محددات الدبلوماسية الهندية تجاه القضية الفلسطينية
24-2-2025

د. منى حندقها أحمد
* أستاذ الدراسات الهندية-الباكستانية

لطالما تميزت السياسة الخارجية الهندية بالبراجماتية، حيث تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين المبادئ الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية. وفي ظل التطورات المتسارعة التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال فترة الحكم الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب (2017-2021)، وجدت الهند نفسها في موقف معقد بين التزاماتها التاريخية تجاه فلسطين وبين علاقاتها المتنامية مع إسرائيل والولايات المتحدة . وسياسة ترامب تجاه غزة لم تكن مجرد قرارات معزولة، بل كانت جزءًا من رؤية أوسع لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل، وهو ما وضع العديد من الدول، ومن بينها الهند، أمام تحديات دبلوماسية تتعلق بموازنة مصالحها الاستراتيجية مع مواقفها التقليدية .

الهند وفلسطين .. من التأييد المطلق إلى البراجماتية الحذرة:

تبنت الهند منذ استقلالها عام 1947، موقفًا داعمًا للقضية الفلسطينية، متماشيًا مع سياسات زعيمها الأول جواهر لال نهرو الذي كان يرى في النضال الفلسطيني امتدادًا لحركات التحرر من الاستعمار. انعكس هذا الدعم في تصويت الهند لصالح فلسطين في الأمم المتحدة، وتقديمها مساعدات إنسانية، بالإضافة إلى إقامة علاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات . ولكن مع نهاية التسعينيات، شهدت السياسة الهندية تحولًا تدريجيًا، حيث بدأت في تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، خصوصًا في مجالات الدفاع، والتكنولوجيا، والزراعة. وجاءت هذه التغيرات في إطار سعي الهند لتطوير قدراتها العسكرية والاستفادة من الخبرات الإسرائيلية، خاصة بعد التحديات الأمنية التي واجهتها نيودلهي مع باكستان . وهذا التوازن في السياسة الهندية ظهر جليًا في مواقفها الدبلوماسية، حيث استمرت في دعم فلسطين نظريًا، لكنها في الوقت ذاته عززت تعاونها الاستراتيجي مع إسرائيل، مما وضعها في موقف محرج عند اتخاذ قرارات حاسمة بشأن القضية الفلسطينية، كما حدث خلال فترة ترامب

وأما عن سياسة ترامب تجاه غزة وتأثيرها على الهند فخلال فترة حكمه اتخذ قرارات مصيرية أثرت بشكل كبير على غزة، كان أبرزها:

1- نقل السفارة الأمريكية إلى القدس:

كان هذا القرار من أكثر الخطوات إثارة للجدل، حيث اعتبر انتهاكًا للقرارات الدولية التي ترى القدس الشرقية أرضًا محتلة. بالنسبة للهند، كان هذا القرار بمثابة اختبار حقيقي لسياستها المتوازنة . ورغم أن الهند لم تؤيد الخطوة، فإنها لم تصدر إدانة قوية أيضًا، وامتنعت عن اتخاذ موقف تصعيدي ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل

2-صفقة القرن:

طرحت إدارة ترامب ما يُعرف بـ"صفقة القرن" التي اعتبرتها القيادة الفلسطينية انحيازًا تامًا لإسرائيل .ولم تعلن الهند دعمها للصفقة، لكنها لم ترفضها بشكل قاطع، مفضلةً موقفًا دبلوماسيًا غير واضح يضمن لها الاستمرار في علاقاتها مع جميع الأطراف دون خسارة أي جهة .

3-تقليص المساعدات الأمريكية للأونروا:

أدت هذه الخطوة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، إذ تعتمد الأونروا على التمويل الدولي لتقديم الخدمات الأساسية للفلسطينيين . هنا، برز دور الهند كمساهم في دعم الفلسطينيين، حيث زادت مساعداتها المالية للأونروا في خطوة رمزية للحفاظ على صورتها الداعمة للقضية الفلسطينية دون التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة .

4-التطبيع العربي مع إسرائيل:

شهدت فترة ترامب تسارعًا في عمليات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، مثل الإمارات، والبحرين، والمغرب . هذا التطبيع أثر على الديناميكيات الإقليمية، لكنه خدم المصالح الهندية، حيث رأت نيودلهي في هذه التغيرات فرصة لتعزيز تعاونها مع كل من إسرائيل والدول العربية في آنٍ واحد، خصوصًا في مجالات التجارة، والتكنولوجيا، والطاقة .

وأما عن معادلة الهندبين مصالحها الجيوسياسية والتزاماتها التاريخية نجد أنها تواجهتحديًا مزدوجًا في تعاملها مع القضية الفلسطينية، فهي من جهة ترغب في الحفاظ على علاقاتها مع الفلسطينيين والعالم الإسلامي، ومن جهة أخرى تسعى لتعزيز شراكاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل وهنا يتوجب علينا التعرف على عدة أمور هي :

1-العلاقة مع الولايات المتحدة:

تُعد الهند شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، خصوصًا في ظل التنافس مع الصين . وقد دفعت هذه العلاقة الهند إلى تجنب أي مواقف قد تثير استياء واشنطن، بما في ذلك انتقاد سياسات ترامب في غزة.

2-العلاقة مع إسرائيل:

شهدت العلاقات الهندية-الإسرائيلية ازدهارًا كبيرًا في العقود الأخيرة، خاصة في مجالات التكنولوجيا العسكرية، والطاقة، والزراعة. هذا التعاون جعل الهند أكثر حذرًا في التعبير عن مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، حيث باتت تتجنب أي تصعيد قد يؤثر على علاقتها مع تل أبيب .

3-العلاقة مع العالم الإسلامي:

رغم تقاربها مع إسرائيل، تحرص الهند على الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية والإسلامية، نظرًا لوجود جالية مسلمة كبيرة داخل الهند، واعتمادها على النفط الخليجي. لذا، فإن دعمها للقضية الفلسطينية، ولو بشكل محدود، يعد ضرورة دبلوماسية للحفاظ على توازنها الجيوسياسي .

وأما عن الهند ومستقبل القضية الفلسطينية في ظل التغيرات الدوليةفمع تغير الإدارة الأمريكية ووصول جو بايدن إلى السلطة، اتخذت الولايات المتحدة نهجًا أكثر اعتدالًا مقارنة بترامب، لكن لم تحدث تغييرات جذرية في السياسة تجاه غزة. بالنسبة للهند، فإن نهجها البراجماتي سيستمر، حيث ستسعى للحفاظ على علاقاتها مع جميع الأطراف دون اتخاذ مواقف حادة.

ولكن هل يمكن للهند أن تلعب دورًا أكثر تأثيرًا في حل القضية الفلسطينية؟ الحقيقة أنه رغم أن الهند تمتلك نفوذًا دبلوماسيًا متزايدًا، فإنها تفضل البقاء في دائرة الحياد، مع التركيز على مصالحها الاستراتيجية .

وعليه تكشف تجربة الهند مع سياسة ترامب في غزة عن نهج دبلوماسي براجماتي يوازن بين المصالح الاقتصادية، والأمنية، والتاريخية وبينما لا تزال الهند تدعم القضية الفلسطينية نظريًا، فإنها عمليًا تعطي الأولوية لعلاقاتها مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة ومعها إسرائيل، مما يجعل موقفها من القضية الفلسطينية محكومًا بحسابات المصالح أكثر من المبادئ .


رابط دائم: