ترامب ودولة الشركات!
24-2-2025

ياسين غلاب
* مدير تحرير - الأهرام المسائى

ثمة مؤشرات عديدة على أن ما يحدث فى أمريكا لا يقتصر على شخصية "ترامب" ولا على فريقه الرئاسي، لا فى الولاية الأولى ولا الثانية. ويبدو أن هناك تحولاً جذريًا فى النظام الأمريكى سواء كان باتفاق أو برغبة تخص فريقًا من النخبة الأمريكية الحاكمة. ربما قد يكون هناك خلاف على الطريقة لكن المؤكد وفق حقائق كثيرة أن النظام بات فى حالة أزمة شديدة، ليس فى مسألة الديون فحسب، بل تقريبا فى كل شيء، إضافة إلى أن العالم تغير ولم يعد ما تربحه أمريكا منه كافيًا لإخراجها من أزمتها.

على سبيل المثال فقد أدت المراسيم الأولى لترامب إلى شلل العديد من الإدارات الفيدرالية خاصة البوابات الإلكترونية لوزارة النقل والتى يجرى من خلالها تمويل إصلاح البنية التحتية والتى أنفق عليها 600 مليار دولار ولم تكن النتائج كما ينبغي، فى ظل تقادم كل البنية الأساسية بلا استثناء سواء السكك الحديدية أو شبكات الكهرباء، أو السدود والجسور. فعلى سبيل المثال هناك 47 ألف جسر أمريكى فى حالة سيئة، و15 ألف سد قد ينهار فى أى لحظة، ومتوسط عمر شبكات الكهرباء يصل إلى 70 عامًا، وهو ما يتطلب تريليونات الدولارات. القرار الآن هو تجميد كل شيء.

إن الهجوم الذى يشنه ترامب وفريقه على النظام ككل وعلى إدارات الديمقراطيين بشكل خاص طال كل الوزارات، من الصحة، إلى الطوارئ، إلى وزارة الخارجية، ووكالات الاستخبارات، والبنتاجون. يجرى الآن تسريح آلاف الموظفين والانسحاب من كل المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة نفسها، وليس المنظمات المنبثقة منها فقط. لا يقتصر الأمر فقط على ذلك، بل إن التحالفات القديمة ضربت وليس أدل على ذلك من ترك أوروبا لمصيرها بعد كل ما حدث فى المواجهة العسكرية مع روسيا على الأرض الأوكرانية. ناهيك عن الرسوم الجمركية وطريقة الإعلان عنها وفرضها، وكأن الأمر أشبه بجزية تفرض على الجميع.

إن أفضل تعبير عما تمر به الولايات المتحدة الآن هو ما قاله ميلتون فريدمان "عراب السوق الحر المتطرف": فقط أزمة، حقيقية أو متصورة، تنتج التغير الحقيقي. حين تحدث أزمة، تعتمد الإجراءات المتخذة على الأفكار السائدة، وأعتقد أن هذه هى وظيفتنا الحقيقية، وضع الأفكار البديلة عن السياسات الموجودة، بحيث تصبح سائدة والحفاظ على وجودها وتوفرها حتى يصبح المستحيل سياسيا لا مناص منه سياسيًا.

وسواء أكانت هناك أزمة حقيقية أو متصورة فى النظام، فالمؤكد أن ترامب وفريقه يقومان بتغييرات جذرية فى بنية السلطة الحاكمة. تلك السلطة الحاكمة التى بنيت على قواعد كما قال عنها بايدن فى لقاء تلفزيونى له، أو كما وصفها "Boise Penrose" أحد أعضاء مجلس الشيوخ حين قال مخاطبًا جمعًا من رجال الأعمال: "أنا أؤمن بتقسيم العمل. أنتم توفدوننا إلى الكونجرس، أما نحن فنقوم بدورنا بسن القوانين التى تتيح لكم أن تجنوا مزيدا من الثروة. ومن هذه الأرباح ذاتها، تقومون بالتبرع لحملاتنا الانتخابية كى نعود ثانية إلى الكونجرس وسن المزيد من القوانين التى تمكنكم من اجترار المزيد من الثروة".

ما نشهده الآن هو تولى رجال الأعمال وليس السياسيين، للحكم. من أول الرئيس نفسه إلى فريقه فى الولاية الأولى، مثل مايك سبنس المتهم بالتربح من كارثة أورليانز، وتيلرسون كوزير خارجية، أو ستيفن منوشين للخزانة، أو خمس مديرين تنفيذين آخرين من جولدمان ساكس... إلخ، أو فى الولاية الثانية من أمثال ماسك،  ورامسوامى، وويتكوف.. وحضور كل رجال الأعمال تقريبا حفل التنصيب خاصة عمالقة التكنولوجيا وانتهاءً بتعيين رئيس هيئة الأركان المشتركة وهو الفريق أول دان رازين والذى وصفه "ترامب" من بين أوصاف أخرى بأنه رجل أعمال ناجحًا!

لقد حذر أيزنهاور فى خطاب توديعه للرئاسة من أمرين: الأول نفوذ المجمع العسكرى الصناعى والآخر الذى لا يذكر كثيرًا مما أسماه "النخبة التكنولوجية العلمية". يبدو أن سياسة الباب الدوار لتولى المناصب السياسية فى هيكل السلطة الأمريكية والتى وصفها كثيرون منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى الآن مثل سى رايت مليز فى كتابه "النخبة ذات السلطة"، ووالتر ريستون فى كتابه "غسق السيادة"، و"ثورة النخب" لكريستوفر لاش و"الطبقة الخارقة" لديفيد ج روثكوبوف، و"الرفض ليس كافيًا" لنايومى كلاين، لم تعد مجدية.

وفقا للنظرة النيوليبرالية المتطرفة فالحكومات وجدت لخلق الظروف الملائمة للمصالح الخاصة لتحقيق أقصى الأرباح والثروات الممكنة ..والناس ستستفيد من ذلك من خلال التساقط المعلوم أو التقطير من الأعلى ..وإذا فشل هذا الأسلوب فليس الفشل لمن يطبق النيوليبرالية بل لأن المجتمعات نفسها تعانى من ثقافة الجريمة والعاملون يفتقدون إلى أخلاقيات العمل. يؤمن ترامب بهذه النظرة وهو ما يثير الكثير من التناقضات، خاصة مع تقديم ترامب لنفسه للناخبين الأمريكيين بأنه أشد الناس وطنية، فهو يزعم أنه يريد إعادة التصنيع إلى البلاد وإعادة مجدها الغابر فى الوقت الذى كون فيه معظم ثروته من خلال استخدام العمالة الرخيصة فى الصين، والتى تصنع له رابطات عنقه وعطوره وأحذية زوجته وجزءًا كبير من ثروته العقارية فى العالم، إضافة إلى كذبه المستدام فى كل شىء.

إن الشركات فى الولايات المتحدة هى التى تحكم النظام السياسي، فكل مراكز الأبحاث والمؤسسات منشأة بتمويلها ومعظم مديريها التنفيذيين، على الأقل منذ السبعينيات حتى الآن هم من يتولون المناصب السياسية. الحكومة فى خيال المجتمع الأمريكى والتى كرست هذه الشركات فكرتها هى نوع من الآلات الأوتوماتيكية التى يجرى تنظيمها عبر الموازنة بين المصالح المتنافسة، ويبدو أن هذه المصالح لا ترى فى الوضع الحالى ما يحقق لها رغباتها فانقلبت على العولمة والنظام معًا لأن أرباحها لم تعد كما كانت، وبدلا من أن تقدم مديريها التنفيذيين لتولى المناصب، قدمت ملاكها وهو أكبر تعارض مصالح فى التاريخ.

عبر "ستيف بانون" كبير استراتيجيى ترامب فى الولاية الأولى عن هذه السياسة بالقول: إن الهدف هو تفكيك الدولة الإدارية، ويعنى بذلك النظم والمؤسسات الحكومية المعنية بالشعب وحقوقه. لا ننسى أن ترامب صرح بأنه يريد خفض الضرائب على الشركات من 35% إلى 15 % عكس برنامج الديمقراطيين، وكذلك التعهد بإزالة 75% من القيود التنظيمية على هذه الشركات.

ويلخص "ميك مولفاني" مدير الميزانية فى البيت الأبيض سياسة ترامب بالقول: "هى قوانين تتخلص من قوانين أخرى، وقواعد تنظيمية تتخلص من قواعد تنظيمية أخرى. ويبدو أن هذا هو جوهر ما يقوم به ترامب وما قضايا الشذوذ، والتعليم،  والرسوم الجمركية، والتصريحات المتعلقة بضم دول بأكملها.. إلا غطاء لها، فهل ينجح؟!


رابط دائم: