إعادة تنشيط الدور الأمريكى.. مستقبل صفقة القرن بعد عودة ترامب
25-11-2024

هشام قدرى أحمد
* باحث فى العلوم السياسية

مع عودة دونالد ترامب واستعداده لتولي زمام السُلطة مرةً أخرى بحلول يناير المقبل، خلفًا للرئيس الديمقراطي المنتهية ولايته جو بايدن، تتجدد التكهنات حول مصير مشروع صفقة القرن واتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والأنظمة العربيَّة.وكان ترامب قد طرح صفقة القرن خلال ولايته الأولى في إطار رؤيته لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث رُوج لهذا المشروع إعلاميًا منذ عام ٢٠١٧، قبل أن يتم الإعلان عنه رسميًا في يناير 2020، وقد تمثلت ردود الفعل الأولية بُعيد الإعلان الأمريكي عن هذا المشروع في ترحيب إسرائيلي، ورفض واستنكار فلسطيني، وتحفظ عربي وإقليمي. تلا ذلك التحضير لمجموعة من الترتيبات واللقاءات السياسيَّة بين إسرائيل وقادة بعض الدول العربيَّة، تمخض عنها ولادة عدد من الاتفاقيات لتطبيع العلاقات الإسرائيليَّة-العربيَّة، أطلق عليها «الاتفاقيات الإبراهيمية» كأحد مكونات خطة السلام الأمريكيَّة في الشرق الأوسط.

صفقة القرن... الأهداف المعلنة ومعوقات التنفيذ:

تُشكل صفقة القرن، كما ذكرنا، خطة ترامب أو رؤيته للسلام في الشرق الأوسط. وقد عهد ترامب إلى مستشاره وصهره «جاريدكوشنر» بمهمة صياغة هذه الخطة وإقناع قادة دول المنطقة بها من خلال زياراته وجولاته المكوكية التي سبقت الإعلان عن المشروع. تضمنت مسودة مشروعصفقة القرنالتي أعلنت عنها إدارة الرئيس ترامب عام 2020، مجموعةً من الإجراءات ذات شقين، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، ترمي إلى خلق سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على نحو ما يلي:

·  قيام دولة فلسطينيَّة مستقلة (منزوعة السلاح) ومُعترف بسيادتها، تشمل قطاع غزة وبعض الأراضي بالضفة الغربيَّة.

·       الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمةً جديدةً لإسرائيل.

·  الدولة الفلسطينيَّة الجديدة ستكون مترابطة ومتصلة الحدود وليست مجرد كيانات منفصلة ومتباعدة عن بعضها البعض.

·  السماح للمسلمين المعتدلين وغير المتطرفين، بين مزدوجين، بزيارة الأماكن المقدسة عبر سلسلة من الإجراءات والترتيبات الأمنيَّة تحددها الأطراف المعنية.

·  الاعتراف بشرعية وجود المستوطنات الإسرائيليَّة في الضفة الغربيَّة، مع تعهد تل أبيب بالتوقف عن بناء أيّ مستوطنات جديدة لمدة أربع سنوات تبدأ من تاريخ المصادقة على اتفاق السلام.

·       تخصيص مبلغ من المال قدره 50 مليار دولار أمريكي للاستثمار والتعمير في أراضي الدولة الفلسطينيَّة الجديدة.

من الملاحظ أنَّ هذا المشروع قد وضع في الأساس ليتم فرضه على الفلسطينيين، كونه لم يأخذ بعين الاعتبار مصالحهم أو رؤيتهم لحل الدولتين، ويُمكن أن نُفند البنود العريضة التي خرج بها مشروع صفقة القرن واستيضاح مثالبه وصعوبة تحقيقه ميدانيًا على النحو الآتي:

أولًا- إنَّ هذا المشروع يتقاطع كليًا مع قرار الأمم المتحدة رقم «٢٤٢» الذي أصدره مجلس الأمن الدوليّ في عام ١٩٦٧، كونه يحصر حدود الدولة الفلسطينيَّة المزعومة في منطقتي الضفة الغربيَّة وقطاع غزة، في حين أنَّ القرار السالف دعا إسرائيل إلى الانسحاب من كافة الأراضي العربيَّة التي احتلتها في حرب 1967، بما فيها القدس الشرقيَّة، والعودة إلى حدود ما قبل الخامس من يونيو.

ثانيًا- إنَّ الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل يعني أن يبحث الفلسطينيون عن عاصمة أخرى لدولتهم، مع أنَّ القدس كانت ولا تزال لُب الصراع وجوهره.

ثالثًا-ليس هناك ضمانات يُمكن أن يقدمها الإسرائيليون بعدم الاستمرار في بناء المستوطنات الجديدة في الضفة الغربيَّة خلال المدة المقررة أو بعد انقضائها، فإذا عاود الإسرائيليون سياسة الاستيطان مجددًا فهذا كفيل بتدمير صرح أي اتفاق للسلام، بل وسُيفاقم من تدهور الوضع السياسي ويزيده تأزمًا.

رابعًا- ينص المشروع على قيام دولة فلسطينيَّة متصلة ومترابطة الحدود، لكن كيف ذلك والأراضي الإسرائيليَّة تفصل بين القطاع والضفة؟ ترمي الخطة الأمريكيَّة إلى الربط وتحقيق الاتصال بين أجزاء الدولة الفلسطينيَّة المزعومة من خلال مجموعة من الجسور المعلقة وتدشين عدد من الأنفاق الداخليَّة، وهذه الجسور وتلك الأنفاق ستخضع حتمًا لمراقبة وسلطة الحكومة العبرية، وهو ما قد يُمثل بؤرة جديدة للنزاع والصراع في المستقبل.

خامسًا- إذا كانت الحكومتان الأمريكيَّة والإسرائيليَّة ترفضان الحوار مع حركة المقاومة الفلسطينيَّة «حماس» التي تحكم قطاع غزة منذ عام 2006، باعتبارها منظمة إرهابيَّة، وترفضان كذلك إدخالها ضمن حدود أي اتفاق للسلام، فكيف سيتم ترسيم ملامح النظام السياسي للدولة الفلسطينيَّة الجديدة في ظل هيمنة هذه الحركة على جزء كبير منها؟ ألا يعني ذلك وجود نظامين سياسيين وحكومتين متصارعتين داخل حدود دولة واحدة؟

سادسًا- إنَّ وجود الولايات المتحدة الأمريكيَّة كطرف أوحد لرعاية وضبط عملية السلام في الشرق الأوسط سيجعلها دائمًا جزءًا من الأزمة وليس أداة أو سبيلاً للحل، فهي مُنحازة لطرفٍ على حساب الآخر، وتمارس ضغوطها من أجل إجبار الطرف الفلسطيني على قبول شروطها بالقوة.

اتفاقيات التطبيع وفرض السلام الأمريكي:

انطلقت عمليات التطبيع العربيَّة-الإسرائيليَّة برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى بالإعلان عن توقيع اتفاقيتين للسلام، أبرمتا في وقت متزامن بين إسرائيل وكل من مملكة البحرين ودولة الإمارات العربيَّة بالعاصمة الأمريكيَّة واشنطن في منتصف سبتمبر 2020، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزيري خارجية البلدين الخليجيين. جدير بالذكر أنَّ هاتين الاتفاقيتين تمثلان أول اتفاق سلام من نوعه بين إسرائيل ودول الخليج العربيَّة، وكان قد سبق هاتين الاتفاقيتين ثلاث اتفاقيات أخرى، أولها معاهدة السلام المصريَّة-الإسرائيليَّة (عام ١٩٧٩)، واتفاق أوسلو بين إسرائيل والسُلطة الفلسطينيَّة (عام ١٩٩٣)، واتفاق وادي عربة الذي أبرمته الحكومة العبريَّة مع نظيرتها الأردنيَّة (عام ١٩٩٤)، وجميع هذه الاتفاقات تم تدشينها برعاية مباشرة من جانب الإدارة الأمريكيَّة، باعتبارها طرفًا رئيسيًا في معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي.

وفي أكتوبر 2020، أسفرت وساطة ترامب عن توقيع اتفاق جديد بين إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو وحكومة السودان ممثلةً في عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني، عُرف باسم اتفاق السلام الإسرائيلي-السوداني. جاء هذا الاتفاق بعد نحو عام ونصف من الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير الذي وُصف بكونه معاديًا للمصالح الأمريكيَّة في المنطقة، حيث اتهمته الولايات المتحدة بالانخراط في علاقات سرية مع جماعات تُصنفها واشنطن على أنها إرهابيَّة، ما جعل البلاد تحت طائلة العقوبات الاقتصاديَّة الأمريكيَّة لسنواتٍ طويلة، ولذلك جاءت موافقة السودان للتطبيع مع تل أبيب في إطار سعي هذا البلد لتجاوز مرحلة الخلافات مع الولايات المتحدة تمهيدًا لرفع العقوبات الأمريكيَّة عنه. تلا ذلك توقيع اتفاق آخر في ديسمبر من العام نفسه بين إسرائيل والمملكة المغربيَّة يرمي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين وإقامة علاقات دبلوماسيَّة كاملة بينهما، ليُصبح المغرب سادس بلد عربي يلحق بقاطرة التطبيع.

أي مستقبل ينتظر صفقة القرن واتفاقيات التطبيع بعد عودة ترامب؟

يترقب زعماء الشرق الأوسط عودة دونالد ترامب وإعادة تنصيبه مرةً أخرى سيدًا للبيت الأبيض، من أجل أن يفي بوعوده الانتخابية ويضع حدًا للحربين الدائرتين في غزة ولبنان، بعد أن فشلت كافة الجهود المبذولة في وقف إطلاق النار وإجبار تل أبيب على وضع حدٍ لعملياتها العسكريَّة المستمرة منذ أكتوبر 2023. ويتطلب تحقيق ذلك أن تمارس الإدارة الأمريكيَّة الجديدة ضغوطا هائلة على الحكومة الإسرائيليَّة لدفعها إلى وقف الحرب، إلا أنَّ هذا الأمر سيعتمد أولًا على مستشاري ترامب ووزرائه ومدى رغبتهم في إقناع بنيامين نتنياهو بضرورة إعادة السلم إلى نصابه، وثانيًا على طبيعة العلاقة الثنائية بين ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلي ومدى استجابة هذا الأخير للضغوط الأمريكيَّة، وفي حال فشلت إدارة ترامب في هذا المسعى، فإنَّ ذلك لن يؤثر بأي حال على الدعم الأمريكي السخي وغير المحدود لإسرائيل، فإذا كانت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن قد انحازت لإسرائيل بشكل تام في حربها المستمرة وغضت الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية، فإن الجمهوري دونالد ترامب قد منح إسرائيل إبان ولايته الأولى ما لم يمنحه أو يقدمه أي رئيس آخر، بدءًا باعترافه بالقدس الموحدة عاصمةً لإسرائيل، مرورًا بتغاضيه عن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربيَّة واعترافه بالسيادة الإسرائيليَّة على هضبة الجولان، وانتهاءً بمشروع صفقة القرن ورعاية اتفاقيات التطبيع التي دشنت لمرحلة جديدة من العلاقات الدافئة بين تل أبيت وعددٍ من العواصم العربيَّة.

بالنسبة لصفقة القرن، فقد شكّلت هذه الخطة إحدى أهم ركائز ترامب في سياسته الخارجيَّة تجاه الشرق الأوسط خلال ولاية حكمه الأولى وستظل كذلك في ولايته الثانية.ومع فشله في إنهاء هذا المشروع نتيجة لخسارته في سباق الانتخابات الرئاسيَّة لعام 2020، فمن المحتمل للغاية أن يعود الحديث عن هذا المشروع ليشغل حيزًا مهمًا من أجندة الرئيس مع تسلمه مقاليد السُلطة في يناير المقبل. ومع ذلك فإنَّ اتخاذ هذه الخطوة سيكون أمرًا بالغ الصعوبة نتيجة لتغير الظروف السياسيَّة التي كانت سائدةً عندما غادر ترامب منصبه قبل أربع سنوات بفعل الحرب الضارية التي تخوضها إسرائيل في غزة ولبنان، ومن ثمّ فإنَّ إعادة طرح صفقة القرن ووضعها من جديد قيد التنفيذ ستتطلب أولًا إنهاء الصراع الدائر في الشرق الأوسط وإقناع الإسرائيليين بانتهاز فرصة السلام.

من ناحية أخرى، سيُحاول ترامب في ولايته الثانية استئناف عجلة التطبيع ودفعها للدوران من جديد بعد أن تعطلت خلال حكم الديمقراطيين. إذ يرى ترامب أن سياساته الخارجيَّة "غير التقليدية" إزاء المنطقة ستحفز دولًا أخرى للالتحاق بركب التطبيع مع الدولة اليهودية، مما سيُساعد على تعزيز السلم والأمن الإقليميين ويُعيد للولايات المتحدة مكانتها في المنطقة من خلال إعادة تنشيط دورها في صياغة عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن المحتمل أن تشكل السعودية بوابة العودة للاتفاقيات الإبراهيمية، إذ سيعمل ترامب، بحكم علاقاته الدافئة بولي العهد السعودي، والتي استمرت حتى بعد مغادرته للبيت الأبيض، على استمالة الرياض ودفعها للانخراط في اتفاقيات التطبيع وإقامة علاقات دبلوماسيَّة كاملة مع إسرائيل، ومن المؤكد أنَّ الرياض سترهن موافقتها على التطبيع بوقف الحرب الإسرائيليَّة في قطاع غزة والتعهد بحل الدولتين كأساس لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.


رابط دائم: