مع استعداد دونالد ترامب لتولي رئاسة الولايات المتحدة مرة أخرى في يناير 2025، يقف النظام العالمي على أعتاب تحول نموذجي محتمل. وتشير عودة ترامب إلى استمرار أجندته "أمريكا أولا"، والتي تعد بإعادة تعريف السياسة الخارجية الأمريكية، وفرض الضغوط على التحالفات، وتحدي الأطر المتعددة الأطراف، وبالتالي تكثيف التحول نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب؛ ولكن هل تمهد لنظام عالمي جديد؟
ترامب يفضل التعددية القطبية:
بناء على فترة رئاسته الأولى (2017-2021) فإن نهج ترامب في السياسة الخارجية ينحرف بشكل حاد عن الدور التقليدي للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في الحفاظ على نظام أحادي القطب أو ثنائي القطب في بعض الأحيان، حيث عملت الولايات المتحدة كقوة رائدة فيما يمكن تسميته "الحوكمة العالمية". وبدلاً من ذلك، أكد موقف ترامب باستمرار على الدبلوماسية "المعاملاتية".(1)
على حساب المشاركات المتعددة الأطراف طويلة الأجل. خلال فترة ولايته الأولى، انسحب ترامب من الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتساءل عن أهمية حلف شمال الأطلسي، وابتعد عن منظمات مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة. وقد أشار نهجه آنذاك إلى الانفتاح على عالم متعدد الأقطاب، حيث تمارس قوى إقليمية متعددة النفوذ في مجالاتها الخاصة، طالما ظلت المصالح الأمريكية محمية.
في ولايته الثانية، من المتوقع أن يعزز ترامب هذا التحول نحو التعددية القطبية، مع إعطاء الأولوية للمفاوضات المباشرة والبرجماتية مع الدول القوية مثل الصين وروسيا. ويمثل هذا انحرافًا عن جهود الرئيس جو بايدن المتعددة الأطراف، ويهدف بدلاً من ذلك إلى صفقات ثنائية تخدم المصالح الأمريكية المباشرة. فرؤية ترامب للنفوذ العالمي للولايات المتحدة أكثر "محدودية" وانتقائية؛ فبدلاً من الحفاظ على دور قيادي شامل، يتصور الولايات المتحدة كواحدة من العديد من القوى العظمى التي تتفاوض من موقع قوة دون تحمل أعباء الحوكمة العالمية.
العلاقات المتوترة مع الحلفاء التقليديين:
إن تشكك ترامب في التحالفات، بما في ذلك شراكات الناتو والولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التوترات مع الحلفاء التقليديين. خلال فترة ولايته السابقة، انتقد ترامب حلفاء الناتو بسبب ما اعتبره إنفاقًا دفاعيًا غير كافٍ، مما أثار تساؤلات حول غرض التحالف، وقد سحب الآلاف من القوات الأمريكية من ألمانيا. ورغم أن تلك الخطوة جاءت في إطار ما وصفته واشنطن بإعادة انتشار "استراتيجي" لقواتها في أوروبا، فقد أكد ترامب أنها "تأتي كرد فعل على تقاعس ألمانيا عن الوصول إلى الهدف الذي حدده الناتو فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي". حتى أن بعض مستشاريه السابقين أشاروا إلى أنه قد يسعى إلى الخروج من الناتو إذا أعيد انتخابه، وهو ما قد يؤدي إلى كسر العلاقات الأمريكية الأوروبية الطويلة الأمد ودفع الدول الأوروبية إلى استكشاف ترتيبات دفاعية بديلة.
وعلى نحو مماثل، قد يثير موقف ترامب المتناقض تجاه الصين مخاوف بين حلفاء منطقة المحيطين الهندي والهادئ مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، الذين يعتمدون على الدعم الأميركي لموازنة طموحات الصين الإقليمية. فنهجه المتذبذب تجاه الصين - بالتناوب بين العقوبات التجارية والمفاوضات المباشرة - يجعل هؤلاء الحلفاء غير متأكدين من التزام الولايات المتحدة بأمنهم. وفي غياب الدعم الأميركي القوي، قد تعمل هذه الدول على تعميق العلاقات مع بعضها بعضا، أو حتى التفكير في التقارب مع الصين، وهو ما من شأنه أن يعيد تشكيل ديناميكيات الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في الشرق الأوسط، أدى تحالف ترامب الوثيق مع إسرائيل ومعارضته للاتفاق النووي مع إيران ومن ثم انسحابه منه، إلى تعقيد العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا بالفعل، حيث ينظر الحلفاء الأوروبيون إلى الاتفاق باعتباره ضروريًا للاستقرار الإقليمي. وقد تؤدي إدارة ترامب الثانية إلى تعميق هذا الانقسام، وخاصة إذا عزلت الولايات المتحدة بشكل أكبر عن الجهود الدبلوماسية للحد من طموحات إيران النووية. ومن شأن هذه الخلافات الإقليمية أن تضعف بنية التحالف بعد الحرب العالمية الثانية التي دعمت الاستقرار العالمي لفترة طويلة وقد تدفع العالم أكثر نحو نظام متعدد الأقطاب "مجزأ".(2) ويشير هذا إلى نظام عالمي يتوزع فيه النفوذ بين عدة قوى دولية كبرى، لكن هذه القوى لا تتعاون بشكل متكامل أو متناغم، بل تسعى كل منها لتحقيق مصالحها الخاصة، حتى لو تعارضت مع مصالح القوى الأخرى. في هذا السياق، تكون العلاقات الدولية مليئة بالتوترات والاختلافات، حيث تتصارع الدول الكبرى وتتنافس على النفوذ في مناطق متعددة حول العالم، دون وجود تحالفات قوية أو ثابتة تجمع بينها.
تآكل المؤسسات العالمية واتفاقيات التجارة:
إن ميول ترامب الانعزالية وسياساته التجارية الحمائية و"ازدرائه" للاتفاقيات المتعددة الأطراف قد تزيد من ابتعاد الولايات المتحدة عن أطر التعاون الدولي. وتشمل وعود حملته فرض تعريفات جمركية عالية على شركاء الولايات المتحدة التجاريين، مما قد يؤدي إلى إشعال حرب تجارية عالمية من شأنها أن ترفع الأسعار بالنسبة للمستهلكين الأميركيين وتزيد من توتر العلاقات مع الحلفاء الاقتصاديين الرئيسيين مثل المكسيك وكندا. ومن خلال الحد من مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاقيات التجارية والبيئية العالمية، مثل اتفاق باريس للمناخ، يخاطر ترامب بإضعاف النفوذ الدبلوماسي للولايات المتحدة في المنظمات الحاسمة في معالجة القضايا العالمية مثل تغير المناخ والاستقرار الاقتصادي.
وبعيدا عن التجارة، فإن إحجام ترامب عن الانخراط في الدبلوماسية المتعددة الأطراف قد يؤدي إلى تخفيضات كبيرة في مشاركة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وهما المنظمتان اللتان انتقدهما في السابق. فالحد من تعاون الولايات المتحدة مع هذه الكيانات ومثيلاتها من شأنه أن يؤدي إلى تآكل النفوذ الأميركي في الجهود الدولية في مجال الصحة وحقوق الإنسان وحفظ السلام، مما يترك فراغا قد تسعى قوى أخرى، مثل الصين، إلى ملئه. ومن شأن هذا التآكل للمؤسسات التي تدعمها الولايات المتحدة أن يكثف التحول من نظام يركز على الولايات المتحدة إلى مشهد متعدد الأقطاب تنافسي.
تزايد عدم الاستقرار وعدم اليقين:
قد تضفي ولاية ترامب الثانية قدراً كبيراً من عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث في النظام الدولي المتقلب بالفعل. وقد يشجع أسلوبه الدبلوماسي غير التقليدي - الذي يتسم بالقرارات المفاجئة، وتجاهل المعايير الراسخة، والتركيز على المكاسب القصيرة الأجل على حساب الاستراتيجية الطويلة الأجل - القوى المنافسة على متابعة سياسات أكثر حزماً. والواقع أن دبلوماسية ترامب غير المنتظمة، مثل التغييرات غير المتوقعة في العلاقات مع كوريا الشمالية، والانسحاب من الاتفاقيات الكبرى، والتشكيك في نشر القوات في مناطق رئيسية، من شأنها أن تعقد الجهود التي يبذلها الحلفاء والخصوم على حد سواء لقياس موقف أميركا من القضايا الحرجة.
إن عدم القدرة على التنبؤ بهذه الأحداث قد يشجع دولاً مثل روسيا والصين على توسيع نفوذها. فقد تتوغل روسيا بشكل أعمق في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، في حين قد تزيد الصين من قوتها في بحر الصين الجنوبي وتايوان. ومن المرجح أن تؤدي بيئة التعددية القطبية التنافسية هذه إلى إعادة تقييم التحالفات بشكل متكرر، مما يطمس الحدود بين التعاون والصراع. والنتيجة هي نظام عالمي غير مستقر حيث تتحول التحالفات على أساس المصالح المباشرة بدلاً من القيم المشتركة، ويظل خطر التصعيد في المناطق المتنازع عليها مرتفعاً.
مخاطر ضعف الدبلوماسية الأمريكية:
سوف يكون العامل الرئيسي الآخر في السياسة الخارجية لترامب هو تكوين وخبرة فريق السياسة الخارجية في إدارته. ففي ولايته الأولى، أدى ميل ترامب إلى اتخاذ قرارات السياسة الخارجية من جانب واحد، وتهميش الدبلوماسيين ذوي الخبرة في كثير من الأحيان، إلى نتائج مختلطة. على سبيل المثال، انتهت المفاوضات رفيعة المستوى مع كوريا الشمالية دون اتفاقات ملموسة للحد من التطوير النووي، في حين بلغت محادثاته مع طالبان ذروتها بانسحاب سريع للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أفغانستان، مما أدى إلى انهيار الحكومة المدنية.
في فترة ولايته الثانية، قد يؤدي اعتماد ترامب على حكومة عديمة الخبرة أو منسجمة أيديولوجياً إلى تقويض النتائج الدبلوماسية. وبدون جهاز دبلوماسي قوي، قد تكافح الولايات المتحدة لإدارة الأزمات العالمية المعقدة بشكل فعال، مما يضعف موقفها كوسيط ويقلل من قوتها الناعمة. وكما يقول جيمس ليندسي، خبير السياسة الخارجية، فإن غياب الدبلوماسيين المخضرمين قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات أحادية الجانب بعواقب غير متوقعة، من نقل الأسلحة إلى مفاوضات وقف إطلاق النار، مما يحد من قدرة أمريكا على تعزيز الاستقرار في المناطق المتقلبة.
هل يلوح في الأفق نظام عالمي جديد؟
لا شك أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تفرض تحديات وربما تزيد من حالة عدم يقين في النظام الدولي. وقد تعكس سياساته انحرافا واضحا عن التعددية التي ميزت الكثير من السياسة الخارجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، وتبني بدلا من ذلك رؤية عالمية تعمل فيها الولايات المتحدة كواحدة من عدة قوى متنافسة. ومن الممكن أن تؤدي رؤية ترامب التي تبدو أنها بشكل أو بآخر "متعددة أقطاب"، إلى جانب تشككه في التحالفات التقليدية وتفضيله للانعزالية، إلى إضعاف وربما تفتيت هيكل التحالفات الذي تقوده الولايات المتحدة، مما يترك العالم في حالة من التقلب. وإذا ما نفذ ترامب وعوده، فقد يتطور النظام العالمي إلى نظام معقد ومتعدد الأقطاب، يتسم بمجالات نفوذ تنافسية. وفي مثل هذا العالم، سوف يتضاءل النفوذ الدبلوماسي الأميركي، وسوف تلعب القوى الإقليمية دورا أكثر فاعلية وبالطبع أهمية في تحديد مسار الشؤون الدولية. ومع ذلك، من المرجح أن تتسم هذه العملية بعدم الاستقرار، حيث يتوجب على دول العالم أن تتكيف مع توازن جديد للقوى دون مركز واضح فيه.
الهوامش:
1-المعاملاتية: مفهوم يرتبط بالأصل بمجال الأعمال ويشير غالبا إلى التركيز على العلاقات والمعاملات القائمة على المنافع المتبادلة أو المصالح المادية بين الأفراد أو المؤسسات. ويتميز هذا المفهوم بتركيز العلاقات على تحقيق أهداف معينة أو الوصول إلى نتائج محددة، بدلًا من إقامة أو بناء علاقات طويلة الأمد وهو ما يفضله الرئيس ترامب.
2-النظام المجزأ يعني أن هناك تكتلات إقليمية ومجالات نفوذ متفرقة، تتخللها علاقات معقدة ومواقف متناقضة، مما يجعل من الصعب الوصول إلى توافق أو حلول جماعية للقضايا العالمية. ومثل هذا النظام يزيد من حالة عدم الاستقرار ويخلق بيئة دولية تتسم بعدم اليقين، حيث من الممكن أن تشتعل الصراعات في مناطق مختلفة بسبب تضارب المصالح وعدم وجود آليات فعالة للوساطة أو التنسيق بين القوى الكبرى.