"الذكاء الاصطناعي الطليعي".. إلى أين نحن ذاهبون؟
29-1-2025

د. خالد وليد محمود
* باحث متخصص في السياسة السيبرانية

منذ إطلاق "تشات جى بى تي" فى نوفمبر 2022، أصبح من شبه المستحيل على صناع السياسات مجاراة الإيقاع المتسارع للابتكار فى عوالم الذكاء الاصطناعى. ومع ذلك، فإن هذه الثورة التقنية لا تزال فى مراحلها الأولى، إذ شهدت السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا فيما يُعرف بـ "الذكاء الاصطناعى الطليعى "(Frontier AI)، الذى يتميز بقدرات متقدمة على إنشاء الصور والصوتيات ومقاطع الفيديو، فضلًا عن توليد "أكواد" البرمجة والتعامل مع اللغات الطبيعية بطرق غير مسبوقة.

هذا الأداء الاستثنائى – بدون شك- دفع مختبرات الذكاء الاصطناعى إلى تسريع جهودها نحو تحقيق مفهوم "الذكاء الاصطناعى العام (AGI)"، وهو المستوى الذى يمكن عنده للذكاء الاصطناعى محاكاة الإدراك البشرى والتكيف مع مهام جديدة من دون الحاجة إلى تدريب محدد مسبقًا. هذا التوجه يرافقه أسئلة جوهرية- وحتى وجودية- عن تداعيات هذا التقدم على المجتمعات والأفراد حول آثاره فى الاقتصاد والأمن السيبرانى، وحتى مستقبل العمل، ما يفرض تحديات غير مسبوقة على صانعى القرار الذين يسعون إلى وضع أطر تنظيمية تتماشى مع هذا التطور السريع، كما يثير مخاوف عميقة بشأن مخاطره الأخلاقية والاجتماعية.

أحدث مواقف التحذير جاءت من الفاتيكان مؤخرًا، الذى دعا الحكومات إلى مراقبة تطور الذكاء الاصطناعى عن كثب، مشيراً إلى أن "ظل الشر" يمكن أن يتسلل عبر هذه التكنولوجيا. ففى وثيقة جديدة، وافق عليها البابا فرنسيس، أكد الفاتيكان أن المعلومات المضللة الناتجة عن الذكاء الاصطناعى قد تقوض أسس المجتمع، ما يستدعى تنظيماً دقيقاً لهذه التكنولوجيا. بالتالى، يرى أن قدرة الذكاء الاصطناعى على تضليل المجتمعات وتأجيج الانقسامات السياسية قد تكون أحد أخطر التحديات التى تواجه البشرية.

فى المقابل، يتقدم الذكاء الاصطناعى بخطوات متسارعة فى مناطق أخرى من العالم، حيث حققت الصين اختراقاً كبيراً فى هذا المجال من خلال تطبيق “ديب سيك DeepSeek”، الذى أصبح الأعلى تصنيفاً على متجر "أبل" فى الولايات المتحدة. لم تكن هذه القفزة مجرد إنجاز تقني، وإنما تحدٍ صريح للهيمنة الأمريكية على قطاع الذكاء الاصطناعى. اللافت أن هذا الإنجاز تم تحقيقه بميزانية متواضعة لم تتجاوز ستة ملايين دولار، فى وقت تنفق فيه الشركات الأمريكية الكبرى مليارات الدولارات لتطوير نماذج مشابهة.

جاء النجاح الصينى فى هذا المجال باستخدام موارد محدودة وشرائح تقنية كانت الولايات المتحدة قد فرضت قيوداً على تصديرها. ورغم ذلك، استطاعت شركة “ديب سيك” التفوق على شركات، مثل "أوبن إيه آي" و"جوجل ديب مايند"، ما أثار قلق المستثمرين الأمريكيين وأدى إلى خسائر فادحة لشركات التكنولوجيا الكبرى. مثلًا، شركة "إنفيديا" فقدت 593 مليار دولار من قيمتها السوقية، وهو ما يعادل الناتج المحلى الإجمالى لدول، مثل السويد أو بلجيكا. هذه الخسائر الهائلة دفعت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى وصف التطور الصينى بأنه "جرس إنذار" للشركات الأمريكية فى وادى السيليكون.

يُبرز هذا التطور كيف أن القيود الأمريكية على تصدير "الرقائق المتقدمة" -التى تستخدم عادة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى- لم تمنع الصين من تحقيق تقدم فى هذا المجال. من المثير للاهتمام أن فريق "ديب سيك" استطاع بناء نموذج قوى بتكلفة منخفضة نسبياً، ما يشير إلى قدرة الشركات الصينية على التكيّف مع التحديات التقنية واستغلال الموارد المتاحة بكفاءة.

كما بات مسلمًا به أن الإنجازات فى مجال الذكاء الاصطناعى ليست محصورة فى الجوانب التقنية والاقتصادية، فهى تمثل فى جوهرها أدوات ثورية قادرة على تغيير طبيعة العمل والبحث العلمى والتعليم. ومن المتوقع أن تعزز هذه الأدوات اقتصاد المعرفة بشكل غير مسبوق، حيث يمكن للباحثين والأكاديميين وصناع القرار والصحفيين والأطباء الاستفادة منها فى تحليل البيانات واستخلاص النتائج وصياغة التقارير.

ورغم ذلك، يظل الجانب المظلم لهذه التكنولوجيا مصدر قلق كبيرًا. يمكن أن تؤدى هذه الأدوات إلى انحيازات واضحة فى البيانات التى يتم تدريبها عليها، ما ينعكس فى نتائج تمييزية أو مضللة عند استخدامها فى الواقع، فضلًا عن مخاوف بشأن فقدان الوظائف التقليدية، مثل الكتابة، والبرمجة، والتسويق، وحتى المهن القانونية. هذا السيناريو قد يعمق الفجوة الاجتماعية ويزيد من معدلات البطالة، خاصة فى المناطق التى تعانى بالفعل من ضعف البنية التحتية الرقمية.

من زاوية أعمق، يثير الذكاء الاصطناعى تساؤلات وجودية تتجاوز حدود الابتكار التقنى لتلامس جوهر العلاقة بين الإنسان والآلة. فإلى أى مدى يمكن لهذه التكنولوجيا أن تتطور قبل أن تصبح تهديدًا لصانعها؟ المسألة لا تتعلق فقط بسرعة التقدم، وإنما أيضًا بإمكانية فقدان السيطرة على الأنظمة الذكية، خاصة مع اقترابها من مستوى "الذكاء الاصطناعى العام"(AGI)، حيث تصبح قادرة على التفكير والتكيف المستقل من دون الحاجة إلى تدخل بشرى مباشر.

هنا، يبرز "التزييف العميق  "(Deepfake)بوصفه تحديًا جوهريًا لمصداقية البحث العلمى والإعلام وصناعة القرار. فقد أصبح من الممكن إنتاج مقاطع فيديو وصوتيات مزيفة ذات دقة عالية، ما يخلق بيئة يمكن فيها التلاعب بالحقائق وإعادة تشكيل الواقع بطرق قد تؤدى إلى زعزعة الثقة بالمصادر الرسمية وإثارة أزمات اجتماعية وسياسية غير مسبوقة.

ومع استمرار المختبرات والشركات فى توسيع قدرات الذكاء الاصطناعي، تزداد الحاجة إلى أطر تنظيمية وأخلاقية تضمن توجيه هذه التقنيات نحو خدمة البشرية، بدلًا من أن تتحول إلى أداة قد تفلت من السيطرة، ما يفرض تحديات غير مسبوقة على صناع القرار فى مختلف المجالات.

تأسيسًا على ما تقدم، لا يمكن اختزال الذكاء الاصطناعى فى كونه مجرد أداة تقنية، بل هو اختبار عميق للقيم الأخلاقية والتوازنات الاجتماعية فى العالم الحديث. يكمن التحدى الحقيقى فى كيفية تسخير هذه الثورة التكنولوجية لتحقيق التقدم من دون المساس بالأسس التى تقوم عليها المجتمعات. لكن التساؤل لا يقتصر على المخاطر والفرص، بل يمتد إلى موقع الدول العربية ضمن هذه التحولات: هل ستكون هذه الدول قادرة على تجاوز دور المستهلك لتصبح طرفًا فاعلًا فى تطوير الذكاء الاصطناعى أم أن الفجوة الرقمية ستتسع، ما يعمّق التبعية التقنية ويحدّ من تأثيرها فى صياغة مستقبل هذه التكنولوجيا؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لن تحدد فقط شكل النظام التكنولوجى العالمى، وإنما ستعكس أيضًا مدى قدرة العرب على حجز موقع مؤثر فى خريطة الابتكار الرقمى.

ختامًا، فى ظل القدرات التحويلية الهائلة للذكاء الاصطناعي، ستتمكن الدول التى تتقن الابتكار، وتعزز تكاملها الرقمي، وتستثمر بفاعلية فى تقنيات "الذكاء الاصطناعى الطليعى"، من تحقيق مكاسب استراتيجية بعيدة المدى، إذ لا تقتصر هذه المكاسب على العوائد الاقتصادية فحسب، وإنما تمتد إلى مجالات الأمن والدفاع والسياسة، حيث يمتلك الذكاء الاصطناعى القدرة على إعادة رسم موازين القوى وإحداث تحولات جوهرية فى المشهدين الإقليمى والدولى، ما يجعل الاستثمار فيه ضرورة استراتيجية، لا مجرد خيار تكنولوجى.

 


رابط دائم: