون المقبلة والتي قطعًا ستكون حاسمة..
من يفهم ميكانيكية الأسواق من المستثمرين سيزدهر ومن يدرك الأوضاع من الدول ستتحول اقتصادياتها ومراكزها وسياساتها إلى شىء مختلف تماما..
إدارة حجم المراكز تصبح جوهرية. 
أنماط التقلبات تكشف فرصًا. 
إدارة المخاطر تحدد البقاء. 
هذا يقودنا لسؤال محوري: 
بينما انتهت فترة "العشرينيات الصاخبة" بانهيار ونهاية حلم الغنى الفاحش وتلاشى وهم الازدهار اللانهائي، نرى الآن بوادر انهيار حفلة أمريكا المدعومة بالديون بنفس الطريقة. 
والسؤال الآن هو: من سيُترك لكي يطفو على السطح هذه المرة!؟؟
الديناصورات تتعارك من أجل السيطرة والبقاء، ولعلنا نرى الصورة واضحة في القريب العاجل..


رابط دائم: