فى العاشر من ديسمبر عام 2021، اختُتمت «قمة القادة من أجل الديمقراطية» التى عُقدت فى الولايات المتحدة، وهى القمة التى ذهبت تحليلات كثيرة لمفكرين وكتاب من مختلف دول العالم فى الشرق والجنوب -وفى تقديرى- إلى أنها كانت كاشفة ولها دلالات على أن الولايات المتحدة كانت تهدف من خلفها إلى زعزعة استقرار أنظمة الحكم بها بحجة الديمقراطية، وأنها حملت التحريض على الانقسام والمواجهة بهدف تكريس الهيمنة الأمريكية. فيما ذهبت الولايات المتحدة إلى نفى كل ذلك، وأنها تسعى من ورائها إلى تكريس القيم الديمقراطية والليبرالية، وتعظيم مكاسب العدالة الاجتماعية من جهة، والدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان فى مواجهة الأنظمة التسلطية. فيما بين السرديتين، يجب علينا التوقف أمام العديد من الحقائق.
يواجه العالم فى الوقت الحاضر تحديات ومخاطر وتهديدات غير مسبوقة، ويحتاج المجتمع الدولى إلى تعزيز الوحدة والتعاون أكثر من أى وقت مضى، وذلك للتغلب على ما يعترض العديد من الدول الوطنية على صعيد التحديات الأمنية التقليدية وغير التقليدية، بالإضافة إلى تكلفة الديون التى تعيق قدراتها على المضى قُدمًا فى دفع عمليات التنمية، الأمر الذى يعظم من المخاطر على نظم الحكم بها والقدرة على التعاطى الفعال معها، وبما يمكن فى النهاية أن يكون تهديدًا فعليًا لأمنها القومى. فى الوقت نفسه، نجد أن الولايات المتحدة لا تزال متمسكة بفرض ما تصورته انتصارًا وسيادة لها كترجمة لنتائج الحرب الباردة، ومخطئ من يتصور أن السياسات الأمريكية، لفرض الديمقراطية، والقيم الليبرالية، ومبادئ حقوق الإنسان، من منظورها الضيق، قد أتت من فراغ، أو أن هذا المؤتمر الذى عُقِد حينها لا يرتبط بجذور نظرية تشكل العقيدة التى تتحكم فى عقول الساسة الأمريكيين تجاه دول العالم. فهى عقيدة بُنيت على رفض الآخر، قيمه، وعاداته، وتقاليده، وهويته، وأنها جميعًا ينبغى أن تتغير طواعية أو قسرًا لتدور فى فلك المنظومة الفكرية الغربية عامة، وخصوصيات الفهم الأمريكى لها على وجه الخصوص، لا سيما ما يتعلق بشكل نظم الحكم، وتعاطى هذه النظم مع إدارة ملفات شديدة الحساسية، خاصة طبيعة النظم الاقتصادية وقضايا حقوق الإنسان.
على أثر انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتى، وسقوط الأنظمة الموالية له فى أوروبا الشرقية، كثرت المقالات الغربية والأمريكية التى تتحدث عن نهاية التاريخ وعصر الأيديولوجيات، وأن مرحلة جديدة من شكل نظم الحكم يجب أن تسود، وتتميز بالبراجماتية وفقًا للمفاهيم الغربية بعيدًا عن الأيديولوجيات، مع سيادة العقلانية القانونية لتكون هى الحاكمة والفاصلة فى علاقات الشعوب داخل دولها، وعلاقات الدول فيما بينها.
من هنا، كان الانتشار الواسع لكتاب (نهاية التاريخ وخاتم البشر) لفرانسيس فوكوياما، الذى اعتمد فيه على فرضية الديمقراطية الليبرالية كأعلى نموذج ينتجه الفكر السياسى، والرأسمالية كأعلى نموذج ينتجه الفكر الاقتصادى. وعبر تطبيق أطروحته على مجموعة من الشواهد البشرية والعلمية، خلص إلى أن نموذج الليبرالية الرأسمالية المرتكزة على الفهم الأمريكى والغربى للديمقراطية وحقوق الإنسان هو الذى سيكون له الغلبة، فهو ينظر إلى الديمقراطية الليبرالية بوصفها نقطة نهاية التطور الأيديولوجى الذى يجب أن تنتهى إليه الإنسانية، فهى الصورة المثالية لنظم الحكم، ومتى توافقنا على ذلك، فقد وصلنا إلى نهاية التاريخ.
التاريخ الذى يقصده فوكوياما، هو المرتكز على تتبع مراحل الصراع البشرى، الذى يجب أن ينتهى حتمًا بسقوط الدكتاتورية والاستبداد وانتصار الديمقراطية الليبرالية، وتغلب الرأسمالية على الاشتراكية، وبذلك تكون دورة التاريخ قد اكتملت ووصلت إلى نهايتها. الواقع أن هذا الطرح الجدلى قد سبقه إليه العديد من المفكرين والفلاسفة منذ «أفلاطون»، أبرزهم «هيجل» مؤسس علم الديالكتيك (الجدل)، عندما أعلن أن التاريخ قد انتهى بعد معركة إيينا Iena عام 1806 بانتصار الدولة الليبرالية، وكذلك «كارل ماركس» الذى ذهب إلى أن الدولة الحرة التى عدَها «هيجل» نهاية التاريخ لم تكن كذلك.
عالم اليوم الذى حاول «فوكوياما» أن يصور أننا وصلنا لنهاية تاريخه بانتصار الديمقراطية ليبراليًا على الصعيد السياسى، ورأسماليًا على الصعيد الاقتصادى، فى الحقيقة بات عالمًا زادت فيه تهديدات السلم والأمن والاستقرار، وأصبح يقترب كثيرًا فى إدارة أزماته من حد النزاع والحروب، وتراجعت فيه معدلات التعاون. ومؤخرًا، كان هناك ثلاث أزمات مترابطة باتت سمتًا رئيسيًا لعصر الاضطراب العالمى الذى نعيشه هذه الأيام، وهى أزمة الديمقراطية الغربية، والانهيار الواضح فى تفاعلات العولمة، وصعود ظاهرة الصراع الوطنى والإقليمى والدولى. فدعوات «التحول الديمقراطى» تحت ضغوط الداخل المتأثر بفعل الضغوط الليبرالية والرأسمالية قد أثبتت معظم تجارب محاولة إنتاجه فى دول المنطقة العربية فشلها إلى الحد الذى قوضت معه فى معظم الحالات أركان الدولة الوطنية، فى هذا السياق نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف باعتبارها زعيمة الديمقراطية فى العالم، وحاملة مشعل الدفاع عن حقوق الإنسان بالتعاون مع الأنظمة الغربية الموالية لها، والتى تدور فى فلكها.
ولعل تفاعل الأحداث فى عصر العولمة أدى إلى انكشاف الديمقراطية ذاتها فى نظر جماهير الدول الغربية المختلفة باعتبار أنه تبين من الممارسة أنها لم تكن إلا ستارًا يحمى أفراد الطبقات المستغلة باستخدام شعارات نبيلة وعبارات فضفاضة، خصوصًا فى مفهوم «العولمة» ذاته الذى سوِّق للجماهير باعتباره سيحقق تكافؤ الفرص أمامها، وسيساعد الدول -خصوصًا فى الجنوب- لكى تلحق بقطار التقدم المندفع إلى الأمام بحكم شيوع المعرفة العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصالات التى غطت العالم كافة، كما كان يطرح فوكوياما، على أساس أن تقليل الفجوة الثقافية سيقود إلى ذلك.
كذلك، نجد أن المفاهيم الرأسمالية التى روج لها باعتبارها جوهر ظاهرة العولمة لم تؤد فى التطبيق العملى سوى إلى ازدياد الدول المتقدمة ثراء مقارنة بالدول النامية فى الجنوب، تلك التى زادت فيها نسبة الفقر بين السكان، بالإضافة إلى تدهور المعيشة للطبقات الوسطى والدنيا، إضافة إلى الآثار البيئية فيما يتعلق بتلوث المناخ وتهديد التنوع البيولوجى، كما كانت جائحة كورونا كاشفة للآثار الصحية وانعدام العدالة وعدم تكافؤ الفرص فى مواجهة تداعياتها.
هكذا، أصبحت جماهير المجتمعات الرأسمالية الغربية تقف مباشرة فى مواجهة النخب السياسية الحاكمة التى كانت مسيطرة تماما على مقاليد الأمور فى المجال السياسى، متحالفة فى ذلك مع كبار رجال الأعمال فى ظل ديمقراطية «نيابية» زعمت أنها تمثل مصالح الجماهير خير تمثيل. بيد أن تصاعد معدلات الركود الاقتصادى فى العديد من الدول الغربية الرأسمالية، بالإضافة إلى الضربة الساحقة التى وجهت للرأسمالية الأمريكية حين اندلعت الأزمة الاقتصادية الكبرى فيها عام 2008، واضطرت فيها الإدارة الأمريكية فى عهد «أوباما» أن تضخ عدة تريليونات من الدولارات لإنقاذ الشركات والمؤسسات والبنوك الكبرى، التى كادت تجعل الدولة الأمريكية ذاتها تعلن إفلاسها، ومؤخرًا الأزمة نفسها التى واجهتها الرأسمالية الغربية تعود لتتصدر المشهد بعد جائحة كورونا، حيث أعيد ترتيب أولويات القضايا الاقتصادية العالمية. فبعد أن كانت البطالة تتصدر المشهد، عاد التضخم ليكون فى الصدارة. ووسط الحديث عن آليات مواجهته وانعكاساته، ليس فقط على الدول المتقدمة، وإنما على الدول النامية، التى ستتأثر أشد التأثر بفعل توقف سلاسل التوريد، وتوقف عجلة الإنتاج لفترات طويلة، وزيادة الطلب على المنتجات فى الأسواق العالمية فى وقت يعجز فيه الإنتاج العالمى عن ملاحقتها، جاءت الأزمة الأوكرانية لتعمق من هذه التداعيات، وبالتالى توافرت مؤشرات على أن العالم يسير بسرعة هائلة نحو أزمة كساد عالمى، تصاحبها أزمات كبرى فى القدرة على توفير احتياجات العالم الغذائية من الحبوب وباقى المنتجات التى تتسم بضروريتها لاستمرار الحياة، وكذلك أزمات كبرى متوقعة فى مجال الطاقة والنفط والغاز.
كل ما سبق، يكشف فى الواقع أن الرأسمالية كنظام اقتصادى -دأبت الدعاية الغربية على تسويقه باعتباره أنجح المذاهب الاقتصادية- يفشل للمرة الثانية فى أقل من 25 عامًا فى التفاعل مع الأزمات الاقتصادية الكبرى، بل إن تدخل الدولة فى الاقتصاد بات هو الغالب فى إدارة النظم الاقتصادية الوطنية قاطبة، ولم تعد «السوق» هى الأداة المثلى لتنظيم الحياة الاقتصادية. يضاف لكل ما سبق تزايد معدلات «اللا مساواة» فى المجتمع الأمريكى وغيره من المجتمعات الرأسمالية، كما أثبت ذلك عالم الاقتصاد الفرنسى «توماس بيكيتى» فى كتابه الشهير «رأس المال»، حيث أوضح أن الرأسمالية، كنظام اقتصادى، قد أعلنت إفلاسها التام فى مجال المذاهب الاقتصادية الكبرى. فالاقتصادات الوطنية ستعانى -نتيجة ممارسات سياسية واقتصادية غربية، أرادت أن تسير عجلة التاريخ فى اتجاه واحد- أزمات كبرى، ما سيحملها بضغوط كبيرة.
يظل أخطر ما فى هذه التطورات هو سقوط نظرية الديمقراطية النيابية ذاتها على أساس أنها -كما تم إثبات ذلك فى الممارسة- لم تكن سوى نظام زائف لمصلحة الطبقات العليا، فى حين أن الطبقات الوسطى والفقيرة أصبحت تعانى أشد المعاناة. بعبارة أخرى، لم تعد حملات الترويج المنظمة للديمقراطية النيابية باعتبار أنها خير تمثيل لفئات الشعب المختلفة صالحة، ولذلك انقلبت الجماهير على هذه الصيغة الديمقراطية الزائفة. من هنا، نشأ الإقبال الشديد على «الشعبوية» التى يقودها سياسيون أو رجال أعمال لم يعملوا بالسياسة من قبل، وأبرزهم، والمتداول على الساحة العالمية المليونير «دونالد ترامب» الذى أصبح -عكس كل التوقعات السياسية- رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية، ومورست بحقه ممارسات أدت إلى إسقاطه فى الدورة السابقة، ممارسات يراها رواد تأليه النموذج الأمريكى غاية الليبرالية، فى الوقت الذى يعتبرها منتقدوها إثباتا واضحا لانكشافها.
فالولايات المتحدة، وهى تسعى جاهدة للتباهى بمزايا نموذجها الديمقراطى، قد كشفت عن قيود وأوجه قصور متعددة، بما يجعلنا نشير إلى أنه لا ينبغى ولا يمكن أن تكون هى النموذج الوحيد والنهائى لنظم الحكم الحديثة، أو الحقيقة المطلقة للديمقراطية وحقوق الإنسان، التى يجب أن تراعى الحقوق العادلة لشعوب العالم الثالث فى الجنوب فى الحصول على الأبعاد الشاملة للتنمية البشرية المستدامة، وفقًا لخصوصية تجربة كل دولة.
فى هذا الإطار، لا ينبغى أن نغفل عن أن الديمقراطية الأمريكية التى بناها دستور الولايات المتحدة هى نتاج للرأسمالية التى تطورت إلى مرحلة تاريخية معينة، وتمثل فقط مصالح عدد قليل من الرأسماليين وتخدمها. وليس من الصعب تفسير سبب وجود عدد كبير من الأنظمة والممارسات التى لا تلبى متطلبات الديمقراطية منذ فترة طويلة وفقًا للنموذج الأمريكى، وبالتبعية فى محاولة فرضها كنموذج للحكم على باقى دول العالم. فالحقيقة التى يجب أن نعيها أن قطاعات من الأمريكيين ذوى المستوى الاقتصادى المنخفض والجماعات المحرومة لم يتقاسموا حقًا ثمار الديمقراطية، لكنهم عاشوا على هامش الحياة السياسية لفترة طويلة، وهو الأمر الذى أدى عند محاولة فرضه على الشعوب العربية إلى تفاقم أزماتها الهوياتية واختفاء ملامح مؤسسيتها. حقيقة أخرى لا ينبغى أن نغفل عنها، وهى أن الولايات المتحدة لديها معايير مزدوجة واضحة فى تعاملها مع حقوق الإنسان، وسياسة الشارع، وحرية الإعلام. فبمجرد أن تهدد الديمقراطية مصالح الولايات المتحدة، فإنها لا تتردد فى التحرك فى الاتجاه المعاكس للديمقراطية. وهو الأمر الذى أثبتته الانتخابات الأمريكية الرئاسية أكثر من مرة، أو الحرب الأوكرانية الجارية، أو الموقف من القضية الفلسطينية، أو المواقف تجاه أزمات الدول العربية الوطنية التى دخلت فى تصنيف الدول الفاشلة بدءًا من العراق وانتهاء بسوريا، حيث إن الولايات المتحدة من المنبع قد أنهت إلى غير رجعة مقولات الرأى والرأى الآخر، وحرية التعبير، حيث إنها بكبسة على لوحة التحكم فى إدارة المواقع الإخبارية، ومواقع الفيديو، ومنصات التواصل الاجتماعى، قد قامت بعملية «نفى الآخر»، فى ممارسة عملية للإمبريالية فى أفج صورها.
جميع ما سبق، يقضى على الصورة الذهنية التى حاولت أمريكا من خلالها أن تجعل من العولمة علامتها الوطنية، متباهية فى ذلك بمزايا نموذجها الديمقراطى، وذلك فى إطار سعيها المحموم نحو فرض نظامها السياسى وقيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية بصورة قسرية على الآخرين. فليس خافيًا أن العمليات العسكرية التى شنتها الولايات المتحدة فى أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا قد أدت إلى مقتل مئات الآلاف، وإصابة وتشريد عشرات الملايين الذين تحولوا إلى لاجئين. وقد أثبت التاريخ بصورة جلية أن الديمقراطية التى صدَّرتها الولايات المتحدة إلى بعض المناطق لم تفشل فى تحقيق الرخاء والتنمية فى تلك المناطق فحسب، وإنما عمَّق فرض الديمقراطية على هذا النحو الإمبريالى لدى الكثير من الشعوب مشاعر الغضب والكراهية لهذه الديمقراطية المعولمة.
يجب على الجميع تفهم أن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بصفتهما قيمًا مشتركة نبيلة وأصيلة، هى حقوق أصيلة للبشرية كافة، هى حق لشعوب جميع الدول الوطنية، وليست براءة اختراع لعدد قليل من البلدان. ولا ينبغى على دولة ما أو مجموعة دول أن تعطى لنفسها حق التدخل فى شئون دول أخرى أو تنتهك سيادتها، تحت مزاعم «نشر الديمقراطية»، من دون مراعاة الحقوق الأصيلة لهذه الشعوب والبلدان فى صياغة شكل نظام حكمها وفقًا لسياق النسق الحاكم لبنيتها الهوياتية.
الخلاصة، أنه قد تبين مع سقوط النموذج الرأسمالى التقليدى فى الممارسة الذى كان يجرِّم تجريمًا مطلقًا تدخل الدولة فى الاقتصاد، أن تدخل الدولة قد أصبح أمرًا مفروغًا منه لمواجهة أعباء العولمة، ولم يستطع أى من علماء الاقتصاد الرأسماليين حتى الآن التنبؤ أو تحديد حجم هذا التدخل ومداه. وهكذا، أصبح العالم كله -وليس العالم الغربى فقط- مواجهًا بأزمة الديمقراطية النيابية والبحث عن بديل سياسى يحل محل الديمقراطية النيابية التى تُثار شكوك كثيرة حول فشلها فى التطبيق فى العالم الغربى، وهى ذاتها التى ثبت فشلها فى مواجهة تحديات التنمية فى دول المنطقة العربية وأوروبا الشرقية. فالأمر لا يتعلق بصدام الحضارات كما حاول أن يصوره هنتنجتون، لكنه يتعلق بالرغبة فى فرض نموذج أحادى لا يراعى الخصوصية الثقافية والمجتمعية المناقضة له، والضغط بكل آليات القوة الممكنة لجعلها تسير فى ركابه، وهو الأمر الذى تم تصويره وتسويقه كصدام للحضارات لتبرير السياسات الغربية.
وفق ما سبق، بات من المؤكد أن عصر التكنولوجيا السيبرانية وانعكاساته على التدفق المعلوماتى الاحتكارى الغربى قد أصبح له تأثيره الكبير فى تشكيل، بل وغياب، الوعى لدى المواطن فى الجنوب، وهو ما يؤثر سلبًا بدرجات مختلفة فى الأمن القومى. فالوعى قضية حاسمة ومحورية فى بناء الأمم، وحماية نسيجها الوطنى، وإدراك محيط تهديداتها وتحدياتها، وهو بذلك ضرورة وجودية لضمان بقائها. وإذا تمكنا من بناء الفرد الواعى بذاته وواقعه، عبر تحصين أمنه الثقافى والاجتماعى، فإننا نكون قد ضمنا أهم عناصر النجاح على الطريق الطويل لتحقيق التنمية الشاملة، فبناء الإنسان الواعى المثقف هو قضية الحاضر والمستقبل.
لذا، أصبحت قضية الوعى والبحث فى كيفية اختراقه هى المحرك لكثير من التغييرات الإقليمية التى تمت تحت شعار ما يسمى «الربيع العربى»، حيث تمت أكبر عملية تزييف للوعيين العربى والمصرى. تزييف تضافرت فيه جميع عوامل التخلف العربى الثقافى والإعلامى، إلى جوار أدوات التفوق التكنولوجى السيبرانى، التى تم تسخيرها -من قبل القوى الكبرى المستهدفة للإقليم- لعملائها الذين يخوضون حربها بالوكالة. وكانت النتيجة المأساة، التى تعيشها الشعوب والدولة الوطنية العربية فى ليبيا، وسوريا، واليمن، والمستمرة منذ عام 2011 وحتى الآن، فضلًا عن العراق منذ عام 2003، والقضية الأم للدول العربية «فلسطين».
الوعى وتطورات الإقليم:
نحن اليوم أمام اختبار جديد لمدى نمو هذا الوعى وقدرته على الصمود، عبر ما اكتسبه من خبرات السنوات الأربع عشرة الماضية. فالتحديات والمخاطر والتهديدات تتزايد حدتها وتتعاظم انعكاساتها وتتشابك أطرافها. فالوطن العربى يمر اليوم بمرحلة جديدة من الاستهداف، ويرمى أهل الشر من ذلك إلى إحياء آمالهم فى استهداف مركز الثقل العربى مرة أخرى، ممثلاً فى جمهورية مصر العربية. ولم لا وقد مكنت ثورة 30 يونيو الشعبية -وما أفرزته من نتائج على الصعيدين الداخلى والخارجى- الدولة المصرية من العودة لكى تكون مركز الثقل الإقليمى، ومن ثم لعب الدور المؤثر عبر سياسة خارجية نشطة ورشيدة، قوامها التوازن الاستراتيجى فى إدارة الملفات مع جميع الدول وداخل المنظمات الإقليمية والدولية، والإسهام فى فرض المبادئ الثابتة لسياستها الخارجية التى باتت علامتها الوطنية فى مختلف قضايا الإقليم، حماية للشعوب والدولة الوطنية ومقدراتها ومؤسساتها، وكذلك توفير الدعم الكامل لبرامج التنمية البشرية المستدامة.
على ما يبدو أن اتجاه الإقليم نحو الاستقرار لم يأت على هوى من يضمر الشر لهذا الوطن. فالمخطط الذى بدأ عمليًا فى عام 2011 وفعليًا قبله بسنوات طويلة منذ تحقق النصر فى حرب السادس من أكتوبر، لمصلحة تفتيت الدول العربية، وتحطيم الجيوش الوطنية الكبرى، آن له أن يكتمل.
من هنا، شهد الإقليم، وبالتحديد المحيط الاستراتيجى المباشر فى الدائرتين الرئيسيتين للأمن القومى المصرى، تصعيدًا غير مسبوق طوال العام السابق. وبذلت مصر جلّ جهودها لمحاولة احتواء تدهور الأمور، والعمل على الحد من تصعيدها، وبصفة خاصة فى ليبيا، والسودان، وفلسطين بحكم ما يمثله أى انهيار أو انزلاق نحو المزيد من الفوضى والعنف والصراع، من تهديد مباشر للأمن القومى المصرى. كذلك، استمرت الجهود المصرية الرامية إلى التوصل لتسويات سياسية لأزمتى اليمن وسوريا -قبل التطورات الأخيرة- وحتى بعدها، حيث أكد الرئيس السيسى على تمسكه بوحدة الأراضى السورية، وأهمية الحفاظ على السيادة السورية الكاملة، والحفاظ على مقدرات الدولة والشعب، وحتمية التوافق على المستقبل السورى وفقًا لمطالب وحق شعبه فى تقرير مصيره، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، والمؤتمرات التى انعقدت فى هذا الشأن.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فالموقف المصرى ثابت، ويتمسك بمبادرة السلام العربية، وأنه لا تسوية من دون الإقرار بحل الدولتين، وإعلان القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وضمان حق اللاجئين فى العودة إلى أراضيهم، مع انسحاب إسرائيل من كامل الأراضى العربية قبل عدوان الخامس من يونيو 1967. ينطلق هذا الموقف المصرى الثابت من قضية فلسطين من إدراك وفهم أن هذه القضية هى المفرخة لكل التنظيمات التكفيرية والإرهابية التى تجيد استغلالها فى تزييف وعى من تجندهم وتضمهم لصفوفها من شباب المنطقة العربية على خلفية المظلومية العربية والدينية.
الوعى والأمن القومى:
مما لا شك فيه أن كل الحسابات السابقة ستكون لها آثار، فى الأغلب، سلبية على الأمن القومى العربى والمصرى. حسابات معقدة لإقليم مضطرب، تتشابك فيه الصراعات، ويتكالب عليه أصحاب المصالح. ويبقى العنصر الأخطر والأهم، وأعنى به الوعى، يعانى إشكاليات كبيرة، سواء على المستوى القومى العربى، أو على المستوى الوطنى المصرى. ولا يعنى وجود إشكاليات أنه غائب وغير موجود، لكنه مشوش، أو مؤثر فيه، أو متحكم به. فالقضية التى ينبغى أن تعنينا جميعًا هى أن نجعل المواطن العربى ملمًا بجميع هذه التطورات والأحداث الجارية الخطيرة، التى تهدد مستقبل الأمن العربى، وألا نتركه فريسة لآلة التشويش والتحكم فى الوعى، التى تقوده حتمًا إلى مساحات أكبر من التغييب تحت زيف الشعارات النبيلة والبراقة للحريات، والعدالة، والكرامة، وحقوق الإنسان بمفهومها القسرى الغربى.
فالتشويش، أو التأثير، أو التحكم الآن فى وعى الشعوب والأفراد، هو الهدف الأساسى الذى تسعى إليه القوى المالكة للقوة التكنولوجية السيبرانية، تقود من خلالها حربًا سيبرانية على العقول والمعنويات، مستغلة مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، الظاهرة والباطنة، وهدفها فى ذلك كسب المزيد من المنخرطين فى دائرة الوعي الزائف المنشود لديها.
تشتمل عملية بناء الوعى السليم على مكونات وعناصر كثيرة، أعقدها الثقافة والإعلام. إن بناء الوعى لن يتأتى إلا بالاستفادة الكاملة من جميع الطاقات والكفاءات، والبحث عنها، واستثمارها فى جذب الناس إلى الفكر الوطنى الأصيل، والثقافة الواعية، والكتاب الهادف. من هنا، تبرز أهمية الرجوع إلى أصولنا التراثية وتقاليدنا وقيمنا العريقة، وشخصيتنا التاريخية المؤثرة، بغية إمدادنا بكل مقومات التنمية، ورفع مستوى وعينا السليم.
لعل إشكاليتنا الكبرى تكمن فى هذه «النخبة المزيفة» من كتاب، وباحثين، وفنانين، وإعلاميين، ورياضيين، التى أسهمت فى المخطط المشار إليه، عبر ادعاء المثالية، والنقاء، والإيمان بالقيم النبيلة. وفى أحيان كثيرة المتاجرة بصحيح الدين، وذلك على الرغم من دورهم المفترض فى تطوير وعى المواطن بشتى اتجاهاته ومساراته، إذ لا تخفى أهمية هذا الدور وحساسيته فى التأثير فى العامة، والتسلل إلى القلوب والعقول.
بغض النظر عن التغييب الممنهج، الذى مارسته هذه النخبة لإجبار المواطن العربى على التمحور حول ذاته، وتغيير الكثير من سمات شخصيته وملامحها، فإن الأكثر خطورة هو تغييبه عن واقعه الزمانى والمكانى، واستعباد عقله من خلال منصات التواصل الاجتماعى، ومؤسسات إعلامية وثقافية، أسهمت كلها فى إفقاده الحس بما يدور حوله من تحديات وتهديدات ومخاطر، وغير قادر على استخلاص النتائج والدروس، ولا توجد لديه القدرة على تحقيق غاياته وأهدافه، بحيث أصبح شخصًا مشوهًا، غير مدرك لفرصه، وتتلخص كل آماله فى مغادرة هذا العالم البائس، الذى خلقته فى وعيه هذه النخبة الخبيثة نحو العالم المثالى المزعوم.
من هنا، لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن غيبوبة الوعى المخلّقة غصبًا فى العقلين الجمعيين العربى والمصرى هى الأخطر على مصير الأوطان والمجتمعات. من التحديات الماثلة، فى هذا الصدد، التى يجب التأكيد عليها دائمًا، قدرة وسائل الإعلام التكنولوجية السيبرانية على النفاذ والعبور إلى الشريحة الأخطر فى مجتمعاتنا، ألا وهى الأطفال دون سن المدرسة، أو الذين فى مراحلهم الأولى. وهذه قضية خطيرة لمصلحة القائمين على تزييف الوعى، وقلب صورة الواقع، والتأثير فى حاضر المجتمع ومستقبله.
كما هو معروف، فالعنصر الديمغرافى يعد أحد عناصر القوة الأساسية للأمن القومى. فعدد سكان الدولة يشكل عصب القوة البشرية اللازمة للتنمية أو للحرب، وأيضًا للإدارة فى الأجهزة المدنية، لكن كبر حجم السكان ليس ضمانًا فى كل الأحوال لامتلاك قوة عسكرية كبرى، أو حتى جهاز مدني إداري وتنفيذي كفء، فهناك عوامل كيفية أخرى، أهمها القدرات القتالية، ونوعية التسليح وتحديثه، والتدريب، والتعليم، والثقافة، ومن قبلها التنشئة فى أسرة ومجتمع صحيين.
خلاصة القول إن العنصر البشرى يعد من العوامل المهمة نسبيًا فى تكوين عناصر القوة الشاملة للدولة، خصوصًا كلما اتسع نطاق فئات العمر الشابة المؤهلة والواعية فى التكوين السكانى للدولة. يرتبط بالعنصر السكانى عوامل التهديد ذات الطبيعة الاجتماعية على المستوى الداخلى، فيمكن القول إن الجبهة الداخلية تعد من الأمور الحاسمة لصد أية تدخلات خارجية، وأصبحت الجماهير العادية، خاصة فى عصر عولمة المعلومات، تؤثر بشكل مباشر، ليس فقط فى السياسة الداخلية، وإنما فى السياسة الخارجية للدولة.
لذا، فإن إمكانيات الدعاية والحرب النفسية للتأثير فى هذه الجماهير ممكنة، وتقود إلى نتائج وخيمة، حيث يمكن لدولة ما استغلال الوضع فى دولة أخرى، وإخضاعها لحرب نفسية ومعنوية سيبرانية تعمل على غسل عقل الجماهير، وتغييب وعيها عما يحدث فى المجال العام، وذلك من خلال العمل على تصدير أيديولوجيات لا تتفق وقيم المجتمع ومبادئه، واستخدام الحرب النفسية عن طريق وسائل الإعلام الرقمية الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعى، وهو الأمر الذى يؤثر فى الروح المعنوية، ودرجة ارتباط الشعب بالنظام السياسى، وبمصلحته القومية، وبأهدافه الوطنية من خلال بث اليأس والإحباط.
الأمن الثقافى:
لكى نبدأ بناء الوعى بآليات صحيحة، يجب علينا العمل على تحقيق «الأمن الثقافى»، بعدّه غاية من الغايات التى تقتضى السعى نحو بلوغها فى هذه المرحلة المهمة من مراحل التطور الثقافى والمعرفى، فى ظل ثقافة كونية تنزع نحو انتهاك الخصوصيات الثقافية، وتهميش الثقافات الوطنية، وطمس الهويات القومية، والدفع إلى الانغلاق على الذات.
من هنا، تأتى أهمية تحقيق الأمن الثقافى، الذى يعد جزءًا لا يتجزأ من الأمن الاجتماعى والحضارى فى عملية بناء الوعى. بل إن الأمن الثقافى يجب أن يحتل الأولوية فى هذه المرحلة المهمة من مراحل التطور الذى بلغته الثورة المعرفية فى ظل تعاظم التحديات والمخاطر التى تواجه الثقافات المحلية والوطنية. ذلك أن الأمن الثقافى قضية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بكيان المجتمع ووجوده، كما ترتبط بهويته ووحدته الحضارية.
تتعاظم أهمية قضية الأمن الثقافى فى ظل المخاطر والتحديات التى تفرضها الثقافة الكونية، حيث أصبحت هذه الثقافة الكونية عابرة لحدود الزمان والمكان، ومتجاوزة لنطاق الأمم والمجتمعات. ولا شك فى أنها خلقت وسائل لا حصر لها لتبادل المعرفة والمعلومات، وحققت وفرة غير مسبوقة فى الإنتاجين الثقافى والمعرفى، بفضل ثورة المعلومات والاتصالات التى يعيش العالم فى قلبها الآن. لكنها أفضت -فى الوقت نفسه- إلى خلق أشكال جديدة من الاحتكار الثقافى والمعلوماتى الأحادى الاتجاه. ذلك أن الإنتاج الثقافى والمعرفى والتكنولوجى لهذه الثقافة لا يتم توزيعه بشكل متساوِ بين الثقافات، كما أن تدفق المعارف والمعلومات لا يتم بصورة متساوية بين الدول والمجتمعات، ما أدى إلى تزايد الفوارق والفجوات المعرفية والثقافية بين دول العالم، وتفاوت حظوظ الأفراد والمجتمعات فى نصيبهم من القدرات المعرفية، ومن رأس المال الثقافى اللازم للتفاعل الإيجابى مع مستلزمات هذه الثقافة الكونية، التى تمكنهم -فى الوقت نفسه- من الدفاع عن خصوصياتهم الثقافية، وتحقيق شروط الانتماء الحقيقى لمجتمعاتهم.
يجب تأسيس المزيد من مؤسسات صناعة الفكر ومراكز الأبحاث على مستوى المنطقة، وأن نتوسع فى نشر الإنتاج باللغات العالمية، إضافة إلى اللغة العربية، وأن نسخر أكبر قدر من الإمكانات من أجل صناعة رأى عام يدرك ما يحاك له فى الحاضر، ويعى ما يخطط له فى المستقبل، وهذا هو تحديدًا طريق تحقيق تنمية وعى الشعوب والمجتمعات.
فى معركة بناء الوعى المصيرية تلك، يجب على دولنا أن تقدم مقارباتها الخاصة بسد الفجوة الرقمية، وتعزز برامج التنمية المستدامة بخططها المختلفة، وتتفق على آليات محددة لمواجهة التطرف والإرهاب، والأفكار الهدامة التى تسعى للنيل من مكانتنا وقيمنا وتقاليدنا. إن الوعى قضية حاسمة ومحورية ومصيرية فى معركة البقاء، التى يراد لنا أن ننهزم فيها. لذا، فهو يرتقى إلى كونه ضرورة وجودية. وإذا تمكنا من بناء الفرد الواعى بذاته وواقعه، المثقف والمحصن، فإننا نكون قد نجحنا فى معركة مصيرية، قُدر للوعى الجمعى العربى أن يكون مغيّبًا عنها، ولو مؤقتًا.
ماذا يحدث حولنا؟ رؤية مغايرة:
من هنا، لم يسلم استخدام نظرية المؤامرة فى تفسير الأحداث التى عصفت بالدولة الوطنية فى المنطقة العربية من توجيه انتقادات حادة له، وقد يتم توظيف ذلك من قِبل مختلف أصحاب النظريات التى تخدم مصالح الدول الأقوى فى ساحة العلاقات الدولية على الصعيدين السياسى والاقتصادى، وذلك لتفويت الفرصة على الدول المستهدفة، ومثقفيها، وباحثيها لشرح وتفسير الأحداث، التى يمكن أن تنطلق من فرضيات صحيحة، وتخلص بنا إلى نتائج دقيقة فيما تتعرض له دول الجنوب الأقل فرصًا على سلم التطور من عمليات ممنهجة للحد من قدراتها على تحقيق عملية التنمية لشعوبها، وتوفير أكبر قدر ممكن من الرفاهية والتقدم، والحفاظ على قدرات الدولة الوطنية الشاملة، بما يحقق أهدافها الوطنية، ومصلحتها القومية.
ترى الكتابات الرافضة لنظرية المؤامرة أن هناك عددًا من الافتراضات الحاكمة لها تهدم النظرية بالكامل، أولها أن هناك شخصًا أو أشخاصًا، قوة سياسية أو اقتصادية، جماعة أو مؤسسة، دولة أو إقليميًا ما، له أفضلية على ما عداه من أشخاص، أو قوى، أو جماعات، أو دول، ويمتلك مقومات للنجاح والتأثير فيمن وفيما حوله، بشكل يهدد توازنات لقوى موجودة بالفعل. يتعلق الافتراض الثانى بالآخر، سواء كان شخصًا، أو قوى، أو جماعة، أو دولة، أو إقليمًا، والذى -فى محاولته للحفاظ على التوازنات الموجودة- يتآمر بشكل دائم ومستمر لإفشال الطرف الأول. ففى هذا الكون الفسيح، هناك كيانات تمتلك مقومات للنمو والتأثير فيمن حولها والتمتع بكامل مقدراتها، وهناك كيانات أخرى لا تتسامح مع هذه المحاولات، وترغب فى الحفاظ على الوضع القائم. الافتراض الثالث هو أن فشل للطرف الأول إنما هو سبب لتآمر الأطراف الأخرى عليه. ولا سبيل للنجاح إلا إذا توقفت المؤامرة، وهو أمر بطبيعة الحال لن يحدث.
تستحق النظرية، بهذا الشكل، الهجوم عليها من قبل الباحثين، على أساس أنها فى حقيقة الأمر تخالف النظريات العلمية كونها تبدأ من مسلمات، ويقينيات، ورؤى لا سبيل لاختبار صحتها. واقع الأمر أن كل ما سبق لا ينفى أن مستخدمى نظرية المؤامرة فى تفسير مسار الأحداث يرون أنها تقوم على افتراض وجود مجموعات بعينها قادرة على التحرك فى الخفاء لحماية مصالحها فى منطقة أو قضية بعينها. وبالتالى، فالنظرية، وفقًا لذلك، تُعلِى من قدر الفاعلين أو الوكلاء (Agents) الذين قد لا نعلمهم بالضرورة. وبالأساس، تعنى فكرة الوكالة (Agency) أن طرفًا خارجيًا الراعى (Sponsor) يفوض وكيلًا (Agent) للقيام بمهام ما لتحقيق مصالحه، من دون حضوره أو وجوده فى المشهد مباشرة. وهى علاقة تُبنى على توافق أهداف الطرفين، بحيث يحقق الراعى أهدافه الخبيثة من استخدام الوكيل، أو العميل، أو الفاعل، أو الناشط ويحقق الأخير -أياً كان مسماه وتحت أى عباءة مدنية أو دينية يعمل- المكاسب التى ينشدها.
انبثق عن تلك الفكرة -التى انتقلت من علوم الاقتصاد والإدارة إلى حقل العلاقات الدولية وتأثيراتها فى نظم الحكم- مفهوم «الحرب بالوكالة»، كاستراتيجية بديلة أقل تكلفة للحروب المباشرة بين الدول، حيث يشير المفهوم إلى صراع بين قوى خارجية على المصالح والنفوذ، يتم خوضه بشكل غير مباشر على أرض دولة ثالثة، عبر استقطاب أطراف محلية موالية لمصالحها فى مواجهة أخرى معادية لها. وفى أحيان كثيرة، قد يلجأ الراعى والعميل، حال نجاح مخططهما فى إثارة الفوضى، إلى استخدام مرتزقة من الميليشيات المسلحة للإجهاز على ما تبقى من سيادة الدولة وتدمير مؤسساتها.
بناء على ما سبق، لا أجد إلا كون نظرية المؤامرة الأقدر على تقديم قراءة الصورة الكلية للمشهد العبثى الذى يعيشه الوطن العربى القابع فى قلب الشرق الأوسط الصغير والكبير، ومحاولة اكتشاف العلاقات والتشابكات بين الرعاة والوكلاء. وهى بهذا المعنى، تصبح اجتهادًا علميًا لاستكمال الناقص من المشهد، ولإعطاء معنى دقيق للمعلومات غير الواضحة، أو غير المترابطة.
فالذين يبذلون قصارى جهدهم لنفى استخدام نظرية المؤامرة، كمنطق تفسيرى للأحداث والوقائع، لا ينبغى لهم نكران أن هنالك مخططًا يتغير بتغير طبيعة الزمان، والمكان، والشعوب والدول المستهدفة، ويحرك كثيرًا من الأحداث السياسية والتاريخية، يتحتم علينا الوقوف عليه، ومعرفة تفاصيله، ولا ينبغى أن نفترض فى الآخرين أنهم يستهدفون الخير العام للبشرية. ففكرة المصالح الخاصة هى التى تحرك سياسات الدول، وتحكم الإطار العام المفسر لتحرك العلاقات الدولية نحو التعاون أو الصراع. فالقائم على التخطيط يكون متحكما فى أهداف، وفى غايات الفاعلين من الدول ومن دون الدول الذين يحركهم على الأرض، من دون أن يكونوا على دراية بالمستهدف النهائى لخططه، والذين هم أحد أدواته، وقد يكونون أحد أهدافه لاحقًا.
فالثابت، وفقًا لما سبق، أن علاقة المؤامرة بالسياسة علاقة وثيقة إلى الحد الذى يمكن عدّ السياسة والمؤامرة وجهين لعملة واحدة، حتى إنه من الصعب أن نجد سياسة بلا مؤامرة، ولا مؤامرة بلا سياسة. وما دامت المنطقة العربية تعد منطقة مصالح كبرى، فالعلاقة بين العرب والغرب إما علاقة سلمية مشوبة بالحذر، أو تنافسية تفاوضية سلمية أو صراعية، وهى الأصل الباطن فى نوعى العلاقة السلمية والتنافسية. ولما كان الغرب قد اختار العلاقة الصراعية بصورة غير مباشرة، فإنه لا يمكن إنكار انتفاء المؤامرة بحق الوطن العربى، وفى القلب منه، على مر التاريخ الحديث والمعاصر، الدولة المصرية.
الوعى ونظرية المؤامرة:
لعل نجاح أو فشل أية مؤامرة خارجية مرهون بتوافر المساعدات والأدوات الداخلية. لذا، فالتآمر الداخلى فى أى بلد أقوى من التآمر الخارجى، وذلك لاعتماد نجاح التآمر الخارجى أو فشله على عملائه داخل البلد المتآمر عليه. ومن ثم، يظل تقرير مصير الأوطان دائمًا مرتهنًا بإرادة الشعوب صاحبة السيادة على كل السلطات. هنا، يجب علينا أن نتساءل ما الأدوات الرئيسية التى يرتكز عليها من يفكر فى تنفيذ مخطط أى مؤامرة؟
على أرض الواقع، نجد أن هذه الأدوات تغيرت وتبدلت منذ مطلع القرن الماضى حتى وقتنا هذا. وبعد أن كانت أدوات تنفيذ المؤامرة تعتمد على القوة الصلبة، وما يمكن أن يصحبها من حروب نفسية ومعنوية لهزيمة إرادة الجيوش الوطنية والشعوب، باتت اليوم ترتكز على ما نعرفه بالجيل الرابع من الحروب وما تلاه من أجيال، وهو الجيل الذى أتاحت له الثورة السيبرانية الهائلة فرصة التطور لأجيال متعاقبة تمكِّن المتآمر من تحقيق مآربه بصورة أكثر بساطة ويسرًا. وبعد أن كانت الدول المتآمرة تتحمل تكلفة عالية للتخطيط للحروب العسكرية المباشرة، وتحريك القوات، ثم تحمُّل نفقاتها، والأسلحة فى أثناء العمليات، وما تتكبده من خسائر بشرية ومادية فى القتال، نجدها قد تمكنت الآن من أن تخفف عن كاهلها جميع هذه التبعات، وأن تتوجه مباشرة، عبر استخدام الوكلاء والعملاء فى الخارج والداخل من أبناء الوطن، لتنفيذ مخططاتها، من خلال ما توفره لهم من قدرات تقنية، وتكنولوجيا اتصال، وفضاء كونى يحوِّل ما هو افتراضى إلى واقع ملموس، ويزيل الحدود بين الدول، وهو ما جرى تعريفه بالعولمة، التى حولت العالم الكبير إلى ما يشبه القرية الصغيرة، وأزالت المساحات الجغرافية والزمانية كما أشرنا سالفًا، وجعلت هناك سيولة شديدة فى انتقال الأفكار والثقافات بين الأفراد.
ولئن كان ذلك غرضًا نبيلًا فى ظاهره، فإنه مكَّن المتآمر من أن يصل إلى مبتغاه فى تحقيق الهزيمة النفسية والمعنوية لإرادة الشعوب، وتزييف وعيها، وجعلها تنحرف عن رؤية مصلحتها القومية وأهدافها الوطنية، وأن تكون متصدرة المشهد، وهى مسلوبة الإرادة، لكى تكون على رأس مخططات نشر الفوضى فى مجتمعاتها. بحيث أصبحت مصالح المواطنين كما يزينونها لهم خَصمًا من رصيد الأمن القومى الشامل للدولة المستهدفة.
هنا، يمكن لنا أن نطلق على هذا النوع من الأفراد الذى يصبح أسيرًا لهذا النوع من الحروب «المواطن السيبرانى السلبى»، وهو النوع الذى لم يستفد من ممارسة حقه فى الاستخدام الإيجابى للثورة التكنولوجية فى التعلم، ونقل الخبرات الثقافية المنفتحة، وزيادة قدرته على البحث العلمى الإيجابى، واقتصر دوره على أن يكون متلقيًا لجميع ما يتم تصديره له عبر شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت»، من قيم سلبية، وسلوكيات خاطئة، ومفاهيم حياتية غير منضبطة، وتجارب ليس بالضرورة أن تنطبق مع الواقع الذى يعيشه فى نطاق دولته الوطنية، بحيث أصبح نسخة مشوهة فاقدة كل معايير القيم والانتماء للهوية الوطنية، وغير مدرك للمخاطر والتهديدات فى المحيط الأبعد منه، وكذلك بسلوكياته الفوضوية، وانعكاساتها المدمرة على الأهداف الاستراتيجية القومية، كنتيجة حتمية لكونه أداة أجاد توظيفها واستخدامها المتآمر عليه، وعلى دولته.
هذا «المواطن السيبرانى السلبى» المتمتع بالتقدم السريع فى مجال تكنولوجيا المعلومات، وما وفرته له دولته من بنية أساسية لازمة بتقنياتها المختلفة، لكى تندرج ضمن منظومة الدول الرقمية، لم يلتفت لمخاطر أمرين، الأول أن هذا التطور قد صاحبه تأسيس ما يعرف بـ «المجتمع الشبكى»، والآخر أن الأفراد داخل هذا المجتمع لم يتم تأسيسهم «ثقافيا ومعرفيا» بما يوفر لهم الأدوات التحصينية اللازمة لإجادة التعامل مع هذا المجتمع، وعدم الوقوع فى سلبيات ما يمكن أن ينتج عن اندماجهم السريع فيه، فى ظل تراجع مستويات المعرفة، والثقافة، والقدرة على البحث، والتدقيق، والميل إلى تصديق أية شائعات، أو أمور غامضة يتم تصديرها إليهم.
لعل ذلك ما أسهم كثيرًا فى أن تمكين المتحكم فى منصات البحث والتواصل الاجتماعى فى العالم الافتراضى من أن يحول أهدافه إلى واقع، يسهل من خلاله أن تحل وسائل التواصل فى العالم الافتراضى، مثل فيسبوك وX (تويتر سابقًا)، محل وسائل الإعلام التقليدية، وأن تكتسب هذه الوسائل الافتراضية مصداقية كبيرة لدى الجمهور المستهدف فى الدولة المقصودة، وذلك فى ظل عدم قدرة الوسائل التقليدية المهنية، والرصينة، والعلمية على ملاحقة كل هذه السرعة، والتقنية العالية، التى باتت توفرها الطفرة الهائلة فى تكنولوجيا الاتصال، وبرامج الإخراج الفنى، بما تتيحه من قدرة على نشر الزيف، والخداع، والأخبار الكاذبة والمغلوطة.
فهذه المجموعة من الوكلاء، أو العملاء للراعى، تلقت من التدريبات ما يكفى لكى تكون القائد فى مجتمعاتها، ولكى تنقل وتشكل ما يعرف بـ «اللا هوية السيبرانية الشبكية»، وتمكنت عبر مراحل مختلفة من أن تنقل مواطنيها إلى الاعتماد على وسائل إعلام رصينة ومهنية، لديها من القواعد ومواثيق الشرف التى كانت تكسبها المصداقية الدائمة لدى الجمهور، لكى تكون محل شك دائم، وأن تكون مرفوضة وغير موثوق بها.
هنا، يكون نجاح هؤلاء الوكلاء أو العملاء فى تشكيل ثقافة مجتمعهم شبكيًا، وتغييب وعى المواطن وتوجيهه على غير أهداف ومصلحة الدولة الوطنية. هذا هو الجانب السلبى للثورة السيبرانية، والإنترنت، وتكنولوجيا الاتصالات، والهواتف الذكية، الذى تم من خلاله اختراق الوعى فى مجتمعاتنا، حيث اجتهدوا فى هذا الإطار لتصدير وتعميم الإعلام البديل، وهو فى الغرب الإعلام الرقمى، الذى يأخذ أشكالًا أكثر مهنية، وله من القواعد التى تنظمه، وتحكم أدواته، ووسائله. إلا أنهم فى ظل حالة الفوضى، والصيرورة الثورية التى يصرون على تصديرها للمواطن فى الدولة الوطنية المستهدفة، يؤكدون له أن الإعلام البديل هو إعلام فيسبوك وX ، وأنه من خلال هذا النموذج الذاتى من الإعلام، يمكن لكل مواطن أن يتخطى كل حدود الرقابة، وهيمنة ومركزية الدولة، وأن يصنع إعلامه الخاص، ويحدد فيه أولوياته، دون الالتفات لكل ما يمثله ذلك من تكريس للذاتية، والمصلحة الفردية، وإعلاء الأنا الفردية على الأهداف الوطنية، والمصلحة القومية، والمسئولية المجتمعية، فضلًا عن أن ممارسة الإعلام تتطلب دراسة والتزامًا بقواعد ومواثيق الشرف لممارسة المهنة، وتحقيق المصداقية.
هذا الإعلام البديل، الذى يحاولون تسويقه وفرضه علينا، يعانى مجموعة من الإشكاليات. أولا: أنه إعلام عاطفى غير متخصص يعتمد على إثارة عاطفة الجمهور وعقله باستخدام لغة مبرمجة تتناسب وثقافته، وطبقا للهدف المراد تحقيقه. ثانيا: أنه إعلام يستغله الوكلاء والعملاء من أجل السيطرة على عقول البسطاء غير المدركين لحقائق الأمور، وإدارة سلوكياتهم، وتنميط اتجاهاتهم بما يتناسب ومصلحة الراعى. ثالثا: أنه إعلام نخبوى أحادى الاتجاه، يعتمد على ثقافة التفاعل النقلى التشاركى، حيث يكون مركز نشر الأخبار هو المتحكم، فى حين تكون الأطراف المهمشة البعيدة عن مركز إدارة العملية هى المهيمن عليها، ويقتصر دورها التفاعلى على النقل، الذى كثيرًا ما يكون على غير وعى بخطورة مضمون ما يتم نقله. رابعا: أنه إعلام فوضوى لا تحكمه قواعد، ولا أخلاق، ولا منظومة قيمية، وأسهم كثيرًا فى نشر منظومة ثقافية سلبية، وتشويه حقائق تاريخية وعلمية، بالنظر إلى أنه لا يعتمد أية قواعد علمية فيما يتم نشره عليه من أخبار أو منشورات.
يقينًا، أؤكد أن نجاح أو فشل أية مؤامرة خارجية مرهون بتوافر البيئة الحاضنة من العملاء والوكلاء، ومدى نضج الوعى لدى المواطن هدف المؤامرة. لذا، فالتآمر الداخلى فى أى بلد أقوى من التآمر الخارجى. إن المؤامرة، فى هذا الإطار، تعبر عن وجودها أو عدمه بالأثر الذى تتركه. فكلما تعاظم الأثر، زاد الشعور بوجود مؤامرة كما فى هذه الأيام العبثية التى تعصف بالمنطقة العربية. وإذا انعدم الأثر، أسقط الشعور والوعى الجمعى من حساباته وجود المؤامرة، رغم وجودها الحقيقى.
ولعل الفكر العربى قد ضل الطريق فى رؤيته لنظرية المؤامرة بأدواتها التقليدية، لأنه لم يرتق إلى المستوى الذى يخلق أيديولوجيا من شأنها تحصين الوعى التحصين السليم القادر على إفساد مؤامرات الآخرين.
الواقع، أننا ظلمنا هذا المواطن العربى، خلال فترات طويلة سابقة، بعدم قدرتنا على توفير برامج حمائية ثقافية، ومنحه حصصًا تعليمية عادلة تجعله مؤهلًا لكى يكون مواطنًا دوليًا رقميًا فاعلًا، بدلًا من هذه الحالة التى أضحى عليها، التى تتمثل أبرز ملامحها فى كونه فاقدًا للهوية، والولاء، والانتماء. فالقيم التى تم تنميطها فى عقله، الذى لم يتم تحصينه بالقدر الكافى، تجعله هدفًا سهل الاصطياد لهجمات قد تستهدف نفسيته ومعنوياته لتدميرهما، وذلك لإفقاده الثقة بدولته، ونظامه، ومؤسساته.
فالثابت أن تفاعلات المجتمع الشبكى، التى ينخرط فيها المواطن، تضع هويته فى أزمة كبيرة، فهو يتخاطب ويتحدث مع مجهول لا تجمعه به سوى شاشة ولوحة مفاتيح للكتابة، يسعى بمختلف الوسائل والتقنيات للسيطرة عليه، وتنميط عقله، وإدارة وعيه. يضاف لذلك أن تفاعلات المجتمع الشبكى، بما تضمه من عناصر مجهولة الهوية، سواء فى الدردشة، أو المشاركة فى الألعاب، أو التطبيقات، دائمًا ما تجعل هذا المجهول قادرًا على محو المركزية، والقومية، والوطنية التى يمكن أن تشكل ركائز وعى هذا المواطن.
فالكثير من الأحداث، التى عصفت بالمنطقة العربية منذ منتصف الألفية الثانية خلقت قطاعات كبيرة من هذا النموذج من «المواطن السيبرانى السلبى» غير المؤهل ثقافيًا وتعليميًا، لمواجهة هذا التحدى، الذى أسهم دون وعى، وبدعم سلوكى كامل منه، منقادًا خلف الشعارات البراقة والنبيلة للحرية والعدالة، فى تحطيم أركان دولته الوطنية، وذلك مع بدء الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الافتراضى على المجتمع الشبكى، وعبر استخدام مجموعات تم تدريبها على استخدام هذه الوسائل بطرق ممنهجة، ووفقًا لخطاب مبرمج، طبقًا لاحتياجات هذه المجتمعات، حددتها قياسات إلكترونية واستطلاعات رأى عام تطبيقية، ووفرتها برامج وتطبيقات خاصة على هذه الوسائل، إضافة إلى قدرة المجتمع الشبكى على إزالة الحدود القومية افتراضيًا.
كل ذلك يفرض علينا الاهتمام بالبرامج المتعلقة بإعادة بناء الإنسان التى تعلنها الدولة، وأخذها بالقدر الجدى المطلوب، بهدف تنمية قدرات المواطن، ومنحه حصصه وحقوقه العادلة فى مستوى تعليمى متميز، وإقرار سياسة ثقافية، وفنية، وإعلامية تتناسب وسائلها مع آليات وأدوات الحرب المشنَّة علينا، وذلك لخلق المواطن الرقمى الذى يليق بمواجهة مثل هذا النوع من حروب الجيل الرابع، وما تلاها من أجيال، التى ستعتمد على ما توفره الثورة السيبرانية، وحروب تكنولوجيا المعلومات من وسائل وأدوات جديدة فى المستقبل.
فمنذ سقوط بغداد عام ٢٠٠٣، الذى كان مؤشرًا مهمًا إلى ما هو مخطط للوطن العربى القابع فى قلب الشرق الأوسط، كانت أهداف المؤامرة واضحة، لكن نخبة المفكرين والباحثين وجّهت الأنظار بعيدًا عنها، وتتمثل فى:
1- إعادة تخطيط الإقليم بالكامل.
2- تقسيم الدول العربية الكبرى وتفتيتها لدويلات وفقًا للطائفية، أو الإثنية، أو العشائرية، أو القبلية، أو الدينية كمرحلة جديدة من سايكس-بيكو القديمة، مرحلة تفتيت المفتت لتمكين من لا حق له.
3- تدمير الجيوش الوطنية الكبرى عبر إنهاكها فى مهام غير مهامها، ومن ثم تفكيكها، لهدف إفساح الهيمنة العسكرية لقوة وحيدة لا تتمتع بإرادة التعايش السلمى.
4- القضاء على كل محاولات التنمية والارتقاء بمستوى الشعوب لمستويات نمو يستحقونها، وإفقادها القدرة على السيطرة على كامل قدراتها وحقوقها بما يدمر كل مقدرات شعوبها.
5- تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على كل فرص التوصل لتسوية دائمة وعادلة وشاملة لا تحقق الغاية الكبرى للهدف النهائى للمؤامرة، ألا وهى أمن كيان غاصب محتل.
6- الكيان الغاصب المحتل يجب أن تكون له السيادة الكاملة والقدرة على فرض خططه التوسعية.
كما أشرنا، كانت أهم الأدوات لتحقيق ذلك:
1- التفجير الذاتى للدول عبر خلق حالات احتقان، ودفع الشعوب لخوض الاحتراب والاقتتال الداخليين لإسقاط الدول.
2- توفير الدعم المالى واللوجيستى والبشرى اللازم لتحقيق كامل أهداف المخطط، وذلك من جانب قوى دولية وإقليمية لها أهداف ومصالح، تدين بالولاء الكامل لأصحاب المخطط الذى أعلن بالكامل تحت مسمى الفوضى الخلاقة.
3- توفير الأدوات التقنية اللازمة من أدوات ووسائل تكنولوجية على مستوى الأجهزة والبرامج والمواقع والمنصات التى تمكن من يمتلكها من شعوب دول الوطن العربى، مهما يبلغ مستوى تعليمهم ووعيهم، من استخدامها بسهولة، خاصة مع الثورة الكبرى فى تقنيات البث والاستقبال بما يتيح تداول الفيديوهات التحريضية والتثويرية دون الحاجة للكتابة أو القراءة.
4- تدريب قطاعات شبابية واسعة على مفاهيم على غير الثوابت الوطنية الأصيلة لأوطانهم، وتقديمهم لشعوبهم بعد تقليدهم بأوسمة ونياشين الخيانة باعتبارهم قادة مؤثرين وقادة المستقبل، ودفع الأجيال المختلفة للاستماع لهم والانصياع لما يروجونه من أكاذيب.
5- خلق إعلام معادٍ ومضاد لمؤسسات الإعلام الوطنى والتشكيك فى أدوارها ورموزها عبر خطة ممنهجة، بهدف فرض الهيمنة والسيطرة لسردية الإعلام المعادى الكاذبة التى تهدف لبث اليأس والإحباط والتشكيك فى كل ما يُثَّبت المواطن ويجعله متمسكًا بقيمه وأعرافه وثوابته، مع توفير كل الدعم الإنتاجى وتقنيات البث اللازمة لذلك، التى تفوق قدرة المنظمات الإرهابية (التى أصبحت تعمل تحت مسمى المعارضة المدنية المسلحة)، تحت دعاوى أنهم يقدمون معارضة لأنظمة الحكم فى بلادهم.
6- إنشاء مجموعة من التنظيمات الإرهابية والميليشيات الإجرامية من قلب عباءة التنظيمات الإرهابية الأكبر، وذلك بعد نجاح تجربتى حزب الله وحماس فى تقويض السيادة الوطنية اللبنانية والسورية، والقدرة التفاوضية للسلطة الوطنية الفلسطينية على الترتيب. ولعل ذلك ما ساعد على انتشار نماذج هذه التنظيمات فى العراق بعد ٢٠٠٣، ومصر، وسوريا، واليمن، وليبيا، والسودان بعد ٢٠١١، وهى تنظيمات وميليشيات تهدف إلى تقويض السيادة الوطنية للدول عبر استقطاع أجزاء من أراضيها استغلالًا لحالة الفوضى التمهيدية التى تضطلع بإشعالها طلائع الفوضويين فى ميادين «ثورات التحرير» كما أطلقوا عليها.
نخلص إلى أنه غير معلوم تحرير مَن ممَّن إلا لو سلمنا بصحة معاداتهم لجيوشهم الوطنية، وتشبيهها بأنها تحتل أوطانهم. قناعتى أن ما يحدث فى كل النماذج الفاشلة فى الدول الوطنية العربية اليوم هو ملخص كل ذلك، مضافا إليه تبعات التوازنات والصراعات الدولية. من حق الشعوب أن تبحث عن مستقبل أفضل، وأن تتطلع للعدالة التى ترى أنها حُرمت منها، وإلى تنسم الحريات كما صوروها لهم، ولكن عليها أن تأخذ العبرة من الدول التى ذهبت دون عودة، فالدول التى تدخل فى هذا التصنيف للدول من المستحيل استعادتها إلا بثمن كبير. إرادة الشعوب ووعيها هما الحائط الصلد الذى تتحطم عليه المؤامرة، والتفافها حول مؤسساتها الوطنية وعلى رأسها قواتها المسلحة وشرطتها المدنية هو الآلية الرئيسية لمجابهة كل خطط تدمير الدولة الوطنية.