تهجير سكان غزة بين تهديد الاستقرار وانتهاك الأعراف الدولية
2-2-2025

د. محمد أبوغزله
* باحث رئيسى - مركز تريندز للبحوث والاستشارات

أثار اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن عاصفة من الجدل الدولي، وكشف عن مخاطر جسيمة تهدد الاستقرار الإقليمي وتنتهك صراحة مبادئ القانون الدولي، فضلًا عن القيم والأخلاق الإنسانية. هذا الاقتراح، الذي جاء عقب حرب إسرائيلية مدمرة استمرت 15 شهراً، وحولت قطاع غزة إلى أنقاض، لم يعد مجرد فكرة نظرية، بل تحول إلى تهديد ملموس يلوح في الأفق، مثيراً مخاوف عميقة من حدوث نزوح قسري يصل إلى حد التطهير العرقي تحت غطاء "البراجماتية الجيوسياسية".

وفي الوقت الذي رفضت فيه مصر والأردن بأشد العبارات أي محاولات لاستيعاب الفلسطينيين بشكل جماعي، فإن تبني ودعم ترامب لمثل هذه الخطوة يطرحان مجددا تساؤلات خطيرة حول دور الولايات المتحدة المزعزع للاستقرار في المنطقة، وتأثير سياستها في مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. ويبدو واضحا أن هذا الاقتراح ليس مجرد فكرة عابرة، بل هو جزء من رؤية أوسع، وخطة لم يتردد العديد من المسئولين الإسرائيليين في الحديث عنها والترويج قبل الحرب وخلالها، تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة الديمغرافية والسياسية للمنطقة، لمصلحة أجندات تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي.

خلفية الاقتراح:

بعد أكثر من عام من القصف الإسرائيلي المكثف وغير المسبوق، تحولت غزة إلى منطقة منكوبة، حيث أصبحت الحياة فيها شبه مستحيلة. فالبنية التحتية المدمرة، والنقص الحاد في الغذاء والماء، والتدهور الإنساني المتفاقم، كل ذلك جعل من غزة أرضاً لا تصلح للحياة بالفعل. في هذا السياق، عادت دعوات التهجير القسري، التي تروج لها بعض الأطراف داخل إسرائيل منذ فترة رغم الإدانة الدولية الواسعة، إلى الواجهة مجدداً بعد تصريحات ترامب، التي تريد أن تمنح بأسلوب خبيث "شرعية" زائفة لمحاولة اقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم.

وبدلاً من دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، يواصل ترامب نهجه في تجاهلها والأخطر الانخراط من حيث يدري أو لا يدري في التآمر عليهم، مساهماً في تصفية قضيتهم بدلاً من السعي إلى تحقيق حل عادل يعترف بحقوقهم الأساسية.

ترامب، الذي يتبني ويدعم بشكل صريح الرواية الإسرائيلية اليمينية التي ترى في الوجود الفلسطيني "عقبة" أمام الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل، يعيد إنتاج أنماط تاريخية من الهندسة الديمغرافية التي سعت دائماً إلى طمس الهوية الفلسطينية وإعادة تشكيل المنطقة لصالح الهيمنة الإسرائيلية. هذا النهج لا يهدد فقط مستقبل الفلسطينيين، بل يهدد أيضاً أسس السلام والاستقرار في الشرق الأوسط برمته وربما ما ورائه.

رفض مصري وأردني قاطع:

على الرغم من العلاقات الاستراتيجية الوثيقة بين الولايات المتحدة وكل من مصر والأردن، فإن البلدين رفضا بشكل قاطع أي خطط لاستيعاب الفلسطينيين النازحين، بالطبع ليس ضيقا بالفلسطينيين، ولكن لإدراكهم خبث هذا المخطط الرامي لتصفية قضيتهم العادلة. الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كان واضحاً في رفضه، محذراً من أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين ستؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة وتهديد الأمن القومي المصري. وبالمثل، أكد الأردن، الذي يستضيف بالفعل ملايين اللاجئين الفلسطينيين، أن أي حل للقضية الفلسطينية يجب أن يكون داخل فلسطين نفسها، وليس من خلال الهجرة القسرية.

هذا الرفض ليس مجرد موقف سياسي، بل هو تأكيد على أن القضية الفلسطينية ليست مجرد أزمة إنسانية يمكن حلها بتوزيع اللاجئين على الدول المجاورة،وإنما هي قضية سياسية متجذرة في تاريخ طويل من الاحتلال والظلم والقمع والتهجير. وأي محاولة لتجاهل هذه الحقائق لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات القائمة، وخلق دورات جديدة من الصراع والعنف وعدم الاستقرار.

تطهير عرقي وتحدي صارخ للقانون الدولي:

من الناحية القانونية، يمثل اقتراح ترامب انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، فقد نصت المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بوضوح على أن ترحيل السكان المدنيين بالقوة من أراضيهم المحتلة محظور تمامًا، سواء كان ذلك داخل الأراضي المحتلة نفسها أو إلى دول أخرى. فوفقا للفقرة الأولى من هذه المادة "يحظر النقل الجبري الفردي أو الجماعي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي بلد آخر، أياً كان الدافع."وأي محاولة لنقل الفلسطينيين من غزة بالقوة أو عبر التهديد تُعد انتهاكًا صارخًا لهذه الاتفاقية، ما يصنفها كجريمة حرب.

كذلك، حددت المادة السابعة من اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية(ICC)التهجير القسري كجريمة ضد الإنسانية، حيث تعدّالتهجير القسري للسكان بغرض التطهير العرقي أو التغيير الديموغرافي جريمة ضد الإنسانية بموجب هذا النظام الأساسي.

فضلا عن  ذلك، فقد أكد ميثاق الأمم المتحدة حق الشعوب في تقرير المصير، ويعدّقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/43 لعام 1982 طرد السكان من أراضيهم الأصلية جريمة خطيرة ضد الإنسانية.

وتجرّم المبادئ الأساسية للقانون العرفي الدولي، التي هي ملزمة للدول كافة، عمليات التهجير القسري.ومن ثم، فإن ترحيل سكان غزة بالقوة أو عبر التهديد أو الضغط يمثل تطهيرًا عرقيًا، وهو أحد أشكال الجرائم الدولية التي يعاقب عليها القانون الدولي.

ولا ننسى أن مجلس الأمن أصدر العديد من القرارات التي تحظر تغيير الطابع الديمغرافي للأراضي الفلسطينية، وترفض الاستيطان الإسرائيلي وتدعم حق الفلسطينيين في أراضيهم.وقد أدانت محكمة العدل الدولية ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة، وأدت عشرات المرات أنها تخالف القانون الدولي الإنساني.

لذا فإن تبني ترامب فكرة التهجير القسري ودعمها، والإصرار عليها لا يتجاهل هذه الأطر القانونية فحسب، بل يخلق سابقة خطيرة يمكن أن تستخدمها دول أخرى في صراعات مستقبلية، حيث تصبح الهندسة الديمغرافية أداة لقمع الشعوب وطمس هوياتها.ولا ننسى أن الولايات المتحدة نفسها وأوروبا سبق أن أدانتا التهجير القسري في أماكن أخرى، مثل البوسنة والهرسك ورواندا؛ ولذلك فإن تجاهل القضية الفلسطينية لا يعكس ازدواجية معايير فقط، بل يؤكد الطبيعة الشريرة لبعض النخب التي لا تأبه لقانون أو قيم أو أخلاق.

تداعيات إقليمية ودولية واسعة:

لا تقتصر تداعيات هذا الاقتراح على الفلسطينيين فحسب، بل تمتد إلى المنطقة بأكملها. ففي الوقت الذي تعاني فيه دول مثل مصر والأردن تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة، فإن استيعاب ملايين اللاجئين الفلسطينيين سيكون بمنزلة كارثة إنسانية وسياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه الخطوة الخطيرة ستؤدي قطعاً إلى تفاقم التوترات الإقليمية، وستكون بمنزلة شرارة لإشعال صراعات جديدة تعصف بالاستقرار الهش في المنطقة برمتها.

على الصعيد الدولي، فإن دعم ترامب فكرة التهجير القسري يهدد بتمزيق التحالفات الدبلوماسية التي بنتها الولايات المتحدة على مدى عقود. فالدول العربية التي رفضت بشدة أي محاولات لتوطين أو تهجير الفلسطينيين من غزة، عبر البيان المشترك الذي أصدره وزراء خارجية الإمارات ومصر الأردن والسعودية، قطر،لن تقف مكتوفة الأيدي، وقد تضطر إلى إعادة تقييم علاقاتها مع واشنطن، ما قد يؤدي إلى تحولات جيوسياسية كبرى في المنطقة.

الحفاظ على الحقوق الفلسطينية:

بدلاً من الدفع نحو سياسات التهجير والتطهير، يجب على أمريكا التي تدعي أنها زعيمة ما يسمى "العالم الحر"،ومن ورائها المجتمع الدولي، أن تركز على معالجة الأسباب الجذرية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتي لم تعد تخفى حتى على عوام الناس في الشرق والغرب. والحل الحقيقي يجب أن يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وأن يتوافق مع مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان. ويجب أن تكون الجهود الدولية موجهة نحو إنهاء الاحتلال الغاشم، ووقف التوسع الاستيطاني، وإيجاد ظروف تسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس؛ وقد أكدت الدول العربية تطلعها للعمل مع إدارة ترامب على إيجاد حل الدولتين في الشرق الأوسط، ولكنها ترفض بشدة فكرة إعادة توطين الفلسطينيين خارج وطنهم.

الخلاصة: أن اقتراح ترامب لا يبدو أنه مجرد سياسة قصيرة النظر، بل هو مخطط خطير، وقد يكون جزءًا من مؤامرة تُحاك لتصفية القضية الفلسطينية بشكل ممنهج. وهو دون شك انعكاس لنهج يضع المصالح السياسية الضيقة فوق مبادئ العدالة والإنسانية، متجاهلًا الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ومتسببًا في تهديد الاستقرار في المنطقة بأكملها. لذلك، فإن رفض هذا المخطط ليس مجرد موقف سياسي، بل هو واجب أخلاقي وقانوني على كل دول العالم، وكل من يؤمن فعلا بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبالعدالة الدولية، إن بقي هناك شيء من هذه العدالة.


رابط دائم: