فطــرة الخلـق وسحر الآلـة .. وصناعة نصف الحالة
29-1-2025

مها محسن
* كاتبة مصرية

تصنف مصر بأنها دولة زراعية ذات حضارة قائمة فى الأساس على الرى والزراعة، رغما عن تصنيفها الحالى كدولة تعانى من الفقر المائى، وهذا أمر آخر مآله إلى ازدياد وتنامى عدد السكان مقابل الاحتفاظ بنفس نسبة حصتها فى مياه النيل، تماما كمعاناتها فى محاولة سد الفجوة بين ازدياد عدد المواليد من ناحية، والخدمات الصحية والأمنية والتعليم والنقل والإسكان والصناعة، إلى آخره من ناحية أخرى.

من قطاع الزراعة انتقل المصرى القديم إلى التصنيع، فصنع أدوات الزراعة وأدوات الصناعة، والملابس والأوانى وأدوات الزينة والسجاد، الذى -على سبيل المثال-تشتهر به قرية "أبو شعرة" فى محافظة المنوفية، ويعمل نحو 80% من سكانها فى تضفير الخيوط لنسج أكبر كمية من السجاد والكليم يوميا للوفاء بمتطلبات العملاء فى الداخل والخارج.

أيضا، لا يمكننا أن نغفل صناعة الرخام، ولمصر فيه باع كبير وعظيم ومكتظ بروائع الصناعات.  فالمصرى القديم بالغ فى الصناعة فشيّد الجدران وسجّل ذلك على جدارياته ومسلاته الخالدة حتى الآن بكل فخر واعتزاز، وأبدع فى صنع التوابيت والتماثيل وحتى الأدوات الشخصية، مدللا على قدرته وعظمته ومدونا لكل تفاصيل الحياة آنذاك من زراعة وصناعة وتجارة، ومظاهر للحياة الاجتماعية والطقوس الدينية وتطبيق للعلوم وممارسة للفنون والآداب.

وقد أكمل المسيرة المصرى الحديث بكل فخر من خلال الصناعات الرخامية، باكورة إنتاج "مدينة كنوز مصر"، القابعة بهضبة الجلالة، حيث هي أكبر منشأة للرخام والجرانيت فى العالم، وتحتوى على 24 رافعة جسرية، و96 منشارا ثقيلا، و80 قاطعا للبلوك، و8 خطوط معالجة إيبوكسية برجية، و24 خطًا لمعالجة الألواح، و24 لمعالجة الأشرطة، بالإضافة إلى ورش العمل التى تحتوى على 16 مركز ينفث الماء، و16 مركز CNC،وخطوط الاشتعال والرمل للألواح والشرائح.

هذا وتقوم المدينة بصناعة 40 منتجا مختلفا، وتصنع 80 ألف متر مربع يوميا، بمعدل 29.2 مليون متر مربع سنويا، ويعمل بها 1830 عاملا وموظفا، علما بأن شركة كنوز مصر للنماذج الأثرية تعتبر أول شركة فى مصر والشرق الأوسط لإنتاج واستنساخ الآثار المصرية القديمة، بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار.

لهذا، فإن مصر تعتبر رائدة فى العالم بأكمله فى قطاع الصناعات اليدوية منذ الأزل، حيث ​تمتلك إرثا تاريخيا من السلع الحرفية والإبداعية. وتعتبر الحرف اليدوية فى مصر عنصرا أساسيا فى الصناعات الوطنية، ولم ينقطع عنها وصل الصناعة أبدا، أبدع فيها المصرى القديم أيما إبداع إلى الدرجة التى جعلت من انبهار العديدين أن يبلغ حد الاتهام والافتراض بأن المصريين القدماء كانوا إما سحرة، أو استغلوا الكائنات الفضائية فى عمليات البناء والرفع الخاصة بهم.

حدث هذا، حتى إن الوالى الألبانى، محمد على فى عهد الدولة العثمانية أيضا، قد وجّه وأشرف بنفسه على عملية نقل أمهر الصُنّاع فى مختلف المجالات إلى العاصمة العثمانية، ومنها إلى باقى المدن، فى أشهر وأكبر عمليات توطين للصناعات ومنحها جنسية أخرى بغير جنسيتها الأصلية، حتى إن العديد قد لا يعلم أن حِرَف كالسقّا والبنّا والإسكافى والحانوتى والحداد والنجار، هى جميعها فى الأصل حرف مصرية بجدارة.

من فرط تسابق بنى الإنسان على التجويد فى صناعة الآلة المُنتِجة توفيرا للوقت والجهد-وهى التى لا تقارن بأية حال بصنع الإنسان ذاته كمُنتِج للحرف اليدوية- فقد بلغت ذروة غرور الإنسان فى قدراته وصناعاته بأن صنع الإنسان نفسه –حاشا لله وقدرته- لكنها بلغة العصر أنه استنسخ من ذاته نسخة أو بالأحرى مُسخة، تماما كالروح الشيطانية التى تتملك من دمى الأطفال فى أفلام هوليوود.

هذا الأمر الذى جعل من موقع "سكاى نيوز" يكتب موضوعا عن الاستنساخ عام ،2012 يقول فيه إن "الآباء الذين فقدوا أطفالهم فى الحوادث سيتمكنون من استنساخ نسخة منهم خلال الأعوام الـ50 المقبلة"، وهذا عين ما توقعه العالم البريطانى السير/ جون جوردن - الحائز جائزة نوبل للطب فى العام نفسه، والمشهور باستنساخه للنعجة دولى عام 1996.

بعد الاستنساخ، تنامت المنافسة الشرسة بين قطبى الصناعات التكنولوجية فى أقصى الشرق وأقصى الغرب، حيث عرضت الشركات الصينية فى أغسطس الماضى روبوتات شبيهة بالبشر تعزف على آلة القانون أو تلتقط المشروبات الغازية، فى حين قدمت شركة تسلا الأمريكية الروبوت "أوبتيموس" الخاص به داخل صندوق شفاف، بلا حراك بجوار سياراته، ما ينذر بمنافسة قوية فى صناعة الروبوتات بين الصين والولايات المتحدة.

من جانبه، زعم إيلون ماسك أن أوبتيموس يمكنه طى الغسيل، وفى يوم من الأيام سيقوم بالطهى أو التنظيف أو تعليم الأطفال، التكنولوجيا التى يروج لها يمكن أن تمنح تسلا أرباحا تقدر بقيمة قدرها 25 تريليون دولار، ويقول ماسك إن الشركة تخطط لاختبار الروبوتات البشرية فى مصانعها العام المقبل، ومن غير الواضح مدى قدرتهم على الأداء فى الوقت الحالى.

فى الوقت نفسه، أعلن المؤتمر العالمى للروبوت، الذى بدأ فى نفس الشهر فى بكين، أن 27 روبوتا بشريا ظهروا لأول مرة فى هذا الحدث، وهو رقم قياسى. وعلى غرار اندفاع البلاد نحو السيارات الكهربائية قبل بضع سنوات، تتدفق الأموال والموارد الآن على تطوير الروبوتات الشبيهة بالبشر.

ورغما عن المنافسة العنيفة تلك، لم تألُ الدولة المصرية جهدا فى محاولة مواكبة حركة التطوير الحادثة حول العالم فى مجال تصنيع الروبوتات والاستعانة بهم فى قطاعات مختلفة، فقد أعلنت مثلا الجامعة المصرية-اليابانية للعلوم والتكنولوجيا عام 2020 نجاح فريق بالجامعة بتصنيع أول روبوت مصرى صناعى بمواصفات عالمية باستخدام مكونات محلية أقل تكلفة من مثيله المستورد وأكثر كفاءة.

ويستخدم الروبوت نظام توازن يقلل بشكل دراماتيكى الطاقة المستهلكة لتشغيل الروبوت، ويتيح استخدام محركات صغيرة، ما يقلل تكلفة الروبوت ويجعله منافسا قويا للروبوتات الصناعية المستوردة الموجودة بالأسواق، وهم ما يمكن استخدامه فى قطاعات صناعية متعددة، مثل الغذائية، والبلاستيكية، والأجهزة المنزلية والسيارات، بما يشجع الكثير من المستثمرين المصريين لاستخدامه فى تحديث الصناعة المصرية، لأنه أقل تكلفة وتتوافر قطع غياره وصيانته بالسوق المحلية.

كما أطلق طلاب الهندسة فى جامعة المنصورة عام 2021 أولى تجاربهم العملية للروبوت المصرى Biomixالطبى فى أحد المراكز الطبية التابعة لمحافظة القاهرة، وهو الذى حصلوا به على المركز الأول فى بطولة مصر المفتوحة للروبوت التى تنظمها الجمعية العربية للروبوتات.

لهذا الروبوت العديد من الاستخدامات الطبية، منها المساعدة فى نقل الأدوات الطبية داخل المستشفيات والمراكز الطبية، ونقل الوجبات للمرضى، كما أن الروبوت مجهز بالعديد من الخصائص الأخرى التى تسهم فى تقديم الخدمات الطبية، ومنها تسجيل بيانات وسجلات المريض،ونظام المؤشرات الحيوية التى تسهم فى معرفة درجات الحرارة وضغط الدم ومعدل السكرى للفرد، وذلك من خلال الأشعة تحت الحمراء من دون الاستعانة بعينات للدم، وتعمل هذه الخصائص باستخدام الذكاء الاصطناعى.

كما تمكن فريق مكون من ست طلاب بكلية الهندسة جامعة أسيوط عام 2022، من صناعة روبوت يعمل بالماء وحصدوا به على المركز الخامس فى مسابقة SDCالعالمية التابعة للمنظمة الأمريكية العالمية لمهندسى الميكانيكا فى العالم، التى انعقدت بالولايات المتحدة، حيث طلبت المسابقة تصميم روبوت أو عربة تعمل بمصدر طاقة نظيف ومتجدد، سواء اعتماد كلى أو جزئى، وسواء كان المصدر طاقة شمسية أو هواءً أو ضغطا أو مياهًا أو غيره.

وعليه، اعتمد الفريق فى الفكرة التى نفذها على تحويل طاقة السكون للمياه إلى طاقة حركة للعجلات، وذلك عن طريق نزول المياه من الخزان أعلى توربين الحركة ولفها، يكون فيها التوربين متصل بصندوق، والصندوق متصل بدوره بالإطارات فيحركه، فبعد نزول المياه كلها فى الخزان السفلى، يمكن فتح المحبس لإفراغ المياه ووضع كمية بديلة لها فى الخزان العلوى وإعادة الدورة، وهكذادواليك.

وقد أشاد القائمون على المسابقة بالروبوت الذى صنعوه طلبة جامعة أسيوط، ووصفوه بالمفيد فى تقليل استخدام مصادر الطاقة الملوثة للبيئة، واستخدام مصدر متجدد ومتوافر ورخيص، مثل المياه للحركة، وهذا هو هدف المسابقة بالأساس.

التعمق فى قراءة الماضى يخبرنا بأن معارك الماضى القريب كانت معارك بين البشر وبعضهم بعضا على أرض بحدود مشتركة، فهل تصبح معارك المستقبل القريب هى معارك بين الروبوتات وبعضهم بعضا فى عالمٍ افتراضى لا واقعي أم أن نعتبرها معارك فى مجملها افتراضية أيضا؟

صناعات نصف الحالة التى لا هى بشر ولا هى آلة، تضع البشرية فى مأزق، وليس لها من أمرها شيئا. فمعايير الصناعة العابرة للحدود لا يمكنك فيها وضع دستور يقر بمعايير لقيم ولا أخلاقيات إنسانية، فالقرار لُصناع القرار، وواضعى خريطة المستقبل الافتراضى، والراغب فى اقتناص مستقبله، يجب عليه أن يصنع حاضره.

 


رابط دائم: