شبكة المصالح المعقدة فى المسألة السورية
16-1-2025

إيرينى سعيد
* صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية

ربما اعتبرت من أكثر الملفات الإقليمية تعقيدا، ولولا التاريخ الجذرى لفلسطين وإشكالياتها، لتمكنت المسألة السورية من تصدر المشهد العربى والإقليمى كأكثر الملفات تداخلا وتشابكا، على خلفية تداخل المصالح الإقليمية والدولية وتقاطعها، وحتى وقت ليس ببعيد كنا ندون عن سوريا كونها المنطقة الخاصة بتصفية النزاعات الإقليمية والدولية، فأى طرفين لديهما حسابات مشتركة أو متداخلة فعبر سوريا يتم تسويتها.

غير أن التحولات الاستراتيجية الأخيرة كشفت عن شبكة معقدة من الحسابات بين الأطراف اللاعبة، مفادها أن سوريا تتمخض وقد تتجاوز تداعيات هذا المخاض مجرد الولادة الطبيعية سواء تحالفات أو انقسامات إلى معادلة مرتقبة من شأنها إما إعادة البوصلة السورية إلى الطريق السليم عبر الامتثال الدستورى والسياسى وفى ضوء بعض البنود المهمة للقرارات الأممية المتعارف عليها بشأن سوريا وأبرزها القرار 2254، أو ربما انزلاقها إلى أنفاق الحروب الأهلية وسيطرة الجماعات المسلحة، فى مشهد ربما يقترب كثيرا من أفغانستان وغيرها من دول وأقاليم طالما أشعلتها الطائفية وتداعياتها.

سياقات المشهد:

يدفعنا غياب الرؤية تجاه كيفية بناء نظام سياسى سورى ديمقراطى ومعاصر، سيما مع إجادة زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع -الملقب بالجولانى- مهادنة كافة الأطراف الخارجية، سواء الولايات المتحدة والتى استقبل مبعوثيها الأيام الماضية، فى مؤشر واضح على اعتماد واشنطن الشرع لتصدر المشهد السورى، وتبعات ذلك حول احتمالية رفع الهيئة من على قوائم الإرهاب، أيضا تراجع الولايات المتحدة عن المكافأة المخصصة لتسليم الزعيم نفسه، غير أن انتهاج الجولانى السياسات نفسها مع تركيا والتى استقبل وزير خارجيتها مبديا تفاهمات بعينها مع أنقرة، برزت فى تعهد تركيا بدعمه ومحاربة الإرهاب وأى محاولات من شأنها عرقلة الجماعات المسلحة وخططها المقبلة! ولم يتوقف الشرع عند واشنطن وأنقرة ليتجه ناحية الجيران العرب سواء لبنان والتى تعهد أمامها بوقف التدخلات السورية، أو حتى الأردن والإمارات.

وربما إجادة الشرع تسويق نفسه سياسيا مع مغازلة الأطراف كافة، أسهم فى خفوت الأحاديث عن حتمية إقامة نظام سورى على أسس ديمقراطية معاصرة، وهنا يطرح تساؤل مهم حوّل شكل آليات بناء النظم الديمقراطية الحديثة.

بشكل عام عرف ديفيد إيستون D.Eastonالنظام السياسى كونه التخصيص السلطوى للقيم، لكنه ارتأى أن هذا النظام يعمل معتمدا على محورين أساسيين، هما البيئة الداخلية وما تحويه من تفاعلات وانصهارات بين الحكام والمحكومين، والبيئة الخارجية وما تتعرض له من تقلبات إقليمية ودولية وربما تصنف الدول كونها ديمقراطية، حال ما انتهجت مجموعة من المؤشرات فى مقدمتها التوازن بين سلطاتها، وعملا بمبدأ المفكر الفرنسى مونتسكيو، والذى ارتأى ضرورة الفصل بين السلطات، ولا سيما التشريعية والمعنية بوضع القوانين وصياغتها، والتنفيذية والمسئولة عن تنفيذ هذه القوانين، مع بقاء السلطة القضائية مستقلة وثمة عدة أسس تحكم مبدأ الفصل بين السلطات:

- الرقابة تجاه عمل السلطات:

تتماشى الرقابة ومبدأ الفصل ما بين السلطات، أيضا عملية التوازن بين هذه السطات، سواء تشريعية، أو تنفيذية وحتى استقلال القضائية، ومن ثم تمارس كل سلطة مهامها وبما لا يتعارض مع الأخرى، وبحيث تتحقق مبادئ الحريات العامة وحقوق الأفراد.

- سيادة مضامين الشرعية:

يقتضى الفصل بين السلطات سيادة مضامين الشرعية، عبر تنفيذ القانون وأحكامه، فالجميع سواسية أمام القانون، وبحسب أيضا التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ومن أجل سيادة القانون، وبما يتفق ومعايير النظم السياسية الديمقراطية المعاصرة، وهنا يمكن القول إن النظم السياسية تنقسم إلى نظم سياسية رئاسية ونظم سياسية برلمانية، وهذه النوعية من النظم السياسية تتبع مبدأ الفصل بين السلطات، فى حين أن هناك نظما سياسية لا تتبع هذا المبدأ، وهى التى تعرف بالنظم السياسية الديكتاتورية.

- التخصص وتقسيم العمل:

طبقا لهذا المبدأ المهم، تنقسم الوظائف العامة للدولة، إلى وظائف تشريعية وأخرى تنفيذية، وأيضا وظائف قضائية مستقلة، ما يسهل إجادة المهام طبقا لصلاحيات ومهام السلطات ثمة ثلاثة أنواع تتنوع فيما بينها النظم السياسية لمختلف الأقطار والأقاليم:

(1) النظام الرئاسي:

يقتضى النظام الرئاسى الفصل التام بين السلطة التنفيذية وتتكون من رئيس الجمهورية ووزرائه، والسلطة التشريعية التى تتكون فى الغالب من مجلسين أحدهما للشيوخ والآخر للنواب -على حسب نظام الدولة، حيث تتفرغ التشريعية إلى سن القوانين وصياغة نصوصها، فى حين تعمل التنفيذية على تطبيق هذه القوانين، وطبقا للنظام الرئاسى، لا يحق للرئيس حل البرلمان أو تأجيل انعقاده، أو حتى سلطة إصدار مشروعات القوانين، وأبرز سماته:

1- وجود رئيس للبلاد منتخب، له حق الانفراد بالسلطة التنفيذية.

2- الفصل التام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

3- كلتا السلطتين تتمتعان بالقدر نفسه من السلطة.

4- لا يحق للرئيس محاسبة البرلمان أو إقالته، كما لا يحق للبرلمان محاسبة الرئيس.

(2) النظام البرلمانى:

على العكس من النظام الرئاسى يأتى النظام البرلمانى، الذى يحتم التعاون التام بين السلطتين التنفيذية -موزعة بين رئيس الدولة والحكومة - والتشريعية - البرلمان بمجلسيه-، أى إن الحكومة مسئولة مسئولية كاملة أمام البرلمان، فله حق سحب الثقة من الحكومة إن لم يقبل ببرنامجها، كما أن للسلطة التنفيذية الحق فى حل البرلمان، وهو ما يكفل خلق حالة من التوازن بين السلطتين، طبقا للنظام البرلمانى لرئيس الجمهورية الحق فى إصدار القوانين، وحل البرلمان، وتعيين الوزراء، وتسمية القضاة، كما يعد النظام البرلمانى نتاج التطور السياسى للأنظمة الملكية الأوروبية، وأبرز ما يميز هذا النظام:

1- السلطة التنفيذية موزعة بين الرئيس والحكومة.

2- وجود المسئولية الوزارية بين السلطتين، فكلاهما مسئول أمام الآخر.

3- للبرلمان الحق سواء فى منح الثقة أو سحبها من الحكومة، بناء على البرنامج المقدم من قبلها.

4- للحكومة الحق فى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.

(3) النظام شبه الرئاسي:

هو النظام الذى يجمع سمات النظامين السابقين، حيث يعين الرئيس بالاقتراع العام المباشر، ومن ثم يخول له ممارسة صلاحيات لا تحتاج إلى توقيع الوزارة، وربما يتشابه مع النظام البرلمانى، فى أن السلطة التنفيذية مركزة بيد الرئيس والحكومة، وأن الحكومة مسئولة أمام البرلمان، وبالتالى يحق له سحب الثقة ومحاسبتها، فى حين يتشابه النظام شبه الرئاسى مع النظام الرئاسى فى أن الرئيس غير مسئول أمام الوزارة، كونه منتخبا عن طريق الاقتراع العام. وعليه، إذا ما أرادت سوريا الامتثال للطريق الصحيح، وجب التحرك من خلال الأطر أعلاه، وفى ضوء مؤشرات صياغة النظم السياسية الديمقراطية والمتعارف عليها، لكن أن تتصدر الجماعات المسلحة المشهد، حتى وإن أعلنت حالة من التهادن السياسى داخليا وخارجيا، إلا أن نقص الخبرات السياسية مع عدم الاستعانة بالكوادر الوطنية، وفى ضوء تاريخ من الصراعات المسلحة وغير المنظمة، جميعها عوامل قد تدفع فى اتجاه يصعب معه عودة سوريا للسوريين.

أطراف فاعلة:

لعبت تركيا ومعها إيران دورا ملموسا فى سوريا، برز واضحا 2011 ومع اشتعال الحرب الأهلية، فبينما ساندت إيران النظام عبر الدعم السياسى والعسكرى دفعت بمئات المليارات من أجل دعم الاقتصاد السورى، ولعل بروز العداء الإيرانى الواضح، يؤشر بشكل أو بآخر إلى تراجع النفوذ الجيوسياسى لطهران فى سوريا، لكن المتفق عليه، هو أن إيران لن تترك سوريا، إيران فقط تحاول تنظيم أذرعها ومن ثم العودة بقوة، بدليل إعداد المدن الصاروخية تحت الأرض، وتم التلويح بها مؤخرا، إلا أن توجهات طهران وعقب سقوط نظام الأسد كلها تدفع فى اتجاه التصادم مع الهيئة الحاكمة وجماعاتها، حيث تواصل طهران التشكيك فى موقف هيئة تحرير الشام مسلطة الضوء على الخلافات الداخلية ما بين الفصائل المسلحة، وبحسب قادة إيرانيين "فإن هؤلاء يعتبرون أنفسهم متفوقين على باقى الفصائل المسلحة فى سوريا نتيجة استيلائهم على السلطة فى دمشق، وإذا لم توافق الفصائل الأخرى على التعاون معهم أو تسليم أسلحتها إلى الحكومة المؤقتة، فإنهم سيستخدمون القوة العسكرية لمواجهتها"، وبحسب القادة أنفسهم، فإن المواجهة المسلحة مع الحكم الجديد قادمة على خلفية موقف العلويين، الذين يمثلون أكبر أقلية دينية فى سوريا، والذين أظهروا رفضهم للتوافق مع الحكومة المؤقتة، أيضا الأكراد، الذين يُعدّون أكبر أقلية عرقية فى سوريا وصراعاتهم المسلحة، وجميعها طوائف كفيلة بتعقيد المشهد ومواصلة التوترات، عقب اختلال التوازانات الداخلية، ليصل الأمر بالمرشد الأعلى خامئنى ليصرح بأن ثمة سوريين من الشرفاء سيقاومون الفصائل المسلحة المتصدرة المشهد ومن ثم استعادة سوريا.

غير أن موقف تركيا يبدو أكثر ثقلا، عقب مجموعة من التوافقات تمكنت أنقرة من إحداثها، حيث تفرغت تركيا إلى الشمال الشرقى من سوريا لمحاربة الأكراد أو جماعات سوريا الديمقراطية، وربما يراودها العودة لاحتلال عفرين وتل أبيض وغيرها من مدن الشمال الشرقى على غرار ما فعلته 2016، ولعل التوافقات والتى تجرى ما بين أنقرة وواشطن كفيلة أن تحفظ تركيا كطرف مهم فى المعادلة السورية، حيث تسعى سوريا إلى الانفتاح على الإدارة الجديدة سياسيا ودبلوماسيا، وأيضا اقتصاديا عبر تقديم المساعدات، مستغلة التغيرات الإقليمية وتراجع النفوذ الإيرانى، والروسى أيضا، لكن يصعب تفهم الدور التركى الجديد فى سوريا، بمعزل عن التوازنات الإقليمية والمقرر الإشراف عليها من قبل الولايات المتحدة، وإن ظل التوجه الروسى تحديدا رصينا، فى انتظار صياغة المعادلات ومن ثم عودة الظهور وكطرف أصيل، سيما أن موسكو لن تفرط فى مصالحها فى سوريا أو حتى قواعدها الدفاعية والجوية سواء فى طرطوس أو اللاذقية.

الرؤية العربية تجاه سوريا:

لأن غياب الدور العربى الجماعى خلال العقد الماضى، عُد السبب الأبرز فيما آلت إليه الأوضاع، أدرك العرب ضرورة التدخل رغبة فى حماية الشعب السورى والأهم حفظ السيادة السورية، ولعل رؤية القاهرة تجاه ما يدور تأتى فى هذه الأطر، أيضا مؤتمر الرياض الذى عقد خلال الأيام الماضية وأوصى "بحتمية دعم الشعب السورى الشقيق وتقديم كل العون والإسناد له فى هذه المرحلة المهمة من تاريخه، ومساعدته فى إعادة بناء سوريا دولة عربية موحدة، مستقلة آمنة لكل مواطنيها، لا مكان فيها للإرهاب، ولا خرق لسيادتها أو اعتداء على وحدة أراضيها من أى جهة كانت"، كما بحث المجتمعون فى المؤتمر دعمهم لعملية انتقالية سياسية سورية" تتمثل فيها القوى السياسية والاجتماعية السورية وتحفظ حقوق جميع السوريين وبمشاركة مختلف مكونات الشعب السورى، والعمل على معالجة أى تحديات أو مصادر للقلق لدى مختلف الأطراف عبر الحوار وتقديم الدعم والنصح والمشورة بما يحترم استقلال سوريا وسيادتها، أخذا بعين الاعتبار أن مستقبل سوريا هو شأن السوريين، مؤكدين وقوفهم إلى جانب خيارات الشعب السورى، واحترام إرادته"، كما عبّر المجتمعون عن قلقهم "بشأن توغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا والمواقع المجاورة لها فى جبل الشيخ، ومحافظة القنيطرة، مؤكدين أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها، وذلك بحسب ما جاء فى البيان الختامى.

ختاما:

يمكن القول إن التغيرات الجيوسياسية والتى أحدثها الملف السورى وتعلقت بتراجع نفوذ وتزايد آخر، أيضا بروز تحالفات وتفكك أخرى، من شأنها أن تخلق شبكة معقدة من المصالح وبالمثل خلافات وتباعدات أيضا، وربما سوريا لا تزال تختبر من قبل الغرب، وأن المتصدرين المشهد السورى حاليا، إن لم يعتمدوا أصول النظم السياسية الديمقراطية والمعاصرة، حتما قد ينزلقوا بسوريا إلى طرق غير مرغوبة، سيما أن الشمال الشرقى لا يزال مشتعلا، وإن الدور التركى لا يزال ضالعا بشكل كبير ويجرى التفاهمات مع الكبار من أجل عودة الإحكام والسيطرة، وأن الجولان وحدودها إلى ما يقترب من دمشق بأيدى الكيان، وأن روسيا وتركيا قد ينتظرا صياغة المعادلة من أجل تبنى الأدوار، إن لم تعمل إيران على تهييج جماعات بعينها، ويبقى الرهان على الحراك العربى!


رابط دائم: