"ديمقراطية" الصراعات.. والمآسي
16-12-2024

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري

في صباح التاسع من أبريل عام 2003، شهدت ساحة "الفردوس" في بغداد واقعة مثيرة، عندما حاولت مجموعة من العراقيين، لا يتجاوز عددهم 120 شخصًا، إسقاط تمثال الرئيس الراحل، صدام حسين، ثم فجأة، تقدمت دبابة أمريكية لتكمل المهمة بسهولة، في مشهد بدا كأنه تلقائي، لكنه كان جزءًا من استراتيجية محكمة نفذتها إدارة "العمليات النفسية" في الجيش الأمريكي أمام مندوبي وسائل الإعلام الدولية، الذين كانوا يقيمون في الفندق المطل على الساحة نفسها.

لم يكن الهدف، آنذاك، إسقاط التمثال فحسب، بل توجيه رسالة رمزية تُظهر تهاوي نظام حكم عربي، تمهيدًا لخلق نظام حكم بديل يخدم قوى "المصالح الدولية" قبل استنساخ الاستراتيجية في المنطقة، لاحقا، لكن بأشكال عدة، كما في ليبيا واليمن، وبزعم "الترسيخ للديمقراطية"، يتواصل مخطط "الفوضى" الذي اعتمدته قوى كبرى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، آخرها الحالة السورية.

أصبحت سوريا مثالًا صارخًا على استغلال شعارات الحقوق والحريات في تحريك احتجاجات شعبية منذ عام 2011، ثم تحول الدعم الإقليمي والدولي للجماعات الإرهابية والفصائل المسلحة إلى أداة لتأجيج الصراع السياسي والعسكري، ورغم مزاعم دعم التحول الديمقراطي، كانت الخطوة الكبرى تمكين كيانات مثيرة للجدل من السلطة، والبدء في إعادة رسم المشهد العام في البلاد، وفق إملاءات تصدر من خارج الحدود!

الحديث، حاليًا، عن إمكانية تأسيس نظام جديد في سوريا، يذكّرنا بتجربة العراق بعد الغزو عام 2003، حيث أدى تقسيم السلطة على أسس طائفية إلى استقطاب دائم وعدم استقرار، وفي الحالة السورية، فإن التغيير الجذري دون دعم دولي حقيقي لإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة الشاملة سيعيد السيناريو نفسه، عبر تسليم السلطة لطرف واحد مع تهميش الآخرين، مما يفضي إلى صراعات داخلية طويلة الأمد.

أما إذا تم صياغة دستور طائفي، فسيكون ذلك كارثة لأي دولة تسعى للخروج من نزاع سياسي وعسكري مدمر. وفي سوريا، إذا تم إعداد دستور جديد بشكل انتقائي يلبي مصالح فئة واحدة فقط، ستستمر الانقسامات وربما تتفاقم إلى حرب أهلية لا تنتهي في المدى المنظور، خاصة مع تغييب المؤسسات القادرة على إدارة التناقضات وصناعة حالة توازن وطني.

التوقعات حول تمدد الفساد المالي في سوريا مرجحة بقوة، فهو سمة مشتركة للأنظمة التي تمر بمرحلة انتقالية دون وجود آليات رقابة فعالة، ففي تجربة العراق المجاورة بعد الغزو، تفاقم الفساد بسبب غياب المؤسسات الرقابية، ومن غير المستبعد أن يتكرر هذا السيناريو في سوريا، خاصة بعد انهيار المؤسسات الوطنية كجزء من الانهيار الشامل للدولة وتفاقم أزمة البنية التحتية نتيجة الحرب المستمرة منذ سنوات، كما أن تعدد التدخلات الدولية والإقليمية سيجعل سوريا تواجه مصيرًا أكثر تعقيدًا مقارنةً بتجارب سابقة.

في العراق، كان الغزو الأمريكي عام 2003 نقطة انطلاق رئيسية لفشل الشعارات الزائفة، مثل "الترسيخ للديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات العامة". ورغم الترويج لحملة الغزو باعتبارها "وسيلة لنشر الديمقراطية والإطاحة بنظام ديكتاتوري"، إلا أن الأهداف الحقيقية كانت مرتبطة بمصالح استراتيجية واقتصادية، مثل السيطرة على النفط وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة.

أدى انهيار العراق ومؤسساته الوطنية في السنوات التي تلت سقوط بغداد إلى دخول البلاد في دوامة من الفوضى والعنف الطائفي. ورغم الوعود بالتحول الديمقراطي، لم يتحقق هذا الهدف، بل شهدت البلاد تفاقمًا في النزعة الطائفية، وتدهورًا في الخدمات العامة، وانهيارًا في الاقتصاد، مع استشراء الفساد، كما ارتُكبت انتهاكات حقوقية جسيمة في سجون مثل أبو غريب، ما شكل ضربة قوية لمصداقية الولايات المتحدة كمدافع عن حقوق الإنسان.

منذ اللحظة التي أعلنت فيها إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، قرار غزو العراق، كانت هناك مسوغات واضحة توحي بأن الهدف الحقيقي لم يكن نشر الديمقراطية. رُوجت ادعاءات امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وأثيرت مخاوف حول خطر صدام حسين على الأمن العالمي، لكن مع مرور الوقت، تأكد أن هذه الادعاءات كانت مضللة، حيث لم يتم العثور على أي أسلحة دمار شامل، كما أن النتائج على الأرض كانت كارثية.

تفككت مؤسسات الدولة العراقية بالكامل بعد تنفيذ خطة "اجتثاث البعث" التي تركت آلاف الكفاءات دون عمل وفتحت الباب أمام الفوضى. بدلًا من بناء نظام ديمقراطي حقيقي، قامت الولايات المتحدة بتطبيق نظام محاصصة طائفية، مما أدى إلى ترسيخ الانقسام بين السنة، والشيعة، والأكراد. غذت تلك الانقسامات الطائفية صراعات مسلحة مستمرة وأسفرت عن ظهور تنظيمات متطرفة كـ"داعش"، الذي استفاد من الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه الاحتلال الأمريكي.

اقتصاديًا، بدلاً من إعادة إعمار العراق وتحسين حياة مواطنيه، شهدت البلاد انهيارًا اقتصاديًا، حيث تم تخصيص معظم العقود لشركات أمريكية كبرى مثل "هاليبرتون"، ما عزز اتهامات بأن الحرب كانت مدفوعة بمصالح اقتصادية. أما حقوق الإنسان، فقد شهدت انتهاكات فاضحة، خاصة مع استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، مما خلق صورة محرجة عن الالتزام الأمريكي بالقيم التي تم الترويج لها لتسويق الغزو.

على الجانب الآخر من الخريطة العربية، في ليبيا، كانت التدخلات الغربية خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي" عام 2011 أكثر وضوحًا في تناقضاتها، بعدما قدمت دعمًا عسكريًا مباشرًا للإطاحة بنظام الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، بزعم "حماية المدنيين"، ولكن بعد انهيار النظام، تُركت البلاد في حالة من الفوضى التامة، حيث لم تقم القوى الغربية بأي جهود لإعادة بناء الدولة أو ضمان الاستقرار.

ترتب على ذلك فراغ أمني أدى إلى نشوء عشرات الميليشيات المسلحة ونشوب نزاعات مسلحة تهدد حياة المدنيين يوميًا، كما استغلت شبكات الجريمة المنظمة الوضع المنفلت في نقل المهاجرين من دول إفريقيا عبر ليبيا في ظروف قاسية، عبر موجات لا تتوقف من الهجرة غير الشرعية، بتداعياتها الشاملة على الجوار الليبي والدول المتشاطئة معها شمال البحر المتوسط.

أدى غياب الدولة إلى تصاعد الإرهاب، حيث أصبحت ليبيا مقرًا لجماعات متطرفة كتنظيم "داعش" و"القاعدة"، مما جعلها مصدر تهديد أمني إقليميا ودوليا. حدث هذا رغم أن تدمير ليبيا استند إلى قرارات مجلس الأمن الدولي التي أصابها "العوار" فيما يتعلق بالأمن القومي العربي، حيث لم تؤخذ بعين الاعتبار التداعيات السياسية والاجتماعية المترتبة على انهيار الدولة.

وبعد سقوط نظام الزعيم الليبي الراحل، معمر القذافي، غابت أي خطة واضحة لإعادة بناء مؤسسات الدولة أو تحقيق استقرار سياسي. وبدلاً من أن تتحقق الديمقراطية التي وعدوا بها الليبيين، دخلت البلاد في مرحلة من الغموض وازدادت الانقسامات بين الفصائل المتناحرة، التي أثرت على تفكك المؤسسات الوطنية، وبرزت أزمة إنسانية عميقة تمثلت في نزوح مئات الآلاف وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.

جنوبًا، في اليمن، تجسدت التناقضات بين الشعارات الغربية وممارساتها الفعلية التي أخذت بُعدًا آخر أكثر تعقيدًا. ورغم الادعاءات بالدعم الغربي لـ"التحول الديمقراطي"، لم تحظَ الأزمة اليمنية بالاهتمام الكافي من الدول الكبرى، خاصة في المرحلة الأولى من الصراع. ومع تصاعد الحرب منذ مارس عام 2015، واصلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تقديم الدعم العسكري واللوجستي لكل الأطراف.

كما انخرطت قوات غربية في تنفيذ عمليات عسكرية نوعية في اليمن، مع علمها الكامل بأن هذه الضربات تستهدف المدنيين والبنية التحتية الحيوية، ما أدى إلى مقتل وإصابة مئات الآلاف من المدنيين، وترك الملايين على حافة المجاعة. كما أدى الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي إلى تفشي الأوبئة مثل الكوليرا، التي فتكت بالسكان. فيما وصفت الأمم المتحدة الوضع في اليمن بأنه "أسوأ أزمة إنسانية في العالم".

هذه الملابسات التي يعيشها اليمن جددت إثارة التساؤلات حول مصداقية الالتزام بحقوق الإنسان، ورغم الإدانات الدولية المتزايدة، إلا أن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، وخصوصًا المتعلقة بصفقات الأسلحة، ظلت تتفوق على القيم الإنسانية المعلنة. ذلك في ظل غياب أي إرادة حقيقية من الدول الكبرى لوقف المأساة، على الرغم من استمرار الخطاب الغربي المزعوم فى دعم الحلول السلمية والتحول الديمقراطي.

تداعيات السياسات المباشرة على المنطقة خلال العشرين عامًا الماضية تكشف تراجع مصداقية الشعارات المطروحة حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، لاسيما أن الدول التي تزعم أنها ترسخ لهذه الشعارات في بعض دول المنطقة، تغض الطرف عن الانتهاكات الواضحة في مناطق أخرى من الإقليم. ويظهر ذلك بوضوح في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة طوال الـ13 شهرًا الماضية، ما يعكس ازدواجية الخطاب والممارسات.

في السودان، استُغلت أزمة دارفور لتقسيم البلاد، مما أدى إلى انفصال الجنوب دون تقديم دعم كافٍ لاستقراره، لتغرق المنطقة في صراعات. وفي العراق وليبيا كانت التدخلات الغربية سببًا في مآسٍ إنسانية من قتلى ومهجرين وتدمير للبنية التحتية، في حين كانت الشعارات الغربية عن الديمقراطية مجرد غطاء لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، بهدف إبقاء الدول ضعيفة وضمان استمرار النفوذ الغربي.

إنه المشهد العام خلال الفتنة الكبرى التي تكللت بما يسمى بـ"الربيع العربي" قبل 14 عامًا، مع تداعياته التي تسببت في اندلاع حروب دامية، وفتن مستعرة، وخراب متواصل، ولجوء مذل من واقع الحرب الأهلية في سوريا، واليمن، وليبيا، فضلا عن ظهور "داعش" كتطور طبيعي لتنظيم "القاعدة"، بينما لا تزال أدوات وظيفية تمهد للمزيد من الدماء والخراب، تحت شعار "نحن نرسخ للديمقراطية".

 


رابط دائم: