مخططات الماسونية من الخيال العلمي إلى الذكاء الاصطناعي
23-12-2024

مها محسن
* كاتبة مصرية

لم تنجُ جميع الأجيال الحالية من البالغين من سطوة وسيطرة روايات الخيال العلمي سواء مكتوبة أو مصورة على حدود تخيلاتهم مقارنة بمدى إدراكهم ووعيهم، حيث شهد القرن العشرون زخما في كيفية طرح وتناول أفكار الخيال العلمي من زوايا مختلفة، تعددت في أشكالها واتفقت في جموحها.

فمعظم الشخصيات التي تناولتها روايات أو دراما الخيال العلمي، لا يعرف جمهور قرّائها أو مشاهديها أن لاختيار كل شخصية بتفاصيلها له خبايا وأسرار، فمثلا شخصية مثل شخصية "سوبرمان"، لا يعرف جمهورها سوى أفلامه بكل أجزائها القديمة والحديثة، ولا يعلم المعظم أن تاريخ هذه الشخصية يحفل بالخفايا، والمفاجآت، والرمزيات، فهو أكثر من مجرد بطل خيالي. 

فالمعروف عن سوبرمان أنه يستغل قوته في الخير دوما، لكن البداية لم تكن كذلك، فقد ظهر البطل الخارق سنة 1933 لأول مرة على أنه شرير طاغية يريد السيطرة على العالم كما فعل أعداؤه فيما بعد، ففي قصته الأولى بعنوان "عهد الرجل الخارق" على صفحات مجلة Sience Fiction، كان سوبرمان يملك القدرة على التحكم في عقول البشر لتنفيذ أغراضه الشريرة، كما تخيله المؤلفان الأمريكيان جيري سيجل وجو شاستر وقتها.

حيث استوحى الكاتبان قصتهما من أفكار الفيلسوف الألماني/ فريدريك نيتشه التي مهدت فيما بعد للنازية التي اعتنقها هتلر، وروجت لأن الرجل الخارق أو "الإنسان الأعلى" هو المتحرر من كل القيود الدينية، ولأن الأزمة الاقتصادية في أمريكا خلال الثلاثينيات من القرن الماضي قد لعبت دورا مهما في ولادة سوبرمان، فقد شعر المؤلفان أن هذه الظروف من الفقر واليأس لا يمكن مقاومتها إلا برجل خارق مثله.

وبرغم أن فكرة سوبرمان الشرير لم تنجح بسبب سوء التنفيذ، إلا أن المؤلفان أعادا طرحها عن طريق قصة جديدة هي المعروفة والمشهورة، وفيها وُلِدَ سوبرمان على كوكب كريبتون الموشك على الانفجار، ولكن والداه يرسلاه إلى كوكب الأرض في آخر لحظة ليتبناه رجل وزوجته، ويكتشف الصغير أن قوته خارقة بالنسبة لباقي البشر، فيقرر تسخيرها لخدمة الخير مرتديا بدلة البطل الخارق المعروفة مع حرفكبير على صدره.

يربط النقاد أحيانًا بين هجرة سوبرمان من كوكبه إلى الأرض، وهجرة الأمريكيين الأوائل من كل أنحاء العالم إلى أمريكا الشمالية لينشروا فيها الحق والخير والتقدم -حسب رأيهم- خاصة المهاجرين من أوروبا التي مزقتها الحروب الدينية، ولاحظ الكثيرون أيضًا أن ملابس سوبرمان نفسها مأخوذة من ألوان العلم الأمريكي، كما أنه يحل كل المشكلات بقوته سواء في أمريكا أو في باقي دول الأرض وهكذا صار سوبرمان يمثل الحلم الأمريكي نفسه في سيادة العالم.

قارن نقاد آخرون بين نجاة سوبرمان من دمار كوكبه ونجاة النبي موسى -عليه السلام- من ظلم فرعون موسى، خاصة أن مؤلفي سوبرمان يهوديان في الأصل، كما أن اسم البطل الأصلي في كوكب كريبتون يدعى "كال–إل" والتي تعني بالعبرية (تجسيد الإله)، وما يقوي هذه الفكرة أن قوى سوبرمان في بداية ظهوره كانت تقترب -حسب وصف النقاد- من قدرات الآلهة.

كان ظهور سوبرمان فاتحة خير لكل الأبطال الخارقين الذين أتوا بعده، وقدموا الخط الأساسي نفسه من الشخصية ولكن باختلافات في تفاصيل الشخصية ذاتها، وفي مقدمتهم الشخصيتان الأشهر باتمان، وسبايدرمان، ثم العشرات والمئات من بعدهم من الشخصيات التي تُخفي شخصيتها الحقيقية وتحارب من أجل الخير بقوتها الخارقة.

جميعها أفكار لشخصيات خُلِقَت من رحم أفكار هوليوودية يهودية، ومهدت الطريق لطرح وجهات النظر الماسونية المختلفة بشأن الخيال العلمي، حيث تمتزج الماسونية بالعديد من الثقافات التي تتضمن الأديان والمعتقدات والتيارات الفكرية المختلفة، ومع ذلك يمكن القول إن العديد من الماسونيين الأدباء والفنانين قد استخدموا عناصر الخيال العلمي في أعمالهم الأدبية والفنية.

وتتوفر العديد من الروايات والقصص الأدبية الماسونية التي تشمل عناصر الخيال العلمي، وتشمل تلك الأعمال التي تدور حول الخوارزميات، والعلوم الخيالية، والفضاء، والزمن والأبعاد المختلفة، ومن الأعمال الماسونية الأدبية التي تشمل الخيال العلمي والتي أثارت اهتماما كبيرا لشعراء وروائيين في العصر الحديث هي رواية"The Lost Symbol" للكاتب/ دان براون، وتركز الرواية على الشخصية الأساسية نفسها التي ظهرت في رواياته السابقة The Da Vinci Code، وAngels and Demons، ولكنها تقدم نظرة أعمق على الرموز الماسونية والتصوفية وتشمل الكثير من العناصر الخيالية.

بالإضافة إلى ذلك، يتم تضمين بعض نصوص الأسرار الماسونية والعروض السرية التي تقام في دوائر الماسونية في عناصر الخيال العلمي، وغالبا ما يتم تمثيل هذه العروض في الأدب الماسوني في صورة قصص كلاسيكية وروايات متنوعة، وبشكل عام، فإن الأدب الماسوني يستخدم العديد من العناصر الخيالية والعلمية في إطار سري وغامض يشكل الأسرار الدفينة والرموز والمواثيق وما إلى ذلك، ويقدم هذا النوع من الأدب رؤية مختلفة عن الواقع ويطلق العنان للخيال لبعض الحقائق الملموسة، حتى تمتزج القصص بقليل من الواقع وكثير من الخيال الذي يشتت أفكار المتلقي فيتقبل المحتوى كما هو تماما كأثر الحقنة تحت الجلد.

ففي الوقت الذي استخدم فيه الأدب الماسوني الخيال العلمي عادةً للتعبير عن رموزه ومعتقداته، مثل النجمة السداسية وغيرها من الرموز التي تدل على المعتقدات والقيم الماسونية، استخدم أيضا الخيال العلمي لإيصال رسائل معينة، مثل تمجيد حجم الإنسان وإبراز الخطر الناشئ من العلوم والتكنولوجيا.

ومن هنا أتت الحاجة لتطوير الخيال العلمي إلى واقع ملموس يوازي الذكاء البشري في قدراته، والخيال العلمي في جموحه، ففي عام 2005، صدر كتاب يدعى: التفرد (The Singularity)، لمؤلفه راي كورزويل، تحدث الكتاب بشكل مكثف عن تقنيات الذكاء الاصطناعي المستقبلية وعن عالم يتغلغل الذكاء الاصطناعي في كافة جوانبه.

وبعد 20 عاما تحقق جزء كبير من الذي تنبأ به كورزويل في كتابه، وهذا ليس لأن الكاتب يملك قدرات خارقة مكنته من توقع المستقبل، بل لأنه يتمتع بخبرة واسعة في قطاعات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، توقعات كورزويل تلك لم تتوقف عند كتابه الأول في عام 2005، بل امتدت إلى جزءٍ ثانٍ يدعى: التفرد أصبح أقرب (Singularity is Near)، وفيه يتنبأ بشكل العالم بعد 20 عاما أخرى في المستقبل ويتحدث عن دور الذكاء الاصطناعي في هذا المستقبل.

وبشكلٍ عام، فإن كتابة كورزويل تسهم في صياغة عالم الذكاء الاصطناعي، إذ تعد ملهمة للعديد من الأسماء المهمة العاملة في تطوير هذه التقنيات، وعلى رأسها بيل جيتس الذي وصفه بكونه أفضل من يتوقع مستقبل الذكاء الاصطناعي، وهو الآن يشغل منصبا في جوجل يدعى رؤيوي الذكاء الاصطناعي(AI Visionary)، أي المسئول عن وضع تصورات مستقبلية تخص تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تطورها الشركة.

قدم كورزويل مجموعة كبيرة من التنبؤات خلال كتابه الأخير، ومن ضمنها كان تطوير الذكاء الاصطناعي الشامل، وهو النموذج الذي تتسابق جميع شركات الذكاء الاصطناعي للوصول إليه، كونه يقدم تجربة أفضل وأكثر دقة من غيره من النماذج، وبحسب ما يراه كورزويل، فإن هذا الذكاء الاصطناعي يحاكي ذكاء البشر في العديد من النقاط ويتخطاه في نقاط أخرى، وذلك عندما يصدر بشكل نهائي في عام 2029.

ومن ناحية أخرى، تحاول العديد من الشركات تطوير الذكاء الاصطناعي الشامل، ولكن في الوقت الحالي يصعب الوصول إلى هذا النموذج المبتكر كونه يحتاج إلى قوة حاسوبية عملاقة غير متوفرة حاليا، فضلا عن كونه نموذجا شاملا يجمع كل نماذج الذكاء الاصطناعي في مكان واحد، وفي هذا الأمر هو يحاكي البشر لأنه سيكون قادرا على القيام بكل شيء وأي شيء.

وتتضارب توقعات خبراء الذكاء الاصطناعي حول موعد صدور ما يسمى "بالذكاء الاصطناعي الشامل"، إذ يرى البعض أننا اقتربنا منه بينما يرى آخرون أنه لا يزال بعيدا، ولكن كورزويل يقف على الحياد بين الطرفين، فيطرح توقعاته قائلا بأن البشر والآلة سيصبحون شيئا واحدا بحلول عام 2045، أي إن وعي البشر سيصبح جزءا من الذكاء الاصطناعي أو العكس، وهو الأمر الذي طالما تنبأت به أفلام ومسلسلات الخيال العلمي المُطَعّمة بلمحات الذكاء الاصطناعي عبر تعزيز القدرات البشرية من خلال القطع الآلية.

تظل تنبؤات كورزويل مستقبلية ومستحيلة بمعايير اليوم، ولكن بعد عدة أعوام، قد تصبح واقعا يمكن أن نعيشه، كما حدث في توقعاته السابقة، تماما كما كانت خيالاتٍ علمية فيما سبق في هيئة أبطال خارقين، وأصبحوا بشرا آليين.

الأيام ستتحدث وتخبرنا بالمزيد، لا السنون ولا الشهور ...

 


رابط دائم: