"أمن البحر الأحمر" والاستقرار الإقليمي.. أولوية استراتيجية لمصر وجيبوتى
19-2-2025

د. نورا على معروف
* دكتوراه فى العلوم السياسية - كلية الدراسات الإفريقية العليا

فى إطار سعى مصر لتعزيز التعاون الإقليمى وتعزيز أمن واستقرار منطقة البحر الأحمر، تبرز العلاقات بين مصر وجيبوتى كعامل أساسى لتحقيق هذه الأهداف، حيث تعمل مصر على تعزيز التبادل الاقتصادى والأمنى مع جيبوتى، التقى الرئيس عبدالفتاح السيسى بوزير خارجية جيبوتى، محمود على يوسف، فى القاهرة2 فبراير2025. حيث تناول الطرفان الكثير من الملفات والقضايا الثنائية والإقليمية محل الاهتمام المشترك، حيث استعرضا كافة أوجه التعاون القائمة بين البلدين، خاصةً السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والاستثمارية وكيفية تطويرها لترتقى إلى مستوى العلاقات السياسية المتميزة بين البلدين.

كما تناولا الأوضاع الإقليمية فى منطقة القرن الإفريقى، خاصة أمن البحر الأحمر، والتى حظيت بأولوية كبيرة خلال المباحثات فى ضوء ما تحتويه المنطقة من بؤر توتر من الواجب احتواؤها، فضلًا عن العمل على ترسيخ الأمن والاستقرار فى تلك المنطقة المهمة من القارة، إضافة إلى تكثيف التعاون والتنسيق بين مصر وجيبوتى، فيما يتصــل بأمــن البحــر الأحمــر، والتأكيد على مسئولية الدول المشاطئة عن صياغة كافة السياسات الخاصة بذلك الممر المائى الحيوى، من منظور متكامل يأخذ فى الاعتبار مختلف الجوانب التنموية، والاقتصادية، والأمنية.

وتعتبر مصر وجيبوتى شركاء استراتيجيين فى منطقة القرن الإفريقى، وتعملان معًا على تعزيز الاستقرار والأمن فى المنطقة. وبناء على التحديات المستمرة التى تشهدها البيئة الإقليمية للبحر الأحمر، سواء فيما يتعلق بالتفاعلات الداخلية للدول المشاطئة له، أو فيما يتعلق بالتفاعلات البينية فيما بينها، أو ما يتصل بالتدافع الإقليمى والدولى للدول الكبرى التى تسعى لإيجاد موطئ قدم لها على ذلك الممر المائى، الذى تزايدت أهميته الاقتصادية الدولية على نحوٍ يرفع من عوامل التأثير على حالة الأمن الإقليمى، ويستوجب رفع درجات الاستجابة من جانب الدول الرئيسية المشاطئة له، التى باتت مصالحها الاستراتيجية فى مرمى التهديد.

فى هذا السياق، يعد التعاون بين مصر وجيبوتى أمرًا بالغ الأهمية فى تعزيز الأمن والاستقرار فى البحر الأحمر، خاصة مع وجود تحديات أمنية مشتركة والتى تأتى فى وقت تزداد فيه التهديدات الأمنية فى البحر الأحمر والتى تهدد كلا البلدين. ومن بين هذه التحديات، يمكن ذكر التهديدات الإرهابية والقرصنة، بالإضافة إلى التحركات الإقليمية والدولية التى تهدف إلى تعزيز النفوذ فى المنطقة.

فى ضوء هذا المقال، نذكر أبرز مجالات التعاون بين مصر وجيبوتى، وكيف يمكن أن يسهم هذا التعاون فى تعزيز الأمن القومى لكلا البلدين.كما سنستعرض منطقة البحر الأحمر وأهميتها الاستراتيجية وأهم التحديات الأمنية التى تواجه البلدين، وأهمية الترتيبات والحلول الأمنية لمواجهة هذه التحديات.

أولا- أبرز مجالات التعاون بين البلدين:

تتميز العلاقات المصرية الجيبوتية بالتعاون الوثيق فى العديد من المجالات، بما فى ذلك:

1- التعاون السياسى والأمني: تعمل مصر وجيبوتى معًا على مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود فى المنطقة، خاصة فيما يتعلق بتهديدات الجماعات الإرهابية فى الصومال واليمن، وتعزيز الأمن الإقليمى فى منطقة القرن الإفريقى، خاصة فيما يتعلق بمكافحة القرصنة والاتجار غير المشروع.

فى هذا السياق، توافقت مصر وجيبوتى، على ضرورة العمل من أجل تعزيز أمن البحر الأحمر بما يكفل حرية الملاحة، وذلك فى وقت جددت فيه القاهرة رفضها "أى وجود عسكرى لأى دول غير مشاطئة" فى الممر الملاحى. واتفق البلدان على أهمية العمل المشترك لضمان استعادة الأمن فى مضيق باب المندب، وحركة الملاحة الطبيعية فى البحر الأحمر.[1]

2- التعاون الاقتصادى والتجاري: تعمل مصر وجيبوتى على تعزيز التجارة بين البلدين، خاصة فى مجالات، مثل الزراعة والصناعة، وتعزيز الاستثمار بين البلدين، خاصة فى مجالات، مثل البنية التحتية والسياحة.

3- التعاون الثقافي: تهتم الدولتان بتعزيز التعاون فى مجال التعليم، مثل التبادل الطلابى والتعاون بين الجامعات والفنون والتراث الثقافى.

ثانيا- البحر الأحمر منطقة استراتيجية مضطربة:

تمثل منطقة البحر الأحمر أهمية استراتيجية فى الترتيبات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية على الصعيدين الدولى والإقليمي، باعتبار البحر الأحمر أحد أهم ممرات المياه فى العالم، نظرا لموقعه الاستراتيجى المتميز، يضاف إلى ذلك تفاعلات “عسكرة البحر الأحمر” بين القوى الدولية الكبرى من خارج الإطار الجغرافى للمنطقة، كالولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والدول الأوروبية ومصالحها فى المنطقة، وأنها تتحكم فى ممرات ملاحية ضرورية لحركة التجارة العالمية، وسلاسل التوريد، ونقل النفط والغاز، وغيرها من السلع الاستراتيجية.

أسهم الموقع الاستراتيجى لمنطقة البحر الأحمر فى تعدد مصالح الدول المتشاطئة من الناحية الاقتصادية، كما أسهم أيضا فى تدافع الترتيبات السياسية والأمنية لتلك الدول، بما جعل “المنظور الأمنى القومي” محددًا مهمًا من محددات تلك الترتيبات، الأمر الذى أدى إلى تعدد المشروعات الإقليمية والدولية المتصلة بترتيبات الأمن فى المنطقة من ناحية، وإلى تنافس هذه المشروعات تنافسًا حادًا من ناحية أخرى، بل بدأ هذا التنافس-فى إحدى مراحل تفاعلات الدول المتشاطئة والقوى الدولية غير المتشاطئة- يتطور إلى مرحلة جديدة تتشكل معها ملامح ما يمكن تسميته “تعارض المصالح الاستراتيجية”.

وفى هذا السياق توافقت مصر وجيبوتى، خلال المحادثات الأخيرة على ضرورة العمل من أجل تعزيز أمن البحر الأحمر ما يكفل حرية الملاحة، وذلك فى وقت جددت فيه القاهرة رفضها "أى وجود عسكرى لأى دول غير مشاطئة" فى الممر الملاحى. وأن "البلدين اتفقا على أهمية العمل المشترك لضمان استعادة الأمن فى مضيق باب المندب، وحركة الملاحة الطبيعية فى البحر الأحمر.[2]"

فى سياق متصل، عقد وزير الخارجية والهجرة المصرى، مشاورات سياسية مع نظيره الجيبوتى، وتطرقت المباحثات إلى تطورات الأوضاع الإقليمية فى منطقة القرن الإفريقى والبحر الأحمر، ودور البلدين فى تعزيز الأمن البحرى وحماية الممرات الملاحية الدولية فى البحر الأحمر، ودعم جهود الصومال فى مكافحة "الإرهاب"، فى ضوء مساهمة البلدين فى بعثة الاتحاد الإفريقى الجديدة لدعم الاستقرار فى الصومال.

من جانبه، أكد وزير خارجية جيبوتى "ضرورة تعزيز مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن". ويرى أنه آن الأوان لتفعيل هذا المجلس حتى يتحمل هذه المسئولية، أو على الأقل جزءا من مسئولية الحفاظ على الأمن، وسلامة الملاحة فى البحر الأحمر.[3].

ويشكّل البحر الأحمر بشكل عام محورًا أساسيًّا لأى تدخُّلٍ عسكرى محتملٍ، حال أى تهديد لمصالح القوى الكبرى بالمنطقة وما حولها، كما يزيد من قيمة البحر الأحمر العسكرية وجود بعض الجزر ذات الموقع المهم، والتى تتحكم بالمضايق، فضمان أمن البلاد المُطلّة على البحر الأحمر يمثل محوًرا مهمًّا من محاور ضمان الأمن القومى العربى والإفريقي، وتثبت التجارب أن الدول المُطلّة على البحر الأحمر كانت على الدوام الطرف الأكثر تضررًا من أى اختلالات أمنية.

ثالثا- تهديدات وتحديات شائكة:

يتسم الممر الملاحى للبحر الأحمر بوقوعه فى قلب منطقة مضطربة أمنيًّا وسياسيًّا، والتى تضم الشرق الأوسط، وتُطلُّ عليه منطقة القرن الإفريقى، التى يزيد فيها الإرهاب، وتتصف بعدم الاستقرار الأمنى للعديد من دوله، فمن ضمن التحديات والتهديدات الأمنية الآتي:

الإرهاب فى منطقة القرن الإفريقى:

تعد منطقة القرن الإفريقى منطقة جاذبة للجماعات والحركات الجهادية، وذلك فى ضوء حالة الفراغ التى تعانى منها تلك المنطقة، والتى تُعد بيئة مناسبة لحركة الجماعات المتطرفة العابرة للحدود، حيث إن الدول الوطنية هشة، وحيث تنتشر تجارة السلاح بكثافة، كما أنها بيئة فقيرة وتفتقد إلى التنمية، وعليه فإنها تمد تلك الجماعات بالعناصر الجهادية، هذا فضلًا عن أن تلك المنطقة تمثل نقطة انطلاق مهمة فى توجيه ضربات موجعة سواء لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الغربية بشكل عام، أو العربية بشكل خاص.

بالإضافة إلى التهديد الذى تشكله المنظمات الجهادية، فإن مصر قلقة أيضًا من احتمال نشوب صراع على نهر النيل، إذ يعتبر النهر مصدرًا حيويًا للمياه لمصر، وأى اضطراب فى تدفقه يمكن أن يكون له آثار خطيرة على القطاع الزراعى فى البلاد والاقتصاد العام. ومن ثم، فإن بناء أثيوبيا لسد النهضة الأثيوبى وتبنيها نهجًا أحاديًا يخالف قواعد القانون الدولى قد يؤثر على منسوب مياه النيل الواردة إلى مصر، وهو ما يهدد أمن واستقرار منطقة حوض النيل والقرن الإفريقى بشكل عام. كذلك، يمكن القول إن التهديدات البحرية فى إفريقيا، وتداعياتها الكبيرة على الأمن القومى المصرى والمصالح الاقتصادية، تجعل من مصلحة مصر الاستراتيجية ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار الممرات المائية فى المنطقة، خاصة مع أهميتها الجوهرية لتجارتها، واقتصادها وأمنها القومى. وعلى هذا النحو، شاركت مصر بنشاط فى الجهود المبذولة، لتحقيق الاستقرار فى المنطقة، ومواجهة أنشطة المنظمات الجهادية، لا سيما فى ليبيا والصومال.[4]

ربما يأتى أهم تهديد للأمن البحرى لمصر فى إفريقيا من الإرهاب، حيث استهدفت الجماعات الإرهابية، مثل القاعدة وداعش، المصالح البحرية لمصر، بما فى ذلك قناة السويس، ومضيق باب المندب،وساحل البحر الأحمر. ففى عام 2015، أعلن تنظيم داعش مسئوليته عن تفجير طائرة ركاب روسية فوق شبه جزيرة سيناء، مما أسفر عن مقتل كل من كانوا على متنها وعددهم 224راكبًا وطاقمها. وقد سلط الهجوم الضوء على تحدى الإرهاب، وما يمثله من مخاطر على أمن المطارات والموانئ البحرية فى مصر.

طموحات القوى الكبرى

تزيد المنافسة الدولية والإقليمية، التى تمتلك أهدافا متعارضة ومتنافسة، من حالة التوتر فى إقليم البحر الأحمر، بما يؤدى إلى تفاقم المنافسة الجيوسياسية فى البحر الأحمر.

ورغم تحديات الهيمنة فى تلك المنطقة التى تشهد تصاعد المنافسة الإقليمية والدولية، بما يقلل من فرص تحقيق دولة بمفردها حالة الهيمنة على توجيه سياسات ومسارات التعاون والصراع، إلا أن التنافس يفاقم من التوترات، نظرًا لحالة اصطدام مصالح وسياسات العديد من اللاعبين فى المنطقة.

وتضيف الأزمات الأمنية مبررًا قويًا لتصاعد التنافس الدولى والعسكرة فى المنطقة، التى تشهد بالفعل تنافس المصالح والتدخلات الإقليمية والدولية، وسعى أغلب القوى الإقليمية والدولية لإقامة القواعد العسكرية التى تسهم فى حماية مصالحها وفرض نفوذها فى المنطقة، مما يفرض على الدول المعنية الاختيار بين بدائل وترتيبات أمنية شديدة التعقيد.

عسكرة البحر الأحمر:

تجرى حرب باردة بين كل من (الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين) داخل الممر الملاحى، تُلقى بمخاطر أمنية على المنطقة، كذلك المخاطر الناتجة عن التنافس الصينى-الأمريكى، إذ تواجه الولايات المتحدة عملية توازن معقدة، تعمل على معايرة سياستها تجاه الصين فى ساحة البحر الأحمر، حيث أصبحت الصين لاعبًا مهمًا فى ساحة البحر الأحمر على مدى العقدين الماضيين، وتمتلك الصين قاعدة عسكرية فى الخارج متمركزة فى جيبوتى، فإطلالة جيبوتى على مضيق باب المندب ذى الأهمية الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية الكبيرة، جعلتها دولة محورية فى الجهود المبذولة للحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين من خلال التنسيق والتعاون مع القوى الكبرى لحماية الملاحة البحرية ومكافحة الإرهاب ومواجهة التحديات الأمنية التى تؤرق المنطقة والعالم بأسره.[5]وبسبب ما تنعم به جيبوتى من أمن واستقرار رغم وقوعها فى محيط مشتعل بالأزمات والصراعات، يطلق عليها كثيرون "واحة السلام"، وذلك لما عرفت به من دبلوماسية حكيمة وتوازن سياسى محليا وإقليميا.

وعلى إثر ذلك، فالقواعد العسكرية الدولية التى وجدت أخيرا فى جيبوتى موجهة فى المقام الأول لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية وحماية الملاحة الدولية فى هذا الموقع الاستراتيجى المهم من العالم، إلا أنه لا يزال هناك أسئلة حول التأثير طويل المدى الذى قد تحدثه مشاركة الصين على دول القرن الإفريقى والخليج، فقد أدى افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية للصين فى جيبوتى، على طول أحد الممرات المائية الأكثر ازدحامًا والأكثر أهمية فى العالم، وبالقرب من القواعد العسكرية للولايات المتحدة وفرنسا، لزيادة المخاطر الأمنية بالمنطقة، وأُثيرت مخاوف بشأن العسكرة المتزايدة للبحر الأحمر.

التهديد الحوثى:

 تأتى ضمن أبرز مهددات أمن البحر الأحمر، حيث تمثل العلاقات المتنامية بين إيران وجماعة الحوثى تهديدًا صريحًا لأمن البحر الأحمر، فمنذ سيطرة ميليشيات الحوثى على الساحل الغربى لليمن، تصاعدت المخاطر التى تهدد حرية الملاحة البحرية فى البحر الأحمر، كما تهدد أيضًا أمن المنطقة، خاصة بعد سيطرتهم على ميناء الحُدَيْدَة (عروس البحر الأحمر)، والتى يُعَدُّ أكبر موانئ اليمن على الساحل الغربى.

وفى هذا الصدد، تدعم إيران ميليشيات الحوثي، للتواجد فى البحر الأحمر، الذى يمثل نقطة ارتكاز مهمة باستراتيجية إيران منذ ثورة الخمينى، وزاد الشغف برغبتها فى التحكم بأهم الممرات الدولية. وبالتالى يخلق تداعيات سلبية على التجارة العالمية، لأنه يهدد تدفقات النفط التى تمر يوميًا فى مياه البحر الأحمر.

النزاعات والصراعات فى البحر الأحمر:

 تدور فى بعض مناطق الجوار الجغرافى للبحر الأحمر صراعات ونزاعات إقليمية، مثل القرن الإفريقى واليمن، واستمرار تلك الصراعات من شأنها أن تلعب دورًا فى استقطاب المزيد من المتكالبين على النفوذ وموطئ قدم فى المنطقة، ومن ثم يظل الوضع فى البحر الأحمر قابلا للانفجار واندلاع الصراعات مجددًا مستقبلا، ويمثل النزاع الجيبوتى–الإريترى وهو النزاع المستمر حول منطقة دوميرا، والذى لا يزال مؤشرًا سلبيًا حول إمكانية تحقيق السلام الإقليمى فى المنطقة، بالرغم من انتهاء الخلاف الأثيوبى-الإريترى، بما يعنى استمرار التهديد الإقليمى فى القرن الإفريقى، وتأثيره على منطقة البحر الأحمر كونهما وحدتين أساسيتين فى النظام الإقليمى للبحر الأحمر.

، كما تعرف الحدود المشتركة بين إريتريا وجيبوتى نزاعات متقطعة، وحالة توتر شبه دائمة منذ عام 2008. وكانت إريتريا تنشر قوات ومعدات عسكرية على حدودها مع أثيوبيا منذ أن اندلعت الحرب والمواجهات المباشرة بينهما فى مايو 1998، لتجدد حالة توتر ومناوشات استمرت قرابة قرنين .

وتشهد منطقة البحر الأحمر حالة من الاضطرابات السياسية وتصاعد التنافس الذى يفاقم بدوره من الأوضاع الأمنية. فالاضطرابات فى السودان والصومال وكذلك اليمن، تزيد من التهديدات الأمنية الإقليمية، فى الوقت الذى يشهد فيه الساحل الغربى للبحر الأحمر سباق القواعد العسكرية على المستويين الإقليمى والدولى.

فى واقع الأمر، تشير التهديدات والتحديات الحالية إلى أن النزاعات والصراعات المحتملة، ستكون معقدة ومتعددة الجوانب، فبعض دول البحر الأحمر، خاصةً غرب البحر الأحمر، متمثلة فى منطقة القرن الإفريقى، تغمرها توترات داخلية ومتبادلة متأصلة فى الصراعات العرقية أو تغذيها، كل تلك النزاعات لها تداعيات إقليمية طويلة المدى، ففى غضون ذلك، تُظهر أنشطة الجماعات الإرهابية الجهادية فى (ليبيا، والصومال، ومنطقة الساحل والصحراء) مدى خطورتها، التى تهدد استقرار الدول المعنية، وتعيق آفاقها فى البناء والتنمية.

القرصنة البحرية:

بالرغم من تقديرات حلف الناتو، التى أشارت إلى انخفاض الهجمات الناجحة للقرصنة قبالة سواحل البحر الأحمر فى القرن الإفريقى خلال السنوات القليلة الماضية مقارنة بعام 2009، الذى شهد ذروة عمليات القرصنة بعدد 52عملية اختطاف ناجحة، إلا أن هناك مخاوف من تجدد عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية، مما يهدد أمن واستقرار البحر الأحمر.[6]

وفى هذا السياق فإن القرصنة لها تأثير كبير على صناعة الشحن فى مصر، حيث إنها تزيد من تكلفة شحن البضائع وتشكل خطرًا على سلامة البحارة، ومن بين الأمثلة على ذلك، ما حدث فى عام 2009عندما اختطف قراصنة صوماليون سفينة شحن تحمل بضائع مصرية، مما أدى إلى خسارة ملايين الدولارات. وردًا على تهديد القراصنة، شاركت مصر فى الجهود الدولية لمكافحة القرصنة، مثل فرقة العمل المشتركة.

إضافة إلى ما سبق، فثمة تهديد رئيسى آخر للأمن البحرى فى إفريقيا يؤثر على مصر سلبًا، وهو التهريب، والذى يشمل تهريب الأسلحة، والمخدرات، والأشخاص، حيث أصبحت شبه جزيرة سيناء، الواقعة على مفترق طرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، مركزًا لأنشطة التهريب، يستخدم المهربون القوارب الصغيرة لنقل البضائع والأشخاص عبر البحر الأحمر متجاوزين الموانئ ونقاط التفتيش الرسمية، وهذا يشكل تحديًا كبيرًا لأمن الحدود المصرية، حيث يمكن للمهربين بسهولة التهرب من الكشف عنهم والتحرك بحرية عبر ساحل البلاد.[7]

 الحرب فى غزة:

قد يُلقى استقرار قطاع غزة بتأثيراته على أى ترتيبات أمنية لمنطقة البحر الأحمر، لكن من المتوقع أن يكون إحلال الاستقرار فى غزة صعب المنال خلال الفترة المقبلة، خاصة فى ظل إدارة ترامب الجديدة.

وإجمالا تشكل تلك التهديدات والتى ترتبط بواقع المتغيرات الدولية والإقليمية فى المنطقة، مصدر قلق بشأن الأمن والاستقرار الإقليمى، وتحديًا قويًا أمام أى تنسيق وتعاون إقليمى مستقبلى بشأن منطقة البحر الأحمر، إلا أنها فى الوقت نفسه تمثل دافعًا قويًا نحو ضرورة وجود إرادة إقليمية من جانب الدول المطلة على البحر، تستهدف ضمان أن يصبح الحزام الساحلى للبحر الأحمر حزامًا آمنًا، لضمان سلامة الطريق التجارى من المحيط الهندى إلى البحر الأبيض المتوسط، فى تحقيق السلام الإقليمى فى منطقة القرن الإفريقى، لما سيكون له من انعكاسات على المشهد الاستراتيجى فى البحر الأحمر وأمنه.

رابعا- ترتيبات أمنية لمواجهة التحديات:

قامت مصر بتعزيز الترتيبات الأمنية لحماية أمن البحر الأحمر، من خلال:

-تعزيز التعاون الأمنى مع الدول العربية والإفريقية، وذلك من خلال اللقاءات والزيارات التى تتم بين القاهرة والعواصم الإفريقية،وندلل على ذلك بالزيارة الأخيرة لكل من كينيا وجيبوتى الى مصر، لتعزيز التعاون على مختلف الأصعدة ومنها التعاون الأمنى لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة.

كما أولت مصر منطقة البحر الأحمر اهتماما بالغًا منذ عام 2014، حيث رأت القيادة السياسية ضرورة وضع استراتيجية خاصة بترتيب أولويات الأمن القومى المصرى، ووضع أمن البحر الأحمر من جنوبه إلى شماله ضمن أولويات هذه الاستراتيجية، فسعت إلى تفعيل آلية إنشاء القواعد العسكرية البحرية المتقدمة على سواحله كقاعدة "برنيس" على سبيل المثال، وهى قاعدة بحرية وجوية، تتركز مهمتها الأساسية فى حماية وتأمين السواحل المصرية الجنوبية، فضلا عن تحديث قطع أسطولها البحرى فيه بأحدث المعدات، إلى جانب مشاركتها -كدولة مشاطئة للبحر- فى مجلس الدول العربية الإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الذى تأسس فى يناير 2020، كتكتل إقليمى يتبنى رؤية للتعاون بين الدول الأعضاء تهدف إلى ضمان أمن البحر الأحمر وخليج عدن من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية فى هذه المنطقة.[8]

كما عملت مصر فى السابق على توقيع اتفاقيات تعاون عسكرى مع أغلب دول المنطقة، وذلك فى زيارة إلى جيبوتى فى مايو 2021، كأول رئيس مصرى يزور جيبوتى منذ الاستقلال، كان الاتفاق على التعاون الفنى والعسكرى حاضرًا ضمن أجندة التعاون بين البلدين. واتفق حينها على تعزيز التعاون فى مجالات مكافحة الإرهاب وجميع أشكال الجريمة المنظمة، وكذلك أمن البحر الأحمر وخليج عدن، من خلال التنسيق فى إطار مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن.وتطوير القدرات الأمنية لمصر من خلال التدريب والتعاون مع الدول الأخرى، لتعزيز قدراتها على مواجهة التحديات الأمنية فى البحر الأحمر.

كما دشنت مصر قيادة الأسطول الجنوبى وافتتحت قاعدة برنيس العسكرية عام 2017، فى ضوء الأهمية الاستراتيجية لتأمين الجزء الجنوبى، وكجزء من إجراءات وترتيبات أمنية أوسع، شملت التنسيق والتحالف العسكرى مع الدول الشريكة ومواصلة برامج الاحتراف العسكرى والتدريب، وكذلك إجراء المناورات والتدريبات البحرية فى المنطقة.

وعلى النحو نفسه، هناك اتفاقيات أبرمتها مصر للتعاون العسكرى مع دول حوض النيل، مثل كينيا، وأوغندا، وبوروندى، والسودان، إذ وقّعت مع الأخيرة اتفاقية للتعاون العسكرى فى مارس 2021. وأجرت كل من مصر والسودان مناورات عسكرية شملت "نسور النيل 1" و"نسور النيل 2"، فى نوفمبر 2020ومارس 2021على التوالى، ومناورة "حماة النيل" فى مايو 2021.

هذه الخطوات تعكس التزام مصر بتعزيز الأمن والاستقرار فى البحر الأحمر، وتعزيز التعاون مع الدول الإقليمية الأخرى لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة

ولعل أبرز ترتيب جماعى مؤسسى انخرطت فيه مصر كان تدشين مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن عام 2020 ويضم فى عضويته: مصر، والسعودية، والأردن، واليمن، والصومال، والسودان، وجيبوتى، وإريتريا، يتم من خلاله تعريف المصالح والتهديدات الجماعية، بما يضمن أفضل استجابة للتهديدات وأعظم استفادة من الفرص.

ودعمًا للآليات المشتركة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمى ومجابهة التحديات، تولت مصر قيادة "قوة المهام المشتركة 153"، التى تتمثل مهامها فى مكافحة أعمال التهريب والتصدى للأنشطة غير المشروعة فى باب المندب، وخليج عدن، والبحر الأحمر، كجزء من المشاركة المصرية الفاعلة فى القوة البحرية المشتركة(CMF).[9]

أخيرا هناك تهديد قوى وواضح لأمن البحر الأحمر من قبل الأطراف الإقليمية غير العربية والدولية، لذا ينبغى عند صياغة تصور استراتيجى عربى لحماية أمن البلدان العربية المطلة على البحر الأحمر، وتأمين الملاحة فيه، وتحقيق التعاون والاستثمار المشترك لثروات هذا الممر المائى وفق مشروع عربى متكامل, تتقاطع حوله الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية، يجب أن ينطلق هذا المشروع من الدائرة الوطنية لكل دولة ومن دائرة التعاون الثنائى، وكذلك من دائرة المشروع الوحدوى للدول المشاطئة ضمن أبعاده العربية والإقليمية، وذلك فى المجالات العسكرية، والأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية.

خاتمة:

يعد التعاون بين مصر وجيبوتى فى مجال الأمن والاستقرار فى البحر الأحمر خطوة  مهمة وأمرًا بالغ الأهمية لتعزيز الأمن القومى لكلا البلدين. من خلال تعزيز التعاون الأمنى والاستراتيجى، يمكن لمصر وجيبوتى مواجهة التحديات الأمنية المشتركة التى تهدد المنطقة.

وإن وجود نظام أمنى مستقر فى منطقة البحر الأحمر، أو على الأقل وجود ترتيبات أمنية محددة، بات أمرًا ضروريًّا وليس ترفًا سياسيًّا، من خلال إنشاء كيان تنظيمى عربى للبحر الأحمر وخليج عدن، وفى أقل التقديرات التنسيق المشترك بين الدول العربية المعنية، بهدف دعم السيطرة الإقليمية العربية على البحر الأحمر، هذا التنسيق يكون فى المجال المعلوماتى بالأساس، وعمل المناورات البحرية المشتركة فيما بينها أو بين قوى صديقة فى البحر الأحمر لرفع مستوى الكفاءة للقوات لمواجهة التهديدات المحتملة، والحفاظ على توازن القوى بين الدول العربية والقوى الدولية والإقليمية المتنافسة على تحقيق مصالحها فى البحر الأحمر.

الهوامش:

[1]جريدةالنبأ، بالتفاصيل. وزير الخارجية يعقد مشاورات سياسية مع نظيره الجيبوتى،02/فبراير/2025، على الرابط:https://www.elnabaa.net/category/2

[2]المرجع نفسه.

[3]المصرى اليوم، اتفاق بين مصر وجيبوتى على استعادة الأمن فى "باب المندب"، على الرابط،https://2u.pw/iwhWuDi8.

[4]حمدى عبدالرحمن، تهديدات الأمن البحرى فى إفريقيا وتأثيرها على المصالح المصرية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 21يونيو 2023، ت الاطلاع: 2فبراير 2025، على الرابط: https://apa-inter.com/index.php

[5]هند محروس، الوجود العسكرى الأجنبى فى جيبوتى وفق معيار الشرعية الدولية، مجلة الدراسات الإفريقية، ع2، يونيو2021.

[6]حمدى عبدالرحمن، تهديدات الأمن البحرى فى إفريقيا وتأثيرها على المصالح المصرية، مرجع سبق ذكره.

[7]المرجع نفسه.

[8]حمدى عبدالرحمن، الصعود المصري وأمن القرن الإفريقى، آفاق استراتيجية، العدد 3يونيو 2021.

[9]حمدى عبدالرحمن، تهديدات الأمن البحرى فى إفريقيا وتأثيرها على المصالح المصرية، مرجع سبق ذكره.

 


رابط دائم: